الحريات لا تتجزّأ يا محمّد عسّاف

إن تحرير شعبنا الفلسطينيّ ووطننا من الاحتلال الإسرائيليّ هو مشروع وطنيّ حُر يشمل ويدمج في طيّاته تحريرًا فكريًا ومجتمعيًا، خاصة تحريرنا من عاداتنا وتقاليدنا القمعيّة والمُضطهِدة، كما يشمل أيضًا تحريرنا من العقول والنّفسيات، التي لا زالت تلقي علينا بفكرها السلطويّ الذكوريّ، وتحرير المرأة الفلسطينيّة لتصل إلى الصفوف الأولى في مشروع التّحرير الوطنيّ (كما الاجتماعيّ والفكريّ). تحرير الوطن لا ينفصل عن تحرير النّساء ومجموعات أخرى مُضطهدة في مجتمعنا، لكن ربما محمد عسّاف، نجمنا الذي أحببناه ودعمناه وفرح فوزه ونجاحه كان فرحنا جميعًا، على وجه التّحديد النساء مننا، غير واعٍ لذلك أو أنه يؤمن بمشروعٍ تحرّريٍّ مختلفٍ.

كيف ممكن أن نطالب بالحرية وإنهاء الاحتلال، لنعيش أحرارًا ولنحظى بحياة كريمة، بينما نحن نقمع ونكبت ونحرم غيرنا، فكيف للحريات أن تتجزّأ، وكيف لها أن تتحقق إن لم تكن نهج حياتنا الدّاخليّ.

تصريحات محمد عساف بما يخص غناء اخته وعمل خطيبته السّابقة، تصريحات لها تبعيات وتأثيرات عقيمة جديّة، فمحمد عساف فنان فلسطينيّ له شعبيّة واسعة وأفكاره تتغلل وتؤثر في نفوس أبناء مجتمعنا، الذين يرونه قدوة يُحتذى بها ونهج يُتبَع، وهذا ما يميزه عن رجال رائدين وناجحين آخرين في المجتمع، خرجوا ليتثقفوا وليدرسوا وليتقدموا في حياتهم، ليبقوا رجعيّين بأفكارهم وأسلوب حياتهم الذي تحيطه النّساء.

قسم كبير من الرّجال، ومن بينهم عساف نجحوا أن يخرجوا من السّجن والحياة المغلقة، لكن لم تنجح عقولهم بالخروج من السّجن المجتمعيّ الذين اخترناه نحن وأسميناه 'عادات وتقاليد'، فهم غير مستعدين لتبني نهج المساواة الأساسيّ البسيط، ولا التأقلم مع فكرة حق الإنسان المُستقل في اختيار المصير والتّعبير عن الذّات، والتي هي لنا بالفطرة وليست دخيلة كما يختار البعض أن يراها. وعلى هذا، فهم يرسخون معتقدات ظالمة ومجحفة لئلا يفقدوا نفوذهم وسيادتهم وسيطرتهم علينا نحن، النّساء، وعلى الحيز العام ككل.

عسّاف الذي قفز بجرأته، ودعم والدته، عن جدران وأبواب معبر رفح الكبيرة، ليتمكّنَ من الوصول إلى النّجوميّة ولينال الحرية، يقف اليوم حاجزًا أمام نساء مُجتمعه ومحاولاتهن للقفز عن الحواجز العاليّة والضخمة، التي بناها مجتمعنا، بدلًا من أن يكون مصدر دعم وإلهام لهن، وبدلًا من أن يقوم بكسر الشّرعيّة لهذه السّيطرة الخانقة. لكن يبدو أن عسّاف لا يربط أن الاحتلال الإسرائيلي وحصار غزّة والاحتلال المجتمعيّ هما عبارة عن سجنان، علينا التّحرر منهما، الاثنين معًا.

ولنعود قليلًا إلى فنّ شعبنا العربيّ، والفلسطينيّ خاصة، لنرى ونسمع نساء كثيرات عظيمات مبدعات نجحن باجتياح السّاحة الفنّيّة العربيّة والفلسطينيّة، منهن جداتنا اللاتي غنيين أغاني الثّورة والفولكلور الفلسطينيّ، ومنهن نساء جلس بجانبهن وغنى معهن عسّاف، مثل إصالة ودلال أبو آمنة، لكن البعض منا مريح له أن يعمل ويتعاون ويدعم النساء القويات، الحرات والنّاجحات، ويفرح لنجاحهن ويرى بهن مثال وقدوة، طالما هنّ بعيدات ودون أن تقترب الحرية للقريبات منهم. على عسّاف، أيضًا، أن يدخل في المرات القادمة إلى قاعات حفلاته، ويتمعن في جمهوره بجدية، ليكتشف أن الكثير الكثير من معجبيه هن نساء، وبفضلهن، استطاع أن يحرز نجاحه وتقدمه هذا، فربما يجد بينهن نساء وفتيات استطعن أن ينتصروا بحربهن للخروج لحضور حفلته لأجله!

نحن في مرحلة جديّة من النّضال العريق، الذي نخوضه للحصول على حقوقنا ولكسر المعايير السّلطويّة، ومجتمعنا في مرحلة جديّة، أيضًا، بالعودة إلى الوراء وإلى عادات وتقاليد كانت تميز أيّام الجاهليّة، فنحن يا عسّاف بحاجة إلى رجال أقوياء ليكونوا شركاءَيكين معنا في مشروعنا النّضاليّ العادل، والتّحرريّ، لننتصر يومًا ما ونصل إلى حفلات التّحرير، التي فيها تصدح فيها أصوات نساء شعبك العظيمات، وتعلو المسارح والشّاشات، وتملأ الوزارات والمؤسّسات لتعمل لصالح بناء مجتمع حر بكافة المفاهيم، الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والفنّيّة.

لا أنتظر اعتذار وتراجع عسّاف عما قاله، فهذا هو وهذا واقعنا خلاله نقابل ونتعامل مع الكثير مثله، لكن عليه أن يتذكر أن اخته وغيرها من النّساء حوله هنّ مصدر الدّعم والتّشجيع الدّائم له، وعليه أن يتفاخر بهن وأن يقف معهن نحو محاربة الظلم والاستبداد.

*ناشطة اجتماعيّة ونسويّة

>>  عودة لملف يوم المرأة