جئتك من كل منافي العمر / أحمد دراوشة

"جئتُكِ من كل منافي العمر" يقول مظفّر النوّاب، ويستطرد "أنام على نفسي من تعبي"، واصفًا ما آل إليه من حالٍ، أو قل، ما أحلناه إليه، قادمًا إلى العاصمة اللبنانيّة، بيروت، من العاصمة السوريّة، دمشق، حيث نسي ذاكرته هناك، ووزنه، أيضًا، بعدما تم

 جئتك من كل منافي العمر / أحمد دراوشة

'جئتُكِ من كل منافي العمر' يقول مظفّر النوّاب، ويستطرد 'أنام على نفسي من تعبي'، واصفًا ما آل إليه من حالٍ، أو قل، ما أحلناه إليه، قادمًا إلى العاصمة اللبنانيّة، بيروت، من العاصمة السوريّة، دمشق، حيث نسي ذاكرته هناك، ووزنه، أيضًا، بعدما تمكّن الألزهايمر من ثنيّات عقله، حسبما أظهرت صورة يتيمة، انتشرت كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي للشاعر، لحظة دخوله بيروت.

كنتُ، ولا زلت، أؤمن بأن للنوّاب قدرةً خاصّة على استشراف المستقبل، فها هو، قد ترك الشام كما ذكرها في قصيدة له يومًا، يلهو يزيد فيها ثملًا، والعالم يتحضّر لمعركة في حلب:

أتيت الشام

أحمل قرط بغداد السبيّة

بين أيدي الفرس والغلمان،

مجروحًا على فرس من النسبِ

قصدت المسجد الأمويّ

لم أعثر على أحدٍ من العرب،

فقلت أرى يزيد،

لعله ندم على قتل الحسين

وجدته ثملًا

وجيش الروم في حلبِ.
 

وهناك، أي في الشام، كما في بغداد، رفض النوّاب المنحدر من بني هاشم، وتحديدًا من نسل الإمام موسى الكاظم، المنتمي لأسرة ميسورة متنفذّة في العلوم وثيرة الفنون، وتملك ما تملك من حظوة سياسيّة في العراق، أي تكريم أو منحة من أي حكومة عربيّة، فلطالما اعتبر التكريم 'إقامة جبريّة'، كما قال هو نفسه للرئيس الجزائري، الهواري بومدين، حين عرض عليه الإقامة في الجزائر، مفضلًا الاشتباك مع عامّة الناس، في الشوارع والمقاهي والسجون، في الوطن المحتلّ والمنافي القسريّة القريبة-البعيدة.

رغم نزق الشباب الذي سيطر على قصائده، الظاهر جليًا في بيتين من قصيدة عبد الله الإرهابيّ: 'أحبّك يا عبد الله لنفسك غاضِب /  وعلى نفسك غاضب' يبدو النوّاب طفوليًا بريئًا، تأخذه الحماسة إلى غير ما يهوى، حين أعلن دعمه لإسقاط نظام الرئيس العراقيّ الراحل، صدّام حسين، حتى لو كان بقيادة أميركيّة، لكنّ النوّاب، الذي لا بُسلِم عقله لأحد، ولا يُسلِمهُ عقله إلا لما يهوى، مبادئه، إن رآى رأيًا، ورآى في الغدِ رأيًا أحسن منه، لأنه، في رياحه السيّئة، يعتمد قلبَه، لم يكابِر وعاد عنه، إذ إنه لا يحكّم رأيه رجاء أحد أو خشيةً منه، وعلى ذلك سار رافضًا العودة إلى عراق نوري المالكي 'حتّى يتخلّص العراق من الاحتلال'، وعلى ذلك سار، أيضًا، حين رفض عرضًا من المالكي، ذاته، بجواز سفر ديبلوماسي، يجوب، من خلاله، صاحب 'وتريّات ليليّة' العالم.

لم يحاب النوّاب النظام السوري رغم إقامته في دمشق، فلم يظهر على تلفزيونه إلا مرّة واحدة، حين توفّي الرئيس السوري حافظ الأسد، ورفض، أيضًا، عرضًا من أحد المقربيّن من الأسد الإبن، بمنحه الجنسيّة السوريّة، معتبرًا ذلك إهانة للعراق، حتّى أنه ظهر في العام 2004 شاتمًا الأمن السوريّ الذي غيّر مكان مهرجان تضامني مع ياسر عرفات، قبيل انطلاقته بعدّة ساعات ما سبّب التباسًا للجمهور وتلاشيًا في الحضور.

استشراف الوضع الراهن

كما أسلفت في بداية النصّ، لصاحب 'في القدس عروس عروبتكم' مقدرة كبيرة على استشراف المتسقبل، ليس مستقبله فحسب، إنما مستقبل الأمّة العربيّة، الذي يعمّ خرابه المدوّن في قصيدته أرجاء أقطارها الواسعة 'سيكون خرابًا / سيكون خرابًا / سيكون خرابًا / هذي الأمّة لا بد لها أن تأخذ درسًا في التخريب'؛ وكثيرًا ما بكى صاحب 'وتريّات ليليّة' حال الأمة قبل أن يراه قائلًا 'أيهذا الدم العربيّ لماذا هُدرت / وواجبُك العسكريّ فلسطينُ' ليعود إلى أمله، رغم القتل والنار والبارود والفوضى والخراب، معتمدًا قلبَه، آمرًا ناهيًا: 'رفرفري راية الحق / ردّي الشجاعة للدهر / تستيقظ الفلكات / وتعطي نبوءتها القاصمة / اجمعي أمّة الحزنِ واستئمنيها المفاتيحَ / دهرًا فدهرًا / فمهما بدت للوراء / تسير بها النكبات / هي الأمّة القادمة' مبرّرًا أن 'الأساطيل والقمع شيئ يكمّل شيئًا'.

استشرف النوّاب الأمة ونصحها، ثم حزم أمتعة الرحيل، أمد الله لنا في عمره، 'لم يبق لي من صحب قافلتي سوى ظلّي/ وأخشى أن يفارقني/ وإن بقي القليل/ هل كان عدلًا أن يطول بي السُّرى/ وتظلُّ تنأى أيها الوطن الرحيل/ كأن قصدي المستحيل'.

التعليقات