في مديح الْجَدْعَنَة

من فيديو كليب «إِنْ أَنّ» (2021)

 

تحت جدار الفصل الأسمنتيّ الطويل والقبيح، ظهرت مجموعة من الشباب يرتدون ملابس داكنة، ويلوّحون بتحدٍّ بأيديهم. تجمّعوا ليقول الرابر الفلسطينيّ، الّذي صار اسمه على كلّ لسان، «ضبّور»، كلماته.

يأتي ابن التاسعة عشرة من حيّ الطور في القدس؛ كي يرحّب بضيوفه "مَرْحَبْ بيك في أولاد القدس"، ويعلن افتتاح "دكّان الجدعنة"، واستعداده لبيع عصير الجدعنة للجميع عدا "الْهَلْسات".

 

كسب الخيال

بثلاث أغانٍ فقط صار «ضبّور» نجمًا، لا على المستوى الفلسطينيّ فحسب، بل عمّت كلماته أرجاء العالم، فشوهِدَ بعضها على لافتات رُفِعَت في مظاهرات جابت بيروت وإسطنبول وغيرهما من المدن. إحدى اللافتات لم تتضمّن سوى كلمة واحدة مكرّرة "بلجان بلجان" (كلمة بالعبريّة تعني: فوضى)، هكذا، وكأنّها بيان ثوريّ يفهم الجميع مغزاه. ثمّ اشتعلت مواقع التواصل بصورة «ضبّور» في دخلته الشهيرة بفيديو كليب «إِنْ أَنْ» وهو يقول "إِهْدا". بذلك كسب «ضبّور» لا على مستوى الشارع فحسب، بل الخيال أيضًا؛ هذا الخيال الّذي صارت تتردّد في زواياه جملة واحدة، بات الجميع يعرفها جيّدًا: "إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أوانه، وبوم بخّ وطني باعوا ميزانه".

 

 

«ضبّور» شاعر متفوّه صوته واضح كطلقة، وفي الآن ذاته غامض كالسحر. يلعب دوره كفنّان؛ فيصف حالة ممتدّة ومتشعّبة وأكثر عمقًا في القدس، ويتحدّث باسم جيل جديد يمتلك لغته وأدواته وانتماءه.

غنّى «ضبّور» لمحمّد ضيف، القائد العامّ لـ «كتائب القسّام»، ومجّد عمل المقاومة في غزّة، وانتقد مَنْ اعتبرهم خونة، وشرح بشيء من التفصيل تكتيكات المواجهة الّتي يتّبعها شباب القدس، والّتي انتهت في عديد المرّات إلى نصرٍ أعاد الهيمنة على المدينة لأصحابها ومستحقّيها، كان آخرها إجبار جهاز شرطة الاستعمار على إزالة حواجزه من باب العمود في 25 نيسان (أبريل) المنصرم، وتأجيل المحاكمة الخاصّة بقضيّة الشيخ جرّاح، وإلغاء مسيرة الأعلام الاستيطانيّة أو تغيير مسارها مرّات عدّة، وبإسناد من صواريخ المقاومة.

ورغم شهرة «إِنْ أَنّ» أغنيةً رئيسيّة في ألبوم «الجدعنة»، يُسْهِم «الناظر» في شهرتها بإنتاجه لها، وكذلك «شبّ جديد» في ظهوره الخاصّ فيها؛ إلّا أنّنا لا نستطيع النظر إلى هذا الألبوم القصير، إلّا بصفته عملًا متشابكًا يكمّل بعضه بعضًا. فتعاون «ضبّور» مع صانع البيتات «ذَ تشيف» في الأغنيتين الباقيتين (دولاب وضبّور)، أعطى لمحة أشمل لا عن خطاب «ضبّور» ورفاق الجدعنة، بل عن شخصيّة «ضبّور» نفسه.

في جملة وحيدة، يصوّر «ضبّور» نفسه على أنّه "أدرينالين فاقع بشباب بين ضرب الغاز"، مختصِرًا معنى الجدعنة رديفًا للمواجهة في أماكن الاحتكاك؛ مواجهة تستلزم شجاعة ووضوحًا ومباشرة، والأهمّ، جماعة يتحرّك من خلالها الجدعان، وهذا ما يفسّر تحوّله إلى صيغة الجماعة عند تفصيله للحالة "وَلَكْ شوفْنا ياما وْكُلُّه بِصُفّ/ وَلا مَرَّة نْخافْ وَلا مَرَّة وْنُصّ".

 

البلجان

تشتغل الأغنية مرّة واثنتين وألفًا، نعيد منها ونزيد، لا نكتفي، نُدْمِن عليها ونتورّط معها، فتعلق في الدماغ، وتصير حاضرةً أقرب ما يكون إلى الألسنة، فنستخدم كلماتها كلّما سنحت الفرصة، وكأنّها معجم اتّفق الجميع فجأة على استخدامه. هذا الاختراق الّذي حقّقه «ضبّور» ورفاقه يأتي في وصف "البلجان" (الفوضى)، كفعل ثوريّ لا يزال يملك أدواته التنظيميّة ككتلة بشريّة قادرة على التحرّك والانتشار في لحظات، و"حلّ لغز" تعقيدات الحركة والتجمهر في قلب القدس، فكما نعلم، لا يتطلّب الأمر أكثر من "رنّات على نَفْحَة"، و"كلّه بِخُشّ".

هذه الانسيابيّة في ملء فراغات البلدة القديمة ومحيطها، وإعادة إخلائها مجدّدًا، يصفها «ضبّور» تكتيكيًّا "إحنا جنّ بنطلع ما بتشوفناش"، فيتكرّر مشهد تحوّل الفرد إلى جزء من جماعة صلبة، تتمركز وتصمد وتنسحب...

هذه الانسيابيّة في ملء فراغات البلدة القديمة ومحيطها، وإعادة إخلائها مجدّدًا، يصفها «ضبّور» تكتيكيًّا "إحنا جنّ بنطلع ما بتشوفناش"، فيتكرّر مشهد تحوّل الفرد إلى جزء من جماعة صلبة، تتمركز وتصمد وتنسحب، وذلك على طول الأغنية. يزيدها «ضبّور» بأحد أهمّ تكتيكات العمل الّتي اعتمدها "وْلاد القدس" خلال شهر رمضان، وهو اتّخاذ فترة الليل مساحةً للعمل والإرباك "تْخافْ بِاللّيل نِضْويلَكْ عَتْمَة".

إلّا أنّ مديح الجدعنة حاضر دومًا في سياق الردّ على حالة مغايرة يستمرّ «ضبّور» في انتقادها، فمقابل "إِحْنا الْجِدْعان واللّي زَيّْنا قلال"، تحضر جماعة أخرى يصفها بـ "الهلسات"، وهي شتيمة تبدو معتمدة لوصف من يعتبرهم خونة، وهم لا يتورّعون عن "البيع". ينتقدهم «ضبّور» بشدّة في "الْهَلْسِ اللّي باع"، ويزيد «شبّ جديد» النار زيتًا عندما يقول "كُسُّخْت كُلّْ مِنْ باع وِاخْتَفى". هنا نستعيد مشهد دكّان الجدعنة في الفيديو كليب، الّذي أخرجه أحمد زغموري، عندما وقف ضبّور صلبًا لا يرتخي راصدًا الهلسات كرادار، ويفرض عليهم حرمانًا؛ فمنعهم الشراء من دكّانه.

يضع زغموري جهده في تخليد ما نتحدّث عنه هنا، بتصوير الكليب أقرب ما يكون إلى جدار الفصل؛ ما يحيلنا مباشرة إلى أغاني «شبّ جديد» الّذي يسكن كفر عقب، ولا يفصله عن الجدار شيء. يصير الجدار نفسه، بعلوّه ووجوده طيلة الوقت في النصف الأعلى من الشاشة، شخصيّة جديدة حاضرة بثقلها الرهيب كما هو حقيقة، لا رومانسيّة حول الجدار هذه المرّة؛ إنّها الواقعيّة الجديدة بعيون أولاد القدس.

 

«ضبّور» مرتاحًا

في أغنية «ضبّور» يظهر صوت أحدث أعضاء «بْلاتْنُم» مرتاحًا رغم افتتاحيّتها القويّة. هذه الأريحيّة تمازجت مع فْلو الأغنية ببراعة، فجعلت منها مكمّلًا لما سمعناه في «إِنْ أَنّ»، وكانت شارحة كذلك لشخصيّة «ضبّور» شخصًا هادئًا لا يُسْتَفَزّ بسهولة. بهدوء شديد، قرّر شتم "تطبيع الإمارات" بصورة عابرة ومهينة و"كتير مرّات". فعل ذلك قبل أن تحوّل الهبّة الشعبيّة ملايين الدولارات، الّتي صُرِفَت في محاولة تسريع عمليّات التسوية العربيّة، إلى سراب لا طائل منه. كنّا آنذاك قلقين مرتبكين، وكان «ضبّور» ينام ملء جفونه، غير آبه بما تقرّره عنه أبو ظبي، فالقرار مردّه إلى أولاد القدس هذه المرّة، كما كان على الدوام.

لا شكّ في أنّ ظهور ضبّور كان مُرْبِكًا في أوساط عدّة؛ فتًى لا يلتزم بضوابط مجتمعيّة أو بصورة ذهنيّة معمّمة، لما يجب أن يكون عليه الخطاب الداعم للمقاومة. يعبّر عن غضبه بهدوء وشتائم تتكرّر أحيانًا لأكثر من سبع مرّات في الأغنية الواحدة. يتحدّث بيقينيّة عالية دون فلترة للكلام. ربح ثقة الشارع فطالب البعض باعتماد أغانيه «نشيدًا وطنيًّا».

دون قصد، يسهم «ضبّور» في رسم معالم جديدة لكيف نتحدّث عن فلسطين وعن قضيّتها؛ فصار من المستبعد الآن أن نستمع لأوبريت مثل «القدس هترجع لنا» عملًا معبّرًا عن مشاعر الفلسطينيّ نحو القدس، لا أحد يستطيع التعبير عن ذلك اليوم...

نعم، أسرت موسيقى «ضبّور» وكلماته جمهور المستمعين، سواء أولئك الّذين أحبّوا الراب أو لم يحبّوه. كانت الجدعنة تعاونًا مثاليًّا بين كلّ تلك الأسماء، وميزته الكبرى أنّه جاء في الوقت المناسب بالضبط؛ إذ خدمت معركة «سيف القدس» «ضبّور» بشكل غير متوقّع، ويمكن ملاحظة ذلك بحسبة بسيطة لعدّاد المشتركين والمشاهدات على قناة «بْلاتْنُم» على «يوتيوب»، حيث حصدت القناة أكثر من 80 ألف مشترك، في الفترة الواقعة بين 10 أيّار (مايو) ونهاية الشهر؛ 30 ألفًا منهم في الأسبوع الأوّل للمواجهة العسكريّة بين المقاومة وجيش الاحتلال.

دون قصد، يسهم «ضبّور» في رسم معالم جديدة لكيف نتحدّث عن فلسطين وعن قضيّتها؛ فصار من المستبعد الآن أن نستمع لأوبريت مثل «القدس هترجع لنا» عملًا معبّرًا عن مشاعر الفلسطينيّ نحو القدس، لا أحد يستطيع التعبير عن ذلك اليوم، إلّا على طريقة "أولاد قدس/ شموس الغدّ/ السيف والوعد/ الجدعان"؛ كفئة أكثر خصوصيّة ربّما من جماعة "الدود/ الورد"، الّذين قدّمهم لنا «شبّ جديد» قبل نحو عام.

 


إسلام السقّا

 

 

 

كاتب من غزّة.