01/06/2020 - 14:05

بو كلثوم: أنا خليط من القرآن وأندرسون باك والموالد

بو كلثوم: أنا خليط من القرآن وأندرسون باك والموالد

بو كلثوم

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

حتّى في أكثر أغانيه تعبيرًا عن صوته الفرديّ، وفي أكثرها وضوحًا لما يُطلّ عليه من منظاره الشخصيّ، تصبح أغنية بو كلثوم، بين ليلة وضحاها، أغنيتنا جميعًا. بصوت معدنيّ وصلب، لكنّه لا يخلو من الخدوش والانكسارات، يغنّي منير الّذي أطلق على نفسه اسم بو كلثوم، بعد أن أسرته أمّ كلثوم بصوتها منذ أن كان طفلًا، فوجد في هذا الاسم صلة وصل بينها والشاعر الجاهليّ عمرو بن كلثوم. بو كلثوم الّذي وُلد ونشأ في حارات الشام، سيكبر ويصبح لاجئًا، فتُضاف هذه التجربة إلى تجارب حياتيّة كثيرة يستقي منها أغانيه، في ما ستفتح مسألة اللجوء، عنده، مناظير ذات عدسات واسعة يرى من خلالها العالم وأوروبّا وسوريا ومجتمعه ونفسه.

لا يختلف هذا الاتّساع الإنسانيّ النقديّ، الّذي سنتعرّفه في هذه المقابلة، عن ذاك الّذي كوّن شخصيّته الموسيقيّة المركّبة من القرآن والراب والموالد والفانك، الّتي مهما ترامت جنباتها، فسيجد بو كلثوم بينها صوته الخاصّ، الّذي يكره المهادنة والتزويق، فيسبّ حين يشعر بحاجة إلى السباب، ويستعير المعاني حين يكون باب الشعر مفتوحًا، ويغضب حين لا يفيد شيئًا غير الغضب.

أنا شخصيًّا، فُتنت بنصوص أغانيه في الدرجة الأولى، وبأغنيته كوحدة بين لحنه ونصّه وصوته؛ فكان لنا في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة حوار هاتفيّ معه، من مدينة إقامته أمستردام.

 

فُسْحَة: ذلك التيمّن الّذي قادك إلى اسم "بو كلثوم"، سيحيد بك بعيدًا إلى الهيب هوب؛ فكيف إذن تتماشى ذائقتك السمعيّة الموروثة مع إنتاجك؟

بو كلثوم: كلّنا عبارة عن مزيج أنتجته الأشياء الّتي أثّرت فينا، الفنّيّة والموسيقيّة، والحياتيّة أيضًا. وأرى أنّ لا أحد يمكنه أن يفرض أيّ نوع من السيطرة على هذا المزيج، كما يعتقد؛ فالمسألة رهن المرحلة والمتغيّرات والبيئة المركّبة. ثمّ إنّها متغيّرات مستمرّة؛ أنا مثلًا مررت بتجارب موسيقيّة مختلفة، وما قدّمته من أغانٍ في السابق يختلف كثيرًا عن الحاضر. أنا أذهب إلى حيث يأخذني تيّار التجربة؛ فلا أحكم على شكل هذا التغيير بالسلب، لكنّي أحاول مراقبته وتقييمه وتحديد وجهته القادمة.

 

 

فُسْحَة: لكن في هذه المسألة قرارات واعية ...

بو كلثوم: أرى على وجه الدقّة أنّها ردود أفعال وليست أفعالًا، ليست أفعالًا خلقتها؛ لذلك لا أشعر بأنّ العمليّة برمّتها عمليّة واعية مئة بالمئة. أنا لا أفكّر حين أعمل أو أكتب؛ أقول ما تقوله "معدتي"! لست من جماعة المنطق، بل من جماعة الحدس.

 

فُسْحَة: تحمل معظم أغانيك، أو قد نقول الراب عمومًا، أو الأغنية المعتمدة على الكلام الّذي هو أشبه بمونولوج طويل، صفعة أو غضب تجاه أكثر من ثيمة وموضوع. إن طلبت منك أن تختزله في أمر واحد، أو أن تذكر أمرًا تعتبره في هذه الفترة مصبّ غضبك، فما هو؟

بو كلثوم: منذ فترة أشعر بأنّ ما يُخرجني عن طوري أنّنا لا نسأل الأسئلة، لا نفكّر في سؤالها أو نخاف من سؤالها؛ هذا ما يمنعنا من التطوّر على مدار هذه السنين الطويلة، هذا ما يشعرني بالفجوة العميقة بيني والكوكب اللاهث، بينما نقف نحن مكاننا. نحن لم نتعلّم التفكير النقديّ؛ وهذا خطأ فادح، يعيه المرء حين يخرج من عالمه، فيفهم كم أنّ الفجوة كبيرة بين هذا الخارج والمكان الّذي قدم منه.

 

فُسْحَة: لكن ثمّة شعرة قد تفصل بين نقدنا تجاه هذا المكان وحقدنا عليه ...

بو كلثوم: هي فعلًا علاقة حبّ وكراهية. في كثير من الأحيان أشتمنا وفي أحيان أخرى أشتمهم. لقد أتاح لي قدومي إلى أوروبّا، وبسبب الحرّيّة الّتي وجدت نفسي فيها، أن أفكّر في أسئلة لم أفكّر فيها من قبل: مَنْ أنا؟ وماذا أريد بالضبط؟ أسئلة تدعو إجاباتٍ تخصّني أنا؛ إذ إنّك إن طرحت "هناك" قائمة من الأسئلة على جميع الناس، فسيجيبون بنفس الإجابات.

 

فُسْحَة: لديك أغانٍ ذات مزاج غاضب وعنيف، وأخرى تميل إلى الحزن أو الانكسار؛ ما المزاج الأعمّ الّذي تشعر به إنسانيًّا، قبل أن يُترجَم إلى أغنية؟

بو كلثوم: الغضب.

 

فُسْحَة: لماذا؟

بو كلثوم: أنا إنسان سريع الغضب بصورة عامّة، لكن ما تعلّمته معرفة متى عليّ أن أُوقف هذا الغضب. أفكّر في السبب من ورائه، ثمّ أترجمه، ثمّ أحلّله، ثمّ أنتقي منه ما الخطأ وما الصحيح، ثمّ أكتب عنه. أستطيع القول إنّ العمليّة الطاغية على حياتي، تلك الّتي تربط بين المشاعر والكتابة؛ التفكير، السرْح، أنا شخص أسرح كثيرًا بأفكاري، منذ طفولتي.   

 

فُسْحَة: وهل ثمّة ما لا يُكتب؟

بو كلثوم: طبعًا.  

 

فُسْحَة: مثل ماذا؟

بو كلثوم: الكثير من المسائل الشخصيّة؛ فجميع الأغاني الّتي أكتبها اختصار للعديد من القصص الخاصّة بحياتي؛ وذلك لأنّها تنبت منّي، تخرج من داخلي. فأنا لا أعرف كيف أكتب دعاية لبيرسيل! قد أتمكّن من وضع موسيقًى لمنتج تجاريّ، لكنّ الكتابة أمر آخر، تخرج حتمًا من الشعوريّ.

 

 

فُسْحَة: تبحث أنت أو يبحث أحد ما في أغنية "ليل"؛ ماذا تعني هذه الشمس؟

بو كلثوم: قد أعتبر أنّها تعبّر عن مقصدين: الأوّل الشمس الفيزيائيّة الحقيقيّة. كلّ ناظر إلى أوروبّا، أو الخارج، يعتقد أنّه ينظر إلى الجنّة، لكن حين يصل سيجد هذا الغيم الحاجب، حيث يضطرّ معه الناس إلى اجتراع وجبة من فيتامين د. أمّا المقصد الثاني فهو أزمة الهويّة الّتي قد يصطدم بها الشخص. ثمّة أناس لا يتكلّمون الإنجليزيّة، يجدون أنفسهم في أمكنة غريبة، يبحثون عن الحرّيّة، وحين يحصلون عليها يواجهون السؤال: مَنْ نحن؟ هائل عدد المرّات الّتي سألت فيها نفسي: ما مشكلتي؟ مَنْ أنا؟ والوحدة الّتي قد يشعر بها المرء رهيبة، غير طبيعيّة؛ فتقول الأغنية: "إحنا مش تمام، بسّ كيفْنا؟".

 

فُسْحَة: كيف تختلف كتابة الأغنية، الراب خصوصًا، في بلد كسوريا أو خارجها؟

بو كلثوم: ما يهمّني فعلًا في عمليّة الكتابة، ألّا أُولي اهتمامًا لما يُسمّى "رقابة ذاتيّة"، أو للانتقادات الّتي تطلب منّي ألّا أطلق الشتائم في أغانيّ. أنا لا أثق بالناس الّذين لا يسبّون، سأفهم أنّ ثمّة جانبًا مظلمًا فيهم. في أيّام الدراسة كنت أعمل في العطل الصيفيّة، فأتعامل مع جميع الأجيال والفئات ولغاتهم، مع العتّالين وأولاد الشوارع والسوق. ثمّ إنّي شخص يعبّر كثيرًا، وإن لم أفعل أحسّ بالاختناق. صنعنا الموسيقى في سوريا، وتحدّثنا في السياسة في قلبها، على الرغم من أنّهم كانوا يلمّونا من الشوارع لأنّنا نلبس سراويل الباجي، ونظهر مثل عبدة الشيطان أو ما شابه. وإن جئنا على ذكر الدكتاتوريّة فأنا أعتقد أنّ المجتمع كلّه ديكتاتوريّ، حارتي دكتاتوريّة، أبي دكتاتوريّ. لكنّا استخدمنا الاستعارات في الأغاني؛ فحمانا ذلك لأنّ النظام يخاف من العامّة الّتي لن تتلقّى هذه الاستعارات وتفهمها بسهولة. إضافة إلى أنّني لست شخصًا سياسيًّا؛ بمعنى أنّي أؤمن بأنّ أزمتنا أزمة اجتماعيّة قبل أن تكون سياسيّة، أزمة فرد قبل أن تكون أزمة نظام، وما دام الفرد فاسدًا، فسيُعاود إفساد النظام حتّى لو تغيّر. يعنيني النقاش في المواضيع الّتي لا نتحدّث فيها: الدين، والنقد، والجنس، والاختلاف.

 

فُسْحَة: ما الّذي غيّره تغيير المكان؟ وما الّذي أبقى عليه؟

بو كلثوم: لم يتغيّر الجوهر الشخصيّ في العمل الإبداعيّ، أو ربّما أقول الصدق بيني ونفسي: إنّ ما تغيّر ازدياد اليأس والغضب. أصبحت الرؤية أكثر وضوحًا والتجربة أكثر نضوجًا، وضعت أهدافًا لم تكن هناك لأنّي لم أعلم قبلها ماذا أريد بالضبط؛ لأنّ جبالًا من الغائط كانت تثقل كاهلي، وكان عليّ أن أتخلّص منها حتّى يتبلور مشروعي. أتحدّث عن ثقل دينيّ واجتماعيّ ورعب من المجهول، شياطين ولّدتها الصدمة تعلّمت أن أتخلّص منها، لكن بوجودها تعثَّر الفراغ؛ فتعثَّر التفكير. تعاملت للمرّة الأولى مع الفراغ في مخيّمات اللجوء في هولندا. ما قبل ذلك، وعند ولادتك في ذلك الطرف من الكوكب، سيصير لزامًا عليك أن تعمل جاهدًا من أجل صعود السلّم. المجتمع يتراكض ليجد معنًى. ثمّ شاهدت في المخيّمات أناسًا يفقدون عقولهم، بالمعنى الحرفيّ للكلمة. هناك مَنْ هم في سنّي من السوريّين ضربتهم الصدمات والأسئلة؛ ولهذا نحن لا نعيش سنوات مديدة. هذه الأمور تثير اهتمامي أكثر من السياسة المباشرة.

 

فُسْحَة: في عصر من المنافسة الشديدة في الموسيقى، وطرح مساحات أصوات جديدة على الدوام، كيف تبحث أنت عن صوت جديد؟ وهل تعتبر أنّ ثمّة جديدًا أصلًا؟

بو كلثوم: لا أعتقد أنّنا نصل إلى ما هو جديد موسيقيًّا؛ فنحن مجرّد خليط. أنا خليط من القرآن والموالد وأندرسون باك والحضرة والفانك. قد لا ترتبط هذه الأصوات ببعضها لكنّها مرتبطة عندي. ما أفعله إعادة خلق أجزاء من مناطق صوتيّة عديدة. ألبوم "بعبع" عبّر عن قمّة غضبي. والآن، بعد أن انزاحت تلك الجبال، اتّخذت الموسيقى شكل البناء الواعي. الجديد يكمن في الوعي تجاه المواضيع الّتي عليّ التحدّث عنها؛ ليس لأنّي فنّان عظيم، بل لأنّي فعلًا أعتب على عدم طرحها: كالصحّة النفسيّة وتقديس الأهل والشخوص المفرط، ومسائل اجتماعيّة أخرى. في الغالب، نسمع عن الحبّ أو السياسة الّتي أراها رديفًا لكرة القدم. ما مُنعنا من الحديث عنه هو جرح مفتوح نهيج حين يُمَسّ.

 

فُسْحَة: هل تعتقد أنّ الراب العربيّ بخير؟ وهل تشعر بأنّك تشارك مغنّي الراب همًّا؟ هل أنت جزء من هذا المجتمع؟

بو كلثوم: قد أقول أمرًا لم أقله حتّى اللحظة؛ لم أشعر في حياتي بأنّي جزء من مشهد ما. لقد واجهت بعض التجاهل من المشهد الموسيقيّ في فترة معيّنة في بداياتي، لكنّي في كلّ الأحوال أعمل بتركيز عالٍ على مشروعي. ولأنّني دقيق وكماليّ في التفاصيل؛ أجد صعوبة في العمل مع آخرين. قد يرى شخص من الخارج أنّي جزء من هذا المشهد، لكنّي أشعر بوحدة شخصيّة تنطبق على الموسيقى أيضًا. لا بدّ من أن أقول إنّه ليس لديّ أيّ مشكلة مع أيّ موسيقيّ. لكن ثمّة صراعات في بعض البيئات، أعتبرها هدرًا للطاقة الّتي أصرف الكثير منها في الكتابة وصناعة الموسيقى.

 

فُسْحَة: كيف تنظر إلى جمهور الهيب هوب؟ وهل يجلس جمهورك في غرفتك عند عملك في الموسيقى؟

بو كلثوم: ليس من أحد فيها غيري؛ فالأغاني الّتي أكتبها أشبه بمونولوجات. أكتب منذ أكثر من عشر سنوات، لكن لم يكن الجمهور هدفي. وبصراحة، أشعر بأنّ الشهرة عطّلت شيئًا ما. ثمّة شعور بالمسؤوليّة يشتّت الكتابة. لم أعد أشعر بالحرّيّة المطلقة الّتي شعرت بها من قبل، لكنّي أستخدم ذكائي في تخطّي نقصانها.

أرى أنّ السنوات الأخيرة ذهبيّة للراب العربيّ من حيث الجمهور؛ لأنّه يتحوّل بسرعة كبيرة إلى صناعة. سيدمّر ذلك أشياء، وسيطوّر أشياء أخرى. أهمّيّة وجود ردود فعل من الجمهور تجعلني أثق بصحّة كلامي. ما أفكّر فيه في غرفتي، يصير فجأةً مثار اهتمام أو مساحة مشتركة مع آلاف البشر، وأعتبرهم عائلتي البعيدة.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.

 

 

التعليقات