06/02/2023 - 17:31

فلسطينيّات يغنّين رسائلهنّ... سوسيولوجيا الأغنية الشعبيّة

فلسطينيّات يغنّين رسائلهنّ... سوسيولوجيا الأغنية الشعبيّة

عرس في بلدة عرابة، ثمانينات القرن الماضي.

 

تمهيد

لا يمرّ على النساء الفلسطينيّات حدث اجتماعيّ وسياسيّ إلّا روينه بأغانٍ شعبيّة، وثّقت ظواهر وأحداث مراحل تاريخيّة مختلفة في فلسطين، بما تضمّنته من تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة، بدءًا من فترة الحكم العثمانيّ مرورًا بالاستعمار البريطانيّ حتّى الاستعمار الصهيونيّ؛ مخلّفات بذلك موروثًا ثقافيًّا، صار موضع اهتمام الباحثين في اللغة والتراث، والتاريخ الشفويّ، والأنثروبولوجيا الثقافيّة، والأدب الشعبيّ، وعلم الاجتماع. وهذا الأخير هو المنظور الّذي تَقْرَأ من خلاله هذه المقالة الأغنية الشعبيّة، انطلاقًا من الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ للمجتمع الفلسطينيّ وثقافته الّتي أُنْتِجت فيها.

 

البنية الاجتماعيّة والسياسيّة في الأغنية التراثيّة

تتطلّب عمليّة قراءة الأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة، من منظور سوسيولوجيّ، أن نحلّل محتواها ومضمونها، عبر الربط ما بين دلالات الأغنية، الظاهرة منها والكامنة، والبنية الاجتماعيّة الّتي أنتجتها. في ضوء طابعها الثقافيّ والسياسيّ الّذي انعكس على النصّ الغنائيّ، هذا يعني البحث في ما وراء الكلمات والحفر في المضامين الكامنة والوعي برمزيّتها، من خلال تفكيك البنية التكوينيّة للنصّ الغنائيّ، الّذي نراه في كثير من أمثلة الأغنية الشعبيّة يأخذ صفة الخطاب الاجتماعيّ والوطنيّ.

من خلال بعض النماذج من الأغنية الشعبيّة - وهي ليست سوى انتقاء ضئيل من كومة هذا الموروث – يمكن التفكير بالنصّ الغنائيّ بوصفه نصًّا اجتماعيًّا، له أبعاده الثقافيّة والسياسيّة والقيميّة والعاطفيّة والوطنيّة والهويّاتيّة، الّتي تشكّلت بطابع أبرز تحوّلات المجتمع الفلسطينيّ. نبدأ بمرحلة الحكم العثمانيّ، تحديدًا فترة ’السفر برلك‘ (1914 – 1918)، المصطلح الّذي أُطْلِق على حالة النفير العامّ في الحرب العالميّة الأولى، بعد أن أعلن السلطان العثمانيّ الوقوف مع طرف ألمانيا والنمسا. بموجب ذلك، أصدر ’فرمانًا‘ فرض بموجبه التجنيد الإلزاميّ على رعايا الدولة العثمانيّة (أي البلاد الّتي تقع تحت وصاية الحكم العثمانيّ ومنها فلسطين، وكلّ بلاد الشام)، وصار الالتحاق بالتجنيد العسكريّ إجباريًّا على كلّ من سنّه بين (15-45) عامًا.

وثّقت النساء الفلسطينيّات التأثير الاجتماعيّ والنفسيّ والاقتصاديّ لـ ’السفر برلك‘ في كثير من أغانيهنّ؛ ففي وداع الرجل الملتحق بالحرب غنّين: "هي يمّا ودعيني قبل ما أمشي... ما تدري بعثراتي وأنا أمشي". هذه الأغنية الّتي عكست حالة الحزن والخوف الشديد، بعد أن صُوِّرت في مخيّلتهم هذه المأساة بأنّها ذهاب إلى مصير مجهول في طريق مبهمة أحداثه ونهايته.

وفي الآثار الاجتماعيّة والاقتصاديّة لهذه المرحلة، غنّت النساء عن الدور الاجتماعيّ الّذي ساهمن فيه لإعفاء أزواجهنّ أو أولادهنّ من التجنيد الإجباريّ؛ بِرهن ما يملكن من الذهب إلى حين تسديد المبلغ المقدّر دفعه، مقابل الإعفاء من محاصيل العنب وغيره؛ إذ كان يستحيل توفّر المبلغ الباهظ مع الجميع، ودفعه نقدًا في ظلّ الحالة الاقتصاديّة للناس آنذاك. وفي كلمات تلك الأغنية:

يلّي ساقوا وِلفك ع سفر... ع سفر برلك ساقوا إلك ولفك

شو بتنفعك غوايش الذهب... والذهب عمره ما بضلّلّك

قومي لعند الخواجا قبل ما تبيعي العنب وينفق...

قومي لعند الخواجا قبل ما الدركي يحرقلك قلبك

 

 

في حالة رفض الوضع السوسيوسياسيّ، غنّت الفلسطينيّات عن ظاهرة ’الفراريّة‘، حين حاول الكثير من الرجال التهرّب من التجنيد الإلزاميّ. في الأغنية الشعبيّة ’عالأوف مشعل‘، سردت النساء قصّة الشابّ الفلسطينيّ ’مشعل‘ الّذي فرّ من قانون التجنيد، إلى أن عثر عليه عسكريّ تركيّ قاده إلى جبهة الحرب، رغم أنّ ’مشعل‘ عرض عليه مبلغًا ماليًّا  - مجيديّة - مقابل إعفائه، إلّا أنّه أخذ المال وقبض عليه وسط بكاء النساء والأطفال حوله. في نصّ الأغنية:

عالأوف مشعل أوف مشعلاني... ماني تبلّيته، هو اللّي تبلّاني

شفت واحد واقف جنب البركة... حاكيته عربي جاوبني بالتركي

نسوان بتحكي والأطفال بتبكي... مع مين نحكي تركي أو ألماني

شفت القانون جاي من بعيد... حبّيت أهرب ما طلع بإيدي

قلّي الوثيقة ناولته مجيدي... لطش المجيدي وقلّي أنت فراري

عالأوف مشعل أوف مشعلاني... مع السلامة يا ربعي وخلّاني

 

بعد ذلك، اختفى مشعل ولم يعُد، فكما ذكرنا أنّ ’السفر برلك‘ قاد الغالبيّة إلى مصير مجهول، وموت شبه محتوم في أرض مجهولة، فغنّت حبيبته - كما ذكرت السرديّة - أغنية شعبيّة وصفت الحياة اليوميّة  للفلّاحين في قرية مشعل، اختتمتها بــــ: "نذرن عليّ مشعل لما يعود... ل زيّن الدار وأحلّي الجيران"، لتصير الأغنية تعبيرًا عن حالة فقْد النساء لأزواجهنّ وغيابهم. ومشعل الاسم الرمزيّ لكلّ شابّ اختفى في الحرب ولم يعُد أو يُعرَف مصيره.

 

 

الأغنية ضدّ الاستعمار البريطانيّ

بالانتقال إلى مرحلة الاستعمار البريطانيّ، برزت الكثير من الأغاني الشعبيّة والثوريّة الّتي وثّقت الكثير من الأحداث ووقائع مواجهات الفلسطينيّين مع الإنجليز، أبرزها أغنية «طلّت البارودة»، الّتي عكست القيم الوطنيّة، ووصفت العلاقة ما بين الفلسطينيّ والفلسطينيّ، والفلسطينيّ والآخر المُستَعْمِرْ، والعلاقة بالوطن والأرض الّتي قُدِّمَت الأرواح والدماء في سبيلها، وعلاقة الفلسطينيّ بسلاحه – البارودة - ذي الرمزيّة العالية لدى الثوّار الفلسطينيّين، الّذين بذلوا الغالي والنفيس مقابل امتلاكها، وكأنّهم يعرّفون ذاتهم الوطنيّة من خلالها، بما تختزله من معاني استمراريّة المقاومة والثبات، وأدوات استرداد الأرض.

السبع، شابّ فلسطينيّ له من اسمه النصيب، يرد في الكثير من المصادر أنّه كان يخرج مع الثوّار في المعارك والمواجهات ضدّ الإنجليز لحماية القرى الفلسطينيّة، وكلّما عاد من الميدان، ردّد أهل القرية "طلّ السبع... السبع طلّ"، إلى أن جاء ذلك اليوم الّذي عاد فيه الخيل بلا خيّاله، وشاهدت زوجة مشعل البارودة فقط، فعلمت أنّه استشهد، فرثته في كلمات الأغنية، ومنها:

مع السلامة وين رايح ... مع السلامة يا مِسك فايح

مع السلامة وين بدّك... لأقعد على دربك... ورُدّك

طلّت البارودة... والسبع ما طلّ... يا بُوز البارودة من دمه مُبتلّ

 

أصبحت هذه الأغنية رمزًا لكلّ من يستشهد في مواجهاته مع المستعمِرْ، والسبع هو رمزيّة البطل في كلّ قصّة مشابهة. ما زالت الأغنية حاضرة إلى الآن، فهي أوّل أغنية استدعتها مخيّلتنا الوطنيّة لرثاء الشهيد المطارَد إبراهيم النابلسي، الّذي اغتاله الاحتلال الإسرائيليّ في نابلس قبل أشهر، لا سيّما أنّه ترك وصيّة مسجّلة أرسلها إلى رفاقه عند محاصرته قبل استشهاده، قال فيها: "حافظوا على الوطن من بعدي، وبوصّيكم وصيّة، بحياة عرضكم ما حد يترك البارودة...". أضف إلى ذلك، أنّ النابلسي كان قد تحدّى الاستعمار الصهيونيّ بالظهور العلنيّ المسلّح بالبارودة في تشييعه لرفاقه الشهداء، رغم أنّه مطارَد.

في جانب آخر، ثمّة أغنيات عديدة، رغم حمولتها الوطنيّة والثوريّة إلّا أنّها كشفت عن المشكلات الاجتماعيّة والعادات والتقاليد الّتي كانت سائدة حينذاك، من أمثلة ذلك أغنية «حيّد عن الجيشِ»، الّتي نقلت حوارًا دار بين ’حسناء وغبيشي‘، في إحدى ليالي زمن الاستعمار البريطانيّ، الّتي كشفت مناسبتها عن التعصّب القبليّ، والنزعة الطبقيّة، والمعايير الاجتماعيّة في الزواج.

تذكر الرواية[1] أنّ غبيشي شابّ بدويّ أردنيّ – غالبًا - من قبيلة صغيرة، تقدّم مرّات عدّة للزواج من حبيبته حسناء، و"هي ابنة لقبيلة قويّة وكبيرة وعريقة في الأصالة والمناعة والشرف"[2]، إلّا أنّ والدها رفض مرارًا بسبب الفوارق الطبقيّة، فقرّرا الزواج والهروب؛ ممّا دفع قبيلتها إلى الاستعانة بقائد قوّات إمارة شرق الأردنّ غلوب باشا لإحضار غبيشي. وفي إحدى الليالي، لاحظت حسناء قرب العسكر الإنجليزيّ منهما، فأيقظت غبيشي، وطلبت منه أن يبتعد في حوارٍ مضامينه عاطفيّة وسياسيّة معًا، صوّر لنا حبّهما وشجاعة غبيشي، في كلمات الأغنية الّتي نقلها الشاعر الفلسطينيّ سعود الأسدي، ومنها:

حسناء: حيِّد عن الجيشي يا غبيشي... قبل الحناطير ما يطلُّوا

غبيشي: واحَيِّد عن الجيشي لويشي...  ولْ يِقحم غبيشي يا ذلُّو

حسناء: يا ويلي عليك ويلي حينَك... مالك قبيلة حتّى تعينكْ

وإن صابك إشي وحياة عينَك... لقُصِّ الجديلة وشعري حِلُّو

غبيشي: وينِك يا حسنا وقت العَركِة ودموم سايلِة مثل البِركِة

وإن قتلوني إوعِك تبكي وغبيشي ارحمنوا حَسَنلُوا

حسناء: لوِ إنَّك جبان ما حبّيتك... تقهَر العدوانْ يُعمُر بيتَك

باكِرْ في البلدانْ يفقعْ صيتك... تسمع العربان وتجلُّو تجلُّو

 

 

الملولة: تشفير رسائل السجناء 

مرورًا على زمن الاستعمار الإسرائيليّ المستمرّ إلى يومنا هذا، ما زال المجتمع الفلسطينيّ يُنتج أغانيه الثوريّة والوطنيّة بشكل مكثّف، وما زالت نماذج الأغاني السابقة تتردّد إلى يومنا هذا، وتسقط على الكثير من الأحداث الراهنة. لكن بالعودة إلى فترة ما بعد النكبة تحديدًا، أبرز ما نذكره من الأغاني الشعبيّة للنساء ترويدة «يا طالعين الجبل» الآتية كلماتها:

يا طالعين عين للل الجبل... يا موللل الموقدين النار

بين للل يامان يامان... عين للل هنا يا روح

ما بدّي منكي لللكم خلعة ولا لالالا لا بدّي ملبوس

ما بدّي منكي لللكم خلعة ولا لالالالا بدّي زنّار

إلّا غزال للللللذي جوين اللللكم محبوس

إلّا غزال للللللذي جوّين اللللكم ما يدوم

 

غُنّيت هذه الأغنية بطريقة الملولة أو المولالاة، وهي قالب غنائيّ يشفّر كلمات الأغنية عن طريق إضافة حرف اللام المتكرّر، للتمويه وإخفاء المعنى الكامن في الكلمات، حتّى لا يفهمه المُستَعْمر الّذي قد يفهم بعضًا من العربيّة؛ فكانت النساء الفلسطينيّات يردّدن هذه الكلمات عند زيارة أسراهنّ المعتقلين في سجون الاستعمار الإسرائيليّ، لإخبارهم بقرب عمليّة تحريرهم على أيدي الفدائيّين. وعليه، وثّقت لنا هذه الأغنية ظاهرة الفدائيّين وحركة العمل الفدائيّ والمقاومة في التسعينات، ودور النساء في ذلك.

نلاحظ في كلِّ النماذج السابقة، الحضور الكثيف لتاريخ الاستعمار المتتالي في فلسطين، وارتباطها المباشر بظواهر المجتمع وقضاياه الاجتماعيّة والإنسانيّة المختلفة؛ ممّا يمكّننا من وصف النصّ الغنائيّ بالنصّ الاجتماعيّ، الّذي احتوى جملة من المعايير الاجتماعيّة والقيميّة والثقافيّة، والمعتقدات والتقاليد المجتمعيّة، إضافة إلى بروز مدى الوعي الاجتماعيّ في الغناء الشعبيّ والتعريف الكامن للذات الجمعيّة الوطنيّة.

 

في وظائف الأغنية الشعبيّة

تُعَدّ الأغنية الشعبيّة أداة مقاومة ثقافيّة، ونضالًا فنّيًّا تحرّريًّا في سياق الوجود الاجتماعيّ واستحقاقه كما يجب أن يكون. التزمت بالقضيّة الوطنيّة وترجمة واقع الأوساط الشعبيّة، وعبّرت عن ظروف المجتمع المختلفة عبر ارتباطها بنشاط الحياة الثوريّة الفلسطينيّة؛ فكانت وما زالت تؤدّي دورًا داخل إطارها الاجتماعيّ والسياسيّ والتاريخيّ. بالنظر إلى المدلولات الاجتماعيّة والسياسيّة فيها، ودلالاتها التعبيريّة عن هويّة المجتمع وثقافته، والوسط الشعبيّ الّذي سادت فيه.

 يمكننا أن نلخّص أبرز وظائف تلك الأغنيات، سواء بالماضي أو الحاضر بـ: أوّلًا، دورها المقاوم؛ إذ إنّها تعكس في فعل التوثيق فعلًا مقاومًا بيّن القيم الوطنيّة الجمعيّة، وكشف عن تاريخ النضال في وصف الواقع الشعبيّ. وثانيًا، دورها العاطفيّ أو النفسيّ في التفريغ أو التعبير عن المشاعر الشعبيّة. يتجلّى ذلك بالنظر إلى تلقائيّة هذا الفنّ وبساطته، وارتباطه بمواقف حقيقيّة عبّرت فيها النساء عن انفعالات الفرد والجماعة، ومشاعر الحزن والوداع والفراق والشوق والقهر، أضف إلى ذلك أنّها استُخدِمت وتُستخدَم وسيلة للتعبئة الوجدانيّة الوطنيّة للجماهير الفلسطينيّة.

 

 

ثالثًا، على الصعيد الاجتماعيّ، في الماضي، هناك نسبة كبيرة من نماذج هذا اللون، استُخدِمت وسيلة اتّصال لتمرير رسائل وأخبار للسجناء في المعتقلات، أو للثوّار والفدائيّين المطاردين، كما كان لها الدور البارز في بناء الهويّة الوطنيّة، وتشكيل حالة ثوريّة واعية، وذات جمعيّة مقاومة. أمّا في الحاضر، فلها الدور في تشكيل ذاكرة تفصيليّة وشاملة عن القضيّة الفلسطينيّة للأجيال المختلفة؛ إذ نقلت صور المقاومة وأشكال النضال ووقائع التهجير ومختلف الظواهر السوسيوسياسيّة، كما عكست ضرورة التمسّك بهويّة هذا التاريخ المغنّى، بما يتضمّن من معايير اجتماعيّة وقيميّة، بالإضافة إلى دورها في حراسة التراث والعادات والتقاليد والقيم الاجتماعيّة. هذا الدور الكامن في تداولها وغنائها في مختلف فضاءات التجمّع الاجتماعيّ والشعبيّ، في الأفراح والأتراح، في الأعراس، وطقوس تشييع الشهداء وغيره، وأثر ذلك في تأصيل القيم الوطنيّة.

 

البعد الهويّاتيّ للأغنية الشعبيّة

في استحضار قول درويش: "أنا لغتي، أنا ما قالت الكلمات (...) هذه لغتي ومعجزتي. عصا سحري، حدائق بابلي ومسلتي، وهويّتي الأولى"، تتجلّى العلاقة ما بين معاني الكلمات وتفرّد اللحن وأسلوب الغناء، بهويّة المكان والسياق التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ الّذي أُنْتِجت فيه، وتقاطعات ذلك مع دورها أو وظيفتها السياسيّة والاجتماعيّة في التوعية وتعميق المعرفة، في ظلّ تحدّيات واقع الاستعمار وأجندته.

إنّ فلسطينيّة الكلمة واللحن والقوالب الموسيقيّة، هي ما أعطت الأغنية الشعبيّة بُعدها الهويّاتيّ، بعيدًا عن اسم الفنّان، سواء آلشاعر كان أم الكاتب أم الملحّن؛ إذ إنّ الكثير من الأغاني غير معروف مَنْ قائلها الأوّل، جرى تداولها مع جهل المصدر لأسباب، منها ما تعلّق بالذاكرة والتداول، وصعوبة حفظ كلمات بعض القوالب الغنائيّة ونقلها، ولا سيّما الأغنية المشفّرة، ومنها ما يعود إلى سياسة محاربة الكلمة، ومطاردة كلّ مَنْ يُنتج أدبًا فلسطينيًّا ثوريًّا بالتحديد. هذا ما غلّب الجوانب الوطنيّة والوجدانيّة والأخلاقيّة، والأهداف السياسيّة والاجتماعيّة العمليّة على الجوانب المادّيّة، مثل تحقيق المكانة الاجتماعيّة أو المنفعة الاقتصاديّة.

إضافة إلى جمعيّة هويّة هذا الحقل الثقافيّ أو النوع الفنّيّ، الّذي هو وليد سياق زمانيّ ومكانيّ لمجتمع له ظروفه السياسيّة والاجتماعيّة وتمثّلاته الخاصّة؛ ممّا جعله فنًّا يصعب إضفاء الطابع الفرديّ على إنتاجه، وتجريده من منطق السببيّة أحيانًا؛ بالنظر إلى هذا "الإنتاج الفنّيّ بوصفه تعبيرًا عن أعراف المجموعة وتقاليدها، وليس تعبيرًا ذاتيًّا عن مزاج شخصيّ لفرد؛ فالشخص الفعليّ (أو الأشخاص) الّذين يبدعون هذه القطع الفنّيّة، يمكن النظر إليهم على أنّهم يعبّرون في إنتاجهم عن عقليّة المجموعة أكثر من كونهم يعبّرون عن نوع من (الرؤية) الفرديّة"[3].

بالتالي، لا يمكن اختزال الأغنية الشعبيّة بوصفها لونًا جماليًّا وترفيهيًّا أو ذائقة غنائيّة وموسيقيّة جماعيّة لحظيّة، مقتصرة على ملاءمتها لحوادث الماضي، وفي هذا يكمن العامل الأبرز في جعلها مقاوِمة للضياع والاندثار، ولا سيّما بعد حرص الفلسطينيّات على تداولها في العديد من المناسبات، وقولبتها مع الكثير من أحداث الحياة اليوميّة؛ لتحضر بمختلف الطقوس الاجتماعيّة وفضاءات التعبير.

 

العصرنة وإعادة الإنتاج

في سبيل الحفاظ على الحضور الاجتماعيّ للأغنية الشعبيّة، عَمِلَ العديد من الفنّانين الفلسطينيّين على الحفاظ على هذا التراث والتاريخ الشفويّ، عن طريق إنتاج موادّ بصريّة وسمعيّة عديدة. مثلًا، بصوت الراحلة ريم بنّا تخلّدت أغنية «يا طالعين الجبل» الّتي أعادت إنتاجها الغنائيّ الفنّانة الفلسطينيّة رلى عازر مؤخّرًا، كما عملت الفنّانة سناء موسى في برنامجها «ترويدة» على إحياء الكثير من القوالب الغنائيّة الشعبيّة الّتي غنّتها بصوتها، وكشفت عن العمق التاريخيّ لها؛ ليكون برنامجها مصدرًا للمهتمّين بهذه المعرفة. أمّا المخرج نورس أبو صالح، صاحب رسالة «لن يصنع أفلامنا إلّا نحن»، عمل على تصوير فيديو قصير لـ «ترويدة شمال»، مليء بالرموز والتشبيهات الّتي صوّرت واقع الاستعمار الإسرائيليّ. وأدّت الفنّانة دلال أبو آمنة دورًا بارزًا في استحضار التراث الغنائيّ القديم في مختلف المدن الفلسطينيّة، برفقة النساء الفلسطينيّات في برنامجها «مشوار ستّي»، ولا ننسى أخيرًا الدور المهمّ للفرق الشعبيّة المختلفة. 

لا تزال الأغنية الشعبيّة تفرض نفسها في الحضور والثبات في الأذهان، ولا سيّما أنّ الثورة مستمرّة، والمقاومة جدوى مستمرّة، ولعلّ المثال الأبرز على ذلك هو الحالة الجماهيريّة الّتي شكّلتها أغنية الحاجّة حليمة «شدّوا بعضكم يا أهل فلسطين».

 

 

تلك الفلسطينيّة المهجَّرة من القدس إلى مخيّم الزرقاء في الأردنّ، ساهمت في تشكيل حالة من التعبئة الوطنيّة للشعب الفلسطينيّ، تبعًا للحمولة الوجدانيّة للأغنية وتأثيرها النفسيّ في مشاعر الرفض والمقاومة والوطنيّة والحماس ورفض الخضوع، خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار الحاجات النفسيّة للأفراد والجماعات، في ظلّ الوقائع السياسيّة الراهنة.

إضافة إلى المعاني الّتي يُسقطها هذا اللون الغنائيّ في مخيالهم، ودوره في إحياء القضيّة على الدوام، وتعزيز الهويّة بالتدليل على تاريخ فلسطين الّذي يفوق عمر الاستعمار؛ إذ إنّ عمر فلسطين وهويّتها كامن في الأغنية والثوب والكوفيّة، كما هو في تاريخها. تثبت المقاومة الرمزيّة في هذا الفنّ أنّ الاستعمار عاجز عن اغتيال الصوت والذاكرة، وفي كتابتنا عنه استحضار لأصل الحكاية، وحفر في عمق الواقع، فكما قال درويش: "من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تمامًا"، وفي هذا تعزيز لحقّ الحرّيّة والعودة.

 


إحالات

[1] بالرجوع إلى: القدس العربيّ، "سعود الأسدي يستعين بأذنيه لتصحيح مفردات الأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة "حيّد عن الجيشي" وبنائها، تاريخ النشر: 28\09\2016، تاريخ الدخول: 30\1\2023، عبر: https://www.alquds.co.uk/%E.

[2] المرجع السابق.

[3] ديفيد إنغليز وجون هغسون، محرّران، سوسيولوجيا الفنّ: طرق للرؤية، ترجمة ليلى الموسوي، مراجعة محمّد الجوهري، عالم المعرفة 341، (الكويت: المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، 2007)، ص18.

 


 

إيمان بديوي

 

 

 

كاتبة أردنيّة، دَرَسَتْ الماجستير في «علم الاجتماع» من «معهد الدوحة للدراسات العليا»، مهتمّة بالقراءة السوسيولوجيّة للقضايا المجتمعيّة الراهنة.

 

 

التعليقات