21/04/2018 - 20:08

ريم بنّا الصوفيّة... في طلب مَدَدٍ جديد

ريم بنّا الصوفيّة... في طلب مَدَدٍ جديد

نور صوفيّ | wildsidestudio

 

أحبّكَ حبّينِ حبَّ الهوى *** وحبٌّ لأنَّكَ أهلٌ لذاكَ

فأمّا الذي هوَ حبُّ الهوى *** فشغلي بذكرِكَ عمَّنْ سواكَ

وأمّا الذي أنتَ أهلٌ لَهُ *** فكشفُكَ لي الحجبَ حتّى أراكَ

 

لا أظنّ أنّنا نستطيع قراءة هذه الأبيات بصوت موحّد، لأنّ منّا مَنْ سيسمعها بأداء أمّ كلثوم، ومَنْ ستذكّره بأصوات فرق الإنشاد الصوفيّ المغربيّة والأندلسيّة، مثل فرقة "ابن عربي". لكن، لأنّني سمعتها أوّل مرّة بصوت ريم بنّا، فلا يمكنني تخيّلها بشكل سابق؛ كأنّ أبيات رابعة العدويّة هذه تشكّلت من جديد، في قالب مختلف عمّا كنت أعرف في "وإنْ تمنّيتُ شيئًا *** فأنتَ كلّ التمنـّـــي" للحلّاج.

 

حبّ وثورة

قدّمت ريم في ألبومها "تجلّيات الوجد والثورة" (2013) مجموعة من الأغاني التي ارتكزت على قصائد صوفيّة، لابن عربي، وابن الفارض، ورابعة العدويّة، بالإضافة إلى قصائد أخرى متنوّعة لبدر شاكر السياب، ومحمود درويش، وغيرهما. وكان أكثر ما يلفت في هذا الألبوم أنّها قدّمت القصائد بألحان وتقسيمات جديدة، عربيّة وغربيّة، لم نعهدها في قصائد حفظناها في مدارسنا عن ظهر قلب، مثل "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ" (السياب)، لنجد أنفسنا وكأنّنا نسمعها للمرّة الأولى، ونردّدها كما لم تعتد آذاننا عليها.

 

 

نشهد في هذا الألبوم ربطًا واضحًا بين الثورة، والمقاومة، والحبّ الصوفيّ. فالصوفيّة، كما عرفناها منذ الصغر، تشتمل على زهد في طلب المحبوب، تغنيك عن الدنيا وعمّا سواها. لهذا، أعتقد أنّ صدور الألبوم بموسيقاه المختلفة، بالتزامن مع صدور النسخة العربيّة من "قواعد العشق الأربعون" (2012) لإليف شافاق، أسّسا لشكل جديد عربيّ للأغاني الصوفيّة، على الرغم من محدوديّته.

 

كُسِرَ القالب

لاحظت الفرق شريحة من المهتمّين بالإنتاج الصوفيّ العربيّ، ولا سيّما بعد أن بدأ مغنّون وفرق معاصرون يؤدّونها بشكل مختلف، بعيدًا عن احتكار شيوخ الصوفيّة والفرق التراثيّة لها، أو الأسماء المعروفة، مثل مارسيل خليفة، وفادية الحاجّ، وفيروز. كُسِرَ القالب بشكل ما، فبرزت أسماء جديدة، وتحديدًا تلك التي ظهرت مع برنامج "قواعد العشق للعارفين، وللسائرين، وللمحبّين، وللواصلين"(2014 – 2017)، ومنهم زجزاج ورشا ناجح، ثمّ أحدث الإصدارات مع حسن الشافعي وهاني عادل، هذا الشهر، بتقديمهم لــقصيدة ابن الفارض، "قلبي يحدّثني".

 

 

اقترن الأداء الجديد بمرحلة تجديديّة عمّت الوطن العربيّ في مرحلة ما بعد الثورات العربيّة، حاول فيها الشباب صياغة وعي مغايرين في مختلف المجالات. ويمكن أن نَعُدّ هذا الإنتاج الصوفيّ شكلًا من التجديد، الذي كما ارتبط برواية إليف شافاق، ارتبط، أيضًا، بنشوء سياقات تتغنّى بالصوفيّة، وتعبّر عنها بكونها تمرّدًا، وذلك في مختلف المراكز العربيّة[1]. لكنّ السؤال وقف عند سبب الالتفات إلى هذا الإنتاج، مع أنّ القصائد هي ذاتها التي قُدّمت وأُلقيت منذ مئات السنين.

 

سناريوهات التلقّي

الحسّ الصوفيّ ليس جديدًا، وكسر القالب التقليديّ في أداء "زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيّرًا"، أو في "شمسُ الهوى في النفوسِ لاحتْ"، يعني أنّ ثمّة ضرورة ألحّت في طلب "مَدَدٍ" جديد. وفي حوارات حول هذا التوجّه وجمهوره، الذي التفت إليه في إطار التفات عامّ لأشكال "الفنّ البديل"، بالتزامن مع تردّي الفنّ الشعبيّ، كانت عدّة سيناريوهات لافتة:

تحوّل جزء من الجيل العربيّ الجديد إلى هذه القصائد مجدّدًا لمعناها الشكليّ والسطحيّ، وجماليّات كلماتها، ودلالة عمقها الواضحة، دون الغوص في فهم عمق الحسّ الصوفيّ الذي تقدّمه؛ وكأنّه كلام جميل في قوالب حديثة، فلم يعد بيت مثل: "الحبُّ أشهى إليَّ ممّا يقولُهُ العارفُ اللبيبُ" مرتبطًا بالـ "هو"، بل أصبح يرنّ بسلاسة في أذن المستمع، فيفسّره حسبما يحتاج، دون عناية كبيرة بمضمونه ودلالاته.

أو أنّ جزءًا من جيل الربيع العربيّ أصبح تيّارًا ما بعد إسلاميّ، بحث بعد الثورات عن أغانٍ تحمل مضمونًا دينيًّا غير مقترن بالمنظومة الدينيّة التي أرّقته، واحتاج أداءً شبابيًّا بمضمون غنيّ، وكأنّ هذه الأغاني شكلّت بديلًا لرداءة المشهد.

 

 

هذا الشكل الجديد الذي سمعه عديدون، جعلنا نلبس الدرويش الجميل سلاسل في أعناقنا، ونحلم بزيارة قونية طويلًا. هذا المشهد أصبح حالة ملاحظة في المراكز العربيّة، وعبر عوالم الاتّصال الاجتماعيّ؛ فهل هي فعلًا مرحلة صوفيّة جديدة؟ أم أنّها موجة تأثّر سطحيّ ارتبطت بالاستهلاكيّة في مرحلة ما؟

 

صوفيّة التحرّر

الفرضيّات السابقة لها معنًى بسيط، كان واضحًا في تقديم ريم للألبوم: الصوفيّة لم تعد مهربًا من الحياة الدنيا كما كانت لمئات السنين، ولم تعد انقطاعًا يختاره الفرد لترك المتع؛ بل إنّها تسير يدًا بيد مع المقاومة ومع حقّ الشعوب في التحرّر.

ليس الجديد تقديم ريم للألبوم بموازاة إطلاق أغنية "سقاني الغرام" لـ "مشروع مصري - Egyptian Project"، خلال الشهر نفسه، كانون الثاني (يناير) 2013، لتكون ظاهرة عربيّة منتشرة على نطاق معيّن. بل إنّ حالة الدمج بين زهد الصوفيّ والشباب المنخرط في الفعل الثوريّ اليوميّ، أصبح هو المدرك "لأثر الفراشة لا يُرى، أثر الفراشة لا يزول"، وربطها بـ "فأدرْ لحاظَكَ في محاسنِ وجهِهِ *** تلقى جميعَ الحسنِ فيهِ مُصَوَّرا".

 

 

حتّى بعد ألبومها هذا، الذي لم يركّز عليه الإعلام إثر صدوره، ربّما لعدم إدراكه أهمّيّته، إلّا أنّها الآن، وفي نيسان (أبريل) 2018، وبعد وفاتها، تصدر آخر ألبوماتها بعنوان "صوت المقاومة"، عن مركز يبوس الثقافيّ، لتؤكّد لنا مرّة أخرى أنّ "الحرّ" ما بين الأنذال مخنوق يُصعب صياحو... كي الطير ما بين الأوحال جات ضربتو في جناحو".

 

.....................

 

[1] نذكر مثلًا، مقهى "رومي" ومقهى "ساقية الدروايش" في عمّان، والثاني تحديدًا، ملتقى ثقافي ترتاده فئة تعبّر عن نفسها بكونها مختلفة ومتمرّدة. ويُشار إلى أنّ المقاهي هذه، وغيرها، نشأ بعد عام 2012، وهذا مع ضآلة نسبة الصوفيّين في الأردنّ، مقارنة مع مصر ودول شمال أفريقيا مثلًا.

 

 

مجد حمد

 

طالبة ماجستير في الأدب المقارن بمعهد الدوحة للدراسات العليا. حاصلة على البكالوريوس في الإعلام من جامعة بيرزيت. مهتمّة بالأبحاث والنصوص التي تجمع النظريّات من مختلف التخصّصات؛ تأثيراتها في المجتمع وتفاعله معها، ولا سيّما الدراسات المرتبطة بالمدن وفهم الحيّز والفضاء.

 

 

 

التعليقات