11/04/2023 - 19:36

كيف نستعيد انتباهنا كما كان في التسعينات؟

تعدّ الإشعارات إحدى المصادر الرئيسيّة للتشتيت، فهذه الأصوات تسحبك من عالمك، وتحاول شدّك لتتفحّص رسائلك القصيرة أو بريد الإلكترونيّ أو تطبيقات المراسلة المهنيّة، ونظرًا لأنّ أدمغتنا مصمّمة تطوّريًّا للاهتمام بالأمور الجديدة، يكاد يكون من المستحيل تجاهل هذه التنبيهات

كيف نستعيد انتباهنا كما كان في التسعينات؟

(Getty)

تابعت غلوريا مارك، أستاذة علم المعلومات في جامعة كاليفورنيا بمدينة إيرفين، في عام 2004 سبل قضاء العاملين في التخصّصات القائمة على المعرفة أيّامهم العاديّة في المكتب، وسجّلت الملاحظات باستخدام ساعة توقيت في كلّ مرّة بدّلوا فيها المهامّ من جهاز الكمبيوتر وكلّ مرّة انتقلوا فيها بين جداول البيانات وصفحات الويب المختلفة مرارًا وتكرارًا، ووجدت أنّ متوسّط انتباه الناس كان قبل التبديل دقيقتان ونصف. وعندما أعادت التجربة في عام 2012، انخفض متوسّط الوقت الّذي يقضيه موظّفو المكاتب في تنفيذ المهمّات المطلوبة منهم إلى 75 ثانية، وهو آخذ بالانخفاض من ذلك الوقت.

وفي كتابها الجديد «سعة الانتباه: طريقة فعّالة لاستعادة التوازن والسعادة والإنتاجيّة» كتبت الدكتورة مارك: «صارت قدرتنا على الانتباه أقلّ مع استخدامنا لأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكيّة، أقلّ بشكل جنونيّ، حيث نقضي الآن حوالي 47 ثانية على أيّ شاشة في المتوسّط».

ويعرف أيّ شخص حاول الدراسة لامتحان أو كتابة تقرير أو قراءة كتاب مدى صعوبة التركيز على مهمّة واحدة لوقت طويل؛ ويميل الناس عادة لإلقاء اليوم على الأجهزة الرقميّة في هذه المشاكل. الإنترنت كلّيّ المعرفة، وصارت هواتفنا قادرة على كلّ شيء، وصارت شبكات الإنترنت تتنافس على انتباهنا، وتدمّر تركيزنا في الآن نفسه. وحتّى عندما نحاول التركيز، نجد أنّنا غير قادرين على ذلك، وتأخذ أعيننا بالشرود، وأفكارنا بالانجراف.

ولحسن الحظّ، توجد عدّة طرق تساعدك على استعادة السيطرة على انتباهك، ولا تتطلّب منك الاستغناء عن التكنولوجيا تمامًا، إلّا أنّها تتطلّب منك ضبط النفس، وقليل من التنبيهات المدروسة.

أوّلًا، لنفهم ما الّذي يشتّت الانتباه

تعدّ الإشعارات أحد المصادر الرئيسيّة للتشتيت، فهذه الأصوات تسحبك من عالمك، وتحاول شدّك لتتفحّص رسائلك القصيرة أو بريد الإلكترونيّ أو تطبيقات المراسلة المهنيّة، ونظرًا لأنّ أدمغتنا مصمّمة تطوّريًّا للاهتمام بالأمور الجديدة، يكاد يكون من المستحيل تجاهل هذه التنبيهات، وإذا حاولت ذلك، فمن المحتمل أن يزيد من معدّلات القلق لديك.

قام علماء النفس في إحدى الدراسات الماكرة باستدراج بعض مستخدمي الهواتف الذكيّة المعتدلين، وبعض مدمني الهواتف الذكيّة إلى المختبر، مع إخبارهم بأنّهم سيخضعون لتجربة أخرى، ووضع العلماء أجهزة مراقبة موصّلة بالجلد على المشاركين، لقياس مستويات الإثارة لديهم، وأخذوا هواتفهم منهم، وأخبروها بأن تؤثّر على نتائج البحث. بعدها، بدأ العلماء بإرسال الرسائل النصّيّة إلى بعض المشاركين، حيث كانت هواتفهم قريبة منهم بما يكفي ليسمعوا إشعاراتها، ولكنّها بعيدة بما يكفي لتمنعهم من تفحّصها.

ارتفعت مستويات الإثارة لدى المشاركين عندما رنت هواتفهم، وقال لاري روزين، أستاذ علم النفس الفخريّ بجامعة ولاية كاليفورنيا وأحد مؤلّفي الدراسة: «شعروا أنّهم بحاجة إلى الإجابة على الرسالة، أو على الأقلّ معرفة هويّة المرسل، ولم يتمكّنوا من ذلك، وهو ما سبّب لهم القلق».

يعدّ إيقاف/إلغاء الإشارات طريقة فعّالة لتقليل عوامل التشتيت، وهي بالفعل نصيحة قديمة جديدة، إلّا أنّها لن تحلّ المشكلة من جذروها، حيث وجدت الدكتورة مارك في بحثها ودراستها لموظّفي المكاتب أنّ المشتّتات الخارجيّة تمثّل فقط نصف حالات انقطاع التركيز لدى الموظّفين، وأنّ نصفها الآخر كان يأتي بدافع داخليّ لتبديل المهامّ؛ والأمر الأكثر إثارة للاهتمام، حسب ملاحظة مارك، مع انخفاض الانقطاعات والمشتّتات الخارجيّة، تزيد المقاطعات الداخليّة الذاتيّة، وأضافت «ندخل في دورة انتباه قصيرة، وإذا لم يقاطعنا أيّ شيء خارجيّ، فإنّنا ننزع إلى مقاطعة أنفسنا».

ويفترض الدكتور روزين أنّ نزعتنا للمقاطعة الذاتيّة سبّبها الإجهاد. تشير الأبحاث إلى أنّ الاستخدام الكثيف للهواتف الذكيّة يرتبط بمستويات أعلى من الكورتيزول وعلامات الإجهاد الأخرى، ويمكن أن يؤدّي القلق المتزايد إلى محفّزات عقليّة تدعونا لتفحّص رسائلنا القصيرة أو حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعيّ، حتّى بدون إشعارات، ويقول الدكتور روزين إنّه حتّى عند غياب الإشعارات، «يحصل الناس على إشارة داخليّة قويّة من نظام القلق لديهم تقول لهم: «أوه، يا إلهي، يجب أن أتحقّق من ذلك! وهذا ما يفعلونه».

وفقًا للدكتورة مارك، فنحن أيضًا نحمل هواتفنا؛ لأنّنا نحتاج إلى استراحة. أدمغتنا غير قادرة ببساطة على التركيز لفترات طويلة من الزمن. يستهلك الحفاظ على الانتباه ومقاومة الانحرافات الموارد المعرفيّة، ونحن بحاجة إلى تجديدها بشكل دوريّ لاستعادة التركيز. لا توجد معادلة لحساب عدد فترات الراحة الّتي تحتاجها يوميًّا، لكنّ الدكتورة مارك تقول إنّ الطبيعيّ أن ينحسر التركيز ويتدفّق، وأردفت «لا يمكن أن نبقي انتباهنا مشحوذًا لفترات طويلة، بالطريقة نفسها الّتي لا يستطيع بها الشخص رفع الأثقال طوال اليوم».

ومع التأكيد على فائدة المشي أو التأمّل لمدّة 10 دقائق، فلا خطأ أيضًا في تصفّح مواقع التواصل الاجتماعيّ أو لعب كاندي كرش لإعادة شحن المقدرة على التركيز بين المهامّ؛ وتنشأ المشكلة عندما تصبح فترات الراحة أطول أو أكثر ممّا كنت تنوي، وهنا يأتي دورك حساب الوقت والتحكّم في أفعالك.

خذ استراحة تكنولوجيّة موقوتة

أوصى الدكتور روزين لزيادة مدى انتباهك بتوظيف ما يسمّيه «الاستراحة التكنولوجيّة»: قبل أن تضطرّ إلى التركيز على مهمّة ما، خذ دقيقة أو دقيقتين لفتح جميع تطبيقاتك المفضّلة، ثمّ اضبط مؤقّتًا لمدّة 15 دقيقة، واجعل هاتفك صامتًا، ثمّ اقلبه، وعند انتهاء المؤقّت، خذ دقيقة أو دقيقتين للتحقّق من هاتفك مرّة أخرى. كرّر هذه الدورة ثلاث أو أربع مرّات قبل أخذ استراحة أطول من عملك.

والهدف من هذه التقنيّة زيادة الفترة بين فترات الراحة، والوصول إلى لحظات تركيز تمتدّ لـ 20 دقيقة أو 30 دقيقة، وحتّى 45 دقيقة، وأشار الدكتور روزين إلى المرء يعرف أنّه مستعدّ للتركيز لفترات أطول مع انتهاء المؤقّت مؤذّنًا بوقت الاستراحة، ولكنّه يجد نفسه يريد الاستمرار في إنجاز المهمّة بدلًا من الإمساك بالهاتف.

لا تنجح الاستراحة التكنولوجيّة في أماكن العمل، ولكن يمكنك استخدامها في أيّ وقت ترغب فيه أن تستغلّ الوقت الاستغلال الأمثل، وقد نصح الدكتور روزن بتنفيذها في أثناء العشاء، خاصّة إذا كنت تواجه مشكلة مع أبنائك المراهقين حول استخدامهم للهواتف الذكيّة على طاولة الأكل.

ثمّة إستراتيجيّة أخرى توصي بها الدكتورة مارك وهي زيادة الوعي الذاتيّ باستخدام للتكنولوجيا. عندما يكون لديك رغبة في فتح إنستغرام، على سبيل المثال، اسأل نفسك عن السبب: هل تشعر بالإرهاق، وتحتاج إلى استراحة؟ هل سيساعد هذا على استعادة راحتك؟ وإذا كانت الإجابة نعم، افتح التطبيق. وتحقّق بعدها بدقائق ما إذا كان التطبيق ما يزال يمنحك القيمة نفسها. وإذا كانت الإجابة هذه المرّة بلا، فلا تمسك الهاتف، وعد إلى عملك.

ليست الدكتور مارك ولا الدكتور روزين من المعجبين بمحاولة التخلّص التامّ من الهاتف أو استخدام برنامج لحجب مواقع ويب معيّنة، إذ يعود الناس حتمًا إلى عاداتهم القديمة عندما يتمكّنون من الوصول إليها مرّة أخرى، ولا يحسنون ضبط النفس.

جرّب القراءة العميقة (على الورق)

يمكن أن تساعدك الاستراحات التكنولوجيّة والوعي الذاتيّ في التحكّم في الرغبة في القفز من شاشة إلى أخرى، لكنّ ماريان وولف، الأستاذة المقيمة في جامعة كاليفورنيا بكلّيّة الدراسات العليا للتعليم والمعلومات في لوس أنجلوس، قالت إنّه حتّى عندما نقوم بذلك، فنحن تقرأ شاشة واحدة فقط، ولا نتعامل معها بعمق، وذلك لأنّ الشاشات مصمّمة لتجعلنا نقرأ بسرعة كبيرة، وللقراءة المسحيّة وللتمرير، ونتيجة لذلك، فإنّنا لا نولي النصّ اهتمامنا الكامل، ونكون أكثر استعدادًا لتفويت المعلومات. وأضافت: «الفكرة من وجود الشاشة هي تبديل المعلومات عليها وتحديثها باستمرار، وهي قائمة على وجود عقليّة نفسيّة تدفع المستخدم للانتقال من بداية الصفحة إلى نهايتها في أسرع وقت ممكن».

نميل نحن طبيعيًّا إلى قراءة الموادّ المطبوعة أبطأ، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنّنا عرضة للعودة وللتحقّق مرّة أخرى ممّا قرأناه للتوّ، ويفسح هذا الوقت الإضافيّ المجال لعمليّات عقليّة معقّدة مثل التحليل النقديّ، والاستدلال، والاستنتاج، والتعاطف. ولسوء الحظّ، فإنّ مجرّد طباعة مقال أو اختيار كتاب ورقيّ بدلًا من كيندل لن يضمن لك أن تصبح فجأة قارئًا أكثر تفاعلًا، حيث تتكيّف أدمغتنا مع القراءة بأسلوب الوسيط الّذي نستخدمه في أغلب الأحيان، ومن المحتمل أنّك تقضي وقتًا أطول في القراءة على الشاشة أكثر ممّا تقضيه على الورق. تشرح الدكتورة إنّه ونتيجة لذلك، من المحتمل أنّنا نقرأ المطبوعات اليوم بالطريقة نفسها الّتي نقرأ فيها الملفّات على الشاشة، وأضافت: «فقد الكثير من الناس قدرتهم على الانغماس في أنفسهم... صار لدينا نفاد صبر معرفيّ مع القراءة».

وللعودة إلى ممارسة ما تسمّيه الدكتورة وولف «القراءة العميقة»، حاول تخصيص 20 دقيقة يوميًّا على الأقلّ لقراءة كتاب مطبوع، وهو ما يتبنّى فكرة الدكتورة مارك والدكتور روزين لمحاربة المشتّتات. ابدأ بقراءة كتاب تريد قراءته من أجل المتعة، وضع المؤقّت على 20 دقيقة، وضع هاتفك على وضع الصامت، واقرأ ببطء متعمّدًا. لا تسمع للإحباط بالتسلّل إليك إذا لم تستوعب القراءة في الحال، إذ حتّى وعندما جرّبت الدكتورة وولف هذه الطريقة، استغرق الأمر منها أسبوعين قبل استمتاعها بالتجربة وانغماسها فيها.

حتّى لو لم تكن قارئًا نهمًا، يمكن أن يساعدك التمرين على استعادة القدرة على التركيز بعمق على ما تفعله، وتقول الدكتورة مارك: «أنت مسؤول عن سلوكيّاتك، ويكون الإنسان قويًّا بقدر ما يمكنه التحكّم في قدرته على التركيز».

التعليقات