18/12/2021 - 13:33

الغناء الشعبيّ الفلسطينيّ: سوق عملاقة ومحجوبة

الغناء الشعبيّ الفلسطينيّ: سوق عملاقة ومحجوبة

عرس فلسطينيّ من نهاية القرن التاسع عشر

 

شتاءً، تكاد تختفي حركة الحافلات والسيّارات الّتي تحمل فرق الموسيقى الشعبيّة من حفل إلى آخر، بعد اختتام موسم عملها، فتوضّب معدّاتها بعد شهور متعبة من العروض المتتالية لساعات متأخّرة بشكل يوميّ. مئات الأضواء، أطنان من حديد المسارح، ودونمات من خشب الساحات تٌرَصّ في المخازن، حيث تقضي سباتها الشتويّ، وعشرات الأجساد المرهقة ترتاح من حمل أورغاتها وطبولها وأعوادها وجيتاراتها في حافلات وسيّارات، توصلها إلى منازلها في ساعات ما بعد منتصف الليل، وملايين الشواكل تسكن جيوبًا جديدة بعد إنفاقها في أكبر سوق ثقافيّة في أحياء فلسطين الشعبيّة وأزقّة مدنها وضواحيها.

بعد استراحة وجيزة ستبدأ الفرق بالالتقاء مجدّدًا للتمرّن على أغانٍ جديدة للموسم القادم، وتتجدّد السوق مرّة أخرى في قطاعات التسجيل وبيع الكلمات والألحان الجديدة...

بعد استراحة وجيزة ستبدأ الفرق بالالتقاء مجدّدًا للتمرّن على أغانٍ جديدة للموسم القادم، وتتجدّد السوق مرّة أخرى في قطاعات التسجيل وبيع الكلمات والألحان الجديدة للتسجيلات المستقبليّة؛ لتستكمل هذه السوق جريانها في صالونات البيوت الكيتشيّة لأصحابها الفنّانين، في الأحياء الريفيّة وأزقّة المدن، بعيدًا عن ساحة الفنّ «المرموق» والمؤسّسات الممثّلة له، بعيدًا عن الأخبار والإحصائيّات والمقالات الثقافيّة، بعيدًا عن ألسنة عموم الناس الّذين لا يميّزون مقام البيات عن الصبا أو الحجاز والنهاوند، وبعيدًا، حتّى، عن آلات الموسيقيّين الأكاديميّين الّذين يمثّلون فلسطين في الأعمال الثقافيّة الداخليّة والخارجيّة، وعن قاعات تدريبهم وأوركيستراتهم ومسرحيّاتهم وجلساتهم في المطاعم الشبه الشاميّة في أواسط المدن.

 

ساحة عملاقة

عمّال محطّات البنزين، بائعو السوبرماركتات، ‘أشَرات‘ قاعات السينما، نادلو المطاعم، حرّاس العمارات ومصفّات السيّارات؛ هؤلاء هم مقيمو الحفلات الشعبيّة الّذين تسافر أصواتهم ودقّات آلاتهم عبر مكبّرات الصوت إلى القرى والأحياء المجاورة في الليل، بعد انتهائهم من وظائفهم النهاريّة التنكّريّة. بإيماءة واحدة من المغنّي ينتقلون من العزف على «الدو» إلى «الصول»، ومن أغنية حجازيّة إلى موّال صبا، وفي ثوانٍ، من إيقاع الدبكة الفلسطينيّة إلى ألحان «الجوبي» العراقيّة. إنّهم أسياد حرفتهم، يعزفون آلاتهم بإتقان تامّ وتلقائيّة، ولم تدخل غالبيّتهم قطّ معهدًا موسيقيًّا أو جامعة؛ لم يسافروا إلى أوروبّا لدراسة المقامات وتاريخ الفنّ والمقطوعات الكلاسيكيّة، ويندر أن نجد أيًّا منهم في دوائرنا الثقافيّة التخصّصيّة أو أماكن وجود هذه الدوائر، لا في مؤسّساتها ولا مطاعمها الباهظة وقاعاتها الأوركيستراليّة. إنّهم يعيشون الحياة البوهيميّة على هيئتها العربيّة، النصف - المتحفّظة، الشبه - التقليديّة، ومحافظة على خبرة قرون من التطوّر الموسيقيّ الّذي رسّخ للعرب أعلى الأماكن في تاريخ الموسيقى؛ فمهما تحوّلت الساحة ودخلتها عناصر جديدة، فهي لا تنقطع عن جذورها.

 

الأصول والتحوّلات

المظاهر الّتي نراها في المناسبات مزيج من التراث المحلّيّ والشاميّ القديم، والمرتبط بحياة الفلاحة والريف، بالإضافة إلى الفنّ العربيّ الأحدث منه، الّذي وصل عصره الذهبيّ مع ظهور الراديو ومن ثَمّ التلفاز، قبيل هبوطه بالتدريج منذ ذلك الزمن حتّى أدنى مستوياته اليوم، فمهما تدخل آلات موسيقيّة جديدة إلى الجوقة، تبقَ الأغاني والرقص المرافق لها، والفقرات المتتالية في المناسبات، مرتكزة على آلة اليرغول، الّتي اسْتُبْدِلَ بها بشكل ساحق الأورج الكهربائيّ الّذي يحاكي أصوات الآلات الموسيقيّة جميعها، بما في ذلك الآلات الإيقاعيّة؛ فيندر اليوم أن يكون اليرغول ارتكاز حفل الزفاف، إلّا أنّ الكثير من الفرق تتضمّن عازف يرغول وناي يترأّس فقرة أو اثنتين، لكن يبقى ثانويًّا وراء الأورج الّذي يتحوّل من يرغول إلى كمان إلى أيٍّ كان، إنّما بصوت أقلّ أصالة وأكثر إزعاجًا.

أصبح من الممكن في يومنا هذا إقامة حفل عملاق بمجرّد وجود أورج ومغنّ، ما سبّب حالة انقطاع كبيرة عن التراث، وقد نتج عن ذلك دخول ألحان جديدة (...) وشكل جديد للمناسبات...

بعد أن صارت الأدوات التكنولوجيّة شيئًا متاحًا باعتياد في فلسطين، تنوّع شكل هذه المناسبات ليتضمّن تشكيلة من الأساليب المنتسبة إلى مناطق مختلفة من الوطن العربيّ، مثل «دبكة العرب» السوريّة واللبنانيّة، و«الجوبي» العراقيّة، و«الصعيدي» المصريّ، بالإضافة إلى «الزمر/ المجوِز»، و«ظريف الطول»، وأغاني الحنّاء الفلسطينيّة وغيرها.

حتّى نهاية التسعينات، كان الفنّ الفلسطينيّ الشعبيّ لا يزال في حالة أصيلة وأوّليّة، على انعزال عن الساحة الفنّيّة العربيّة عمومًا، بسبب الاستعمار، كما كان عاملًا في الثورة على اختلاف مراحلها، ولم يكن حرفة استعراضيّة هدفها التعولم، مثل عامّة الساحة العربيّة اليوم. وكانت المناسبات الاجتماعيّة، إن لم تكن في إطار ثوريّ أيضًا، تقام بالآلات الموسيقيّة التراثيّة، مثل العود واليرغول والطبلة.

أمّا دخول التكنولوجيا حقل الموسيقى الفلسطينيّ، من نوع الإيقاع الرقميّ أو حتّى الكمان والتأثيرات الرقميّة الّتي استبدلت الفرق الموسيقيّة في الأستوديو وخارجه، فقد ابتدأ تقريبًا مع الألفيّة الجديدة، وتفاقم بالتدريج حتّى أصبح من الممكن في يومنا هذا إقامة حفل عملاق بمجرّد وجود أورج ومغنّ، ما سبّب حالة انقطاع كبيرة عن التراث، وقد نتج عن ذلك دخول ألحان جديدة، أقرب إلى الغربيّة من سابقتها، وشكل جديد للمناسبات. وكان العامل المكمّل لهذا الانقطاع التدنّي الثقافيّ لدى مختلف الشعوب العربيّة، جرّاء الأوضاع الاقتصاديّة - الاجتماعيّة المتأزّمة، والاكتظاظ السكّانيّ، والتمدّن المادّيّ المذعن، إلخ... فنرى أنّ الإمكانيّات والأدوات الموسيقيّة موجودة، بالإضافة إلى المعرفة التقنيّة بين أيادي الأجيال الجديدة، غير المثقّفة ثقافةً متينة وعميقة، والمكبوتة أيضًا؛ لنشهد ولادة فنّ يحلّق في الهواء، مقتاد بالمكاسب المادّيّة على حساب الجودة الفنّيّة، وبطلب الجمهور على حساب الجودة الفنّيّة وخبرة الفنّان.

 

غياب الانتظام والتقليد

إلّا أنّ هذا التحوّل لم ينبع من العدم، بل إنّ الفنّ كثيرًا ما كان برجوازيًّا – والموسيقى بالتحديد – وظهور هذا الفنّ الممسوخ أراه ناتجًا عن سيطرة عموميّة على وسائل إنتاج الموسيقى، إنّما دون الخبرة والثقافة الكافية للترقّي بها. ولعلّ أبرز مثال المهرجانات الشعبيّة المصريّة، الّتي كانت أقرب إلى الشعب من الكلاسيكيّات؛ فهي تعبّر عن قضاياهم ومشاكلهم بطريقة مباشرة وبسيطة، وتمثّل الطاقة الشبابيّة المأسورة بين الحدود الّتي رسمها الاستعمار قديمًا، وأقفلها السياسيّون منذ جيل مضى، وقد شاهدنا انجراف موجة عملاقة من الجماهير وراء هذا الفنّ؛ لأنّه شعبيّ بالدرجة الأولى، ولأسباب اجتماعيّة ونفسيّة كثيرة، كبيرة منها وصغيرة؛ فهذا الفنّ هو الفنّ الوحيد الّذي يستقبل الإنسان العموميّ بطبيعته، ولا يرفضه أو يتطلّب منه أن يكون كذا أو كذا. وقد رأينا ذات الموجة تصعد بعد بضع سنين في فلسطين، حيث انتقل الشباب من متابعة الشعبيّات المصريّة إلى الشعبيّات المحلّيّة المتمثّلة في «الدحّيّة» البدويّة بحلّتها الحديثة، بالإضافة إلى الأغاني العصريّة الجذّابة الّتي تتعاقب في بقعة الضوء لفترات قصيرة.

نتساءل أمام كلّ هذا إن كان الفنّ الحداثيّ سينتصر على ذلك الأصيل وتنتهي حقبة الطرب إلى الأبد، أم أنّ هذا الفنّ سيحقّق مستوًى أكثر رقيًّا...

ويصطحب هذا التغيير في الموسيقى تغييرًا في شكل المناسبات؛ فنجد الأضواء الملوّنة الوامضة ودخان المسرح و‘الفلاش‘ المتقطّع، والرقص الفوضويّ بدل الدبكة الشعبيّة المنتظمة؛ كلٌّ يوحي إلى النوادي الليليّة في ثقافات عالميّة، إنّما بطريقة نصف - مكتملة، غير متحرّرة وعبثيّة؛ فهي تقليد بحت غير ناجح وزائف لثقافة الحفلات الغربيّة، حيث إنّ هذه الأخيرة ترتكز على الفردانيّة، والتمدّن المادّيّ، والانسلاخ عن الطبيعة والمجتمع، وأحيانًا المخدّرات؛ أي العكس التامّ لمجتمعاتنا.

نتساءل أمام كلّ هذا إن كان الفنّ الحداثيّ سينتصر على ذلك الأصيل وتنتهي حقبة الطرب إلى الأبد، أم أنّ هذا الفنّ سيحقّق مستوًى أكثر رقيًّا بجهود الفنّانين المتجدّدين، أو يفشل فشلًا تامًّا وتعود السلطة للجودة والجدارة.

ربّما سيستمرّ التعايش بين الاثنين، أو تتفوّق الحداثة على الأصالة، وردًّا على ذلك، تقوم القيم والشرائح التقليديّة بردّ فعل متعصّب تجاه الفنّ المسلوخ.

 


 

آثر البرغوثي

 

 

 

كاتب ومترجم فلسطينيّ من بلدة كوبر قضاء رام الله، عمل في كتابة المقالات الثقافيّة والاجتماعيّة والنقديّة، وتدقيق مشاريع التخرّج الجامعيّة، وترجمات أدبيّة شعريّة ونثريّة، وكذلك المسرح وحواشي الأفلام.

 

 

التعليقات