02/05/2024 - 14:48

برلين الكوزموبوليتانيّة... فقط إذا كان الفنّ طيّعًا

برلين الكوزموبوليتانيّة... فقط إذا كان الفنّ طيّعًا

شعار ضدّ شارع سيؤدّي إلى إغلاق عدد من نوادي التكنو البرلينيّة | Getty

 

الفنّانون والموسيقيّون محوريّون لصورة برلين الّتي يجري تسويقها على أنّها مدينة فنّيّة عالميّة ومتنوّعة؛ لذلك من الضروريّ الحفاظ على هذه الصورة؛ لمواصلة الازدهار الاقتصاديّ ومركزيّتها في عالم الفنّ والثقافة. يُعَدّ التسليع جزءًا جوهريًّا من الحفاظ على صورة هذا ’المركز الثقافيّ‘، ولكن كيف وصلت إلى هذه المرحلة؟ ولماذا تُعَدّ مدينة فنّيّة وجاذبة للعديد من الفنّانين من منطقتنا، وكذلك من جميع أنحاء العالم؟

 

تشكّل التنوّع الثقافيّ البرلينيّ

مع سقوط جدار برلين في عام 1989، دخلت ألمانيا مرحلة جديدة، وكان أمامها تحدٍّ كبير وهو الاندماج. كان ثمّة تعدّديّة كبيرة في المدينة، من المهاجرين والعمّال والألمان الشرقيّين. خلال تسعينات القرن العشرين، كانت برلين تحت إدارة «الاتّحاد الديمقراطيّ المسيحيّ» (CDU)، و«ائتلاف الاتّحاد الديمقراطيّ الاجتماعيّ» (SDU)، وكان المقصود من السياسات المعتمدة تحقيق النموّ الاقتصاديّ السريع في فترة قصيرة.

تُجوهِلَت المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة الحقيقيّة في المدينة؛ ما أنتج أزمة أدّت إلى فقدان ثلثَي مجموع وظائف التصنيع في التسعينات، وبلغ معدّل البطالة 20%، في حين وصل معدّل البطالة بين الجيل الثاني من معظم المهاجرين، الّذين جاؤوا في الغالب عمّالًا صناعيّين ذوي ’مهارات منخفضة‘، من أتراك إلى بولنديّين وغيرهم لمشاريع بناء بعد الحرب العالميّة الثانية، وصل إلى 40%[1]. علاوة على ذلك، أدّى هذا التوحيد السريع إلى اعتماد إستراتيجيّة من أعلى إلى أسفل لدمج المهاجرين والألمان أنفسهم، وكانت عمليّة أحاديّة الاتّجاه تعتمد على شروط ألمانيا الغربيّة؛ وهذا أدّى إلى تهميش المهاجرين، إضافة إلى الألمان الشرقيّين من العمليّة ولم يشاركوا فيها. لقد كان متوقّعًا منهم الاندماج[2].

بحلول منتصف التسعينات، بدأت برلين الّتي تعاني الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها بالتركيز على الثقافات الحضريّة ’الفرعيّة‘، باعتبارها واحدة من الفرص التسويقيّة القليلة للمدينة.

حوّلت هذه الأزمة برلين، مع وجود مساحات كبيرة فارغة والتكلفة المعيشيّة المنخفضة مقارنة بباقي المدن الأوروبّيّة، إلى أرض خصبة للثقافات الحضريّة (Urban Cultures) الديناميكيّة، وصعود الثقافات الفرعيّة (Subcultures) الّتي جذبت الاهتمام الدوليّ والفنّانين؛ ففي غضون عقد من الزمن، تطوّرت الثقافات ’الفرعيّة‘ لتصبح واحدة من الحالات القليلة الّتي بإمكانها أن تنعش الاقتصاد في المدينة. علاوة على الإعلام والموسيقى، كانت السياحة تُعَدّ أملًا آخر للنموّ الاقتصاديّ.

بحلول منتصف التسعينات، بدأت برلين الّتي تعاني الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها بالتركيز على الثقافات الحضريّة ’الفرعيّة‘، باعتبارها واحدة من الفرص التسويقيّة القليلة للمدينة. وكان تعدّد الثقافات في البيئة الحضريّة جزءًا مهمًّا من هذه الإستراتيجيّة. بدأت الجهود إلى تصوير برلين وتقديمها مدينة عالميّة (Cosmopolitan) ومع الاحتفاليّة (Festivalization) المتزايدة للسياسة الحضريّة في دمج عناصر محدّدة من ثقافات المهاجرين. بدأ الخطاب العامّ منذ ذلك الوقت بالتمييز بشكل متزايد بين الثقافات ’الجيّدة‘ و’القابلة للاستخدام‘ والثقافات ’السيّئة‘ و’الّتي قد تكون مزعجة‘. وفي هذا السياق تطوّر ’كرنفال الثقافات‘ (Carnival of Cultures) ليصبح رمزًا للإمكانات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمدينة المتعدّدة الثقافات، ولأوّل مرّة، في أيّار (مايو) 1996، أُقيم هذا العرض في الشارع في كرويتسبورغ (Kreuzberg)[3].

 

الكرنفال

لقد كان التنوّع الثقافيّ على وشك إنقاذ العاصمة الألمانيّة الموحّدة، وهو الّذي كان دائمًا يُعارَض. لقد كانت نقطة الدخول إلى الانتعاش الاقتصاديّ، حيث كان ’الغرباء‘ هم الّذين سينقذون الاقتصاد. كان الكرنفال بمنزلة ’ورشة عمل للثقافات‘، وأصبح تمثيلًا ’لعرض سلميّ للتعدّديّة الثقافيّة‘. كان هذا الجوهر المتعدّد الثقافات للكرنفال لا يزال خاضعًا للمفهوم الألمانيّ للتمييز الثقافيّ الواضح. ومن السهل نزع شرعيّة وجهات النظر المعارضة، حيث يُنْظَر إلى أولئك الّذين لا يشاركون على أنّهم أقلّ شأنًا بطريقة أو بأخرى. وهنا نشهد انتقائيّة المشاركة وتمثيل الثقافات المختلفة. على سبيل المثال، تحظى المشاركة المحدودة إلى حدّ ما من جانب ’الأتراك‘ أو ’العرب‘ - أي المسلمين في نظرتهم - باهتمام نقديّ ’في ذلك الوقت‘. لا يُنْظَر إلى هؤلاء وفق مفاهيم ألمانيّة على أنّهم موسيقيّون، بل هم ممثّلون لدينهم أو أمّتهم؛ كونهم تقليديّين للغاية، ويفتقرون إلى ما يتطلّبه الكرنفال من السعادة والحظّ (Happy Go Lucky). هذا النوع من التعدّديّة يخلق تراتبيّة للثقافات، وبحسب أهمّيّتها للمجتمع الألمانيّ في هذه الحالة تُعْطى رتبة أو خانة، والأهمّيّة هنا، اقتصاديّة[4].

إنّ ’كرنفال الثقافات‘ الّذي أُقيم في عام 1996 وما تبعه من سياسات ثقافيّة، يتّبع سياسة ’التثقّف‘ (Culturalization) الّتي تؤدّي إلى تصنيف التنوّع الثقافيّ. هذا يعمل على تفضيل ممارسات معيّنة، بينما تبقى ممارسات أخرى غير مرئيّة. النجاح هذا الّذي نراه ينبع من قدرتها على خدمة مبدأين مهيمنَين للتمثيل العرقيّ والثقافيّ في برلين اليوم؛ الأوّل مبدأ ’استهلاك الثقافات العرقيّة‘ (Consumption of Ethnic Cultures)، والآخر’الفضاء الاندماجيّ‘ (Integrating Space) الّذي يحوّل الثقافة العرقيّة إلى ثقافة اجتماعيّة (Socio-Cultural) للتغطية على المشاكل الاجتماعيّة.

كلّما كان موقع ’صنعة الثقافة‘ أقوى في المجتمع كان لديها القدرة على التحكّم، وترويض احتياجات المستهلكين؛ فتتحوّل إلى أداة تحكّم وتسلّط، بينما تجسّد تصريحات النظام السائد وتوجّهاته...

يتعلّق المبدأ الأوّل بغرابة المهاجرين (Exoticism)، بينما يؤدّي الآخر إلى استخدام الثقافة أداة للأهداف الاجتماعيّة والسياسيّة؛ فالثقافة، من ناحية، مشحونة سياسيًّا بتوقّعات طوباويّة إلى حدّ ما في هذه الحالة، ومن ناحية أخرى، يُخَفَّض تصنيفها رمزيًّا إلى مرتبة ثانويّة أو دنيويّة؛ بحكم استخدامها وسيلة للاندماج في العمل الاجتماعيّ والثقافيّ[5]. والنظرة الثقافيّة هذه مبنيّة على مصلحة الاقتصاد الألمانيّ، وهي فكرة رومانسيّة وغير واقعيّة، غير أنّها لا تكفي لتشمل الاختلافات الموجودة داخل المجتمع الألمانيّ. يصبح التنوّع الثقافيّ الموجود في المدينة أداة لصنّاع القرار والمهيمنين على الحقل الثقافيّ؛ لاستخدامها حسب الحاجة، سياسيًّا، أو اجتماعيًّا، أو اقتصاديًّا. وهذا يحصل الآن في حقل الثقافة والفنّ في ظلّ الإبادة الجماعيّة في قطاع غزّة. كلّما كان موقع ’صنعة الثقافة‘ أقوى في المجتمع كان لديها القدرة على التحكّم، وترويض احتياجات المستهلكين؛ فتتحوّل إلى أداة تحكّم وتسلّط، بينما تجسّد تصريحات النظام السائد وتوجّهاته[6].

 

تصنيفات لحفظ الهيمنة

هنا يأتي دور التصنيف وإلصاق العلامات/ وسم (Labelling and Categorization)، والانتقائيّة في اختيار مَنْ يكون جزءًا من هذه الثقافة أو الكارنفال؛ وبالتالي يكون دعمهم والإضاءة عليهم ليكونوا جزءًا من صورة برلين الجديدة العالميّة والمتعدّدة الثقافات ومَنْ لا يكون. إنّها كعمليّة بناء العلامة التجاريّة (Brand Building) لتسويقها؛ وبالتالي تغذية اقتصادها بعد أن جرى إنعاشها كما ذكرنا؛ بمعنى أنّ الموسيقيّين الّذين سيُقْبَلون ويُمْنَحون مساحات وأماكن للأداء، واعتبارهم جزءًا من الفضاء الموسيقيّ في برلين، يُخْتارون انتقائيًّا بناءً على ما يُعَدّ ’مناسبًا‘ أو ما يتناسب مع ’النموذج‘ الألمانيّ.

كان هذا واضحًا مع قدوم الفنّانين والموسيقيّين السوريّين إلى برلين، حيث كان هناك دائمًا محاولات لتصنيفهم على أساس قانونيّ أو عرقيّ، عبر علامات مثل ’موسيقى لاجئين‘ أو ’موسيقى شرقيّة‘. بهذه الطريقة تُبْنى أسواق جديدة، ومن الممكن تسليع هذه الثقافات وتجريدها من أهمّيّتها الاجتماعيّة والسياسيّة والتاريخيّة، وتسويقها ليستهلكها سكّان برلين، فتحصيل الربح من عمليّات الاستهلاك تلك.

على سبيل المثال، عند الحديث عن الشتات الآسيويّ في لندن، يشرح بانيرجيا[7] (2000) كيف أنّ من وظائف النظام الرأسماليّ تحويل الثقافات والأعمال الفنّيّة المختلفة إلى سلع، حيث تحتاج الأسواق الاستهلاكيّة النيوليبراليّة إلى التغذية المستمرّة بـ ’منتجات‘ جديدة؛ من خلال التسويق والإعلان من أجل الاستفادة من إنتاجات معيّنة، مع فصلها عن أيّ سياقات أو أهمّيّة سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة، وهي الظروف الّتي أدّت إلى هذه الإنتاجات. يكون ذلك عادة من خلال عمليّات وضع العلامات والتصنيف، الّتي تعتمد على الهويّات أو الوضع القانونيّ كما ذكرنا. وبهذه الطريقة؛ يمكن ثقافات فرعيّة أو أنواعًا جديدة في سياق الموسيقى أن تظهر؛ ممّا يؤدّي إلى أسواق استهلاكيّة جديدة، حيث يمكن إعلان ’المنتجات‘ المتعلّقة بذلك وبالتالي الاستفادة منها. نرى ذلك أيضًا مع موسيقى «الراي» في فرنسا؛ إذ تحوّلت من موسيقى شعبيّة في الجزائر وبلدان أخرى إلى سلعة تعيد إنتاج الطبقيّة المجتمعيّة ضدّ الجزائريّين والمغاربة في باريس.

عودة إلى برلين ووصول الفنّانين السوريّين بعد أن فُتِحَت الحدود في عام 2015، عندما كانت أنجيلا ميركل على رأس الحكومة الألمانيّة. علينا توضيح نقطة مهمّة؛ هذه الخطوة لم تكن إنسانيّة، ولم يكن سببها ’اللاجئين‘ العالقين على حدود أوروبّا، بل كانت خطوة اقتصاديّة وحاجة إلى العمالة؛ لأنّه - حسب الأرقام الألمانيّة - في حلول عام 2050 لن يكون ثمّة أيدٍ عاملة ألمانيّة؛ فمعدّل الولادة ضئيل جدًّا، والمجتمع يعاني الشيخوخة (Aging Population). كانت خطوة إستراتيجيّة سياسيّة- اقتصاديّة.

تصنيف القادمين الجدد (الموسيقيّون السوريّون مثلًا)، وملاءمتهم لفئة معيّنة، من شأنه أن يحصرهم في أنواع معيّنة من الموسيقى، وأماكن معيّنة، وحفلات موسيقيّة معيّنة...

كان المجتمع الألمانيّ في حاجة إلى رؤوس أموال جديدة، بشريّة وثقافيّة وعمّاليّة. وبناء على ذلك، هنا تتجسّد أهمّيّة عمليّة التصنيف والتسليع للثقافات والإنتاجات الفنّيّة والفنّانين أنفسهم، عندما نتحدّث عن الثقافة والفنّ. في العادة، تتحكّم سلطات الحدود والهجرة في مَنْ يدخل إلى البلاد ومتى؛ من خلال إصدار التأشيرات، ومبادرات هجرة المهارات (Skilled Migration) وغيرها. لكنّ اعتماد سياسة الباب المفتوح أدّى إلى عرقلة هذه العمليّة، ولم يكن من الممكن ’تصفية‘ الأشخاص القادمين من قِبَل وكلاء الهجرة ومؤسّساتها. وهذا يقود الجهات الفاعلة المهيمنة في مجال الثقافة والفنّ وغيرهم، إلى أن يشعروا بعدم الأمان؛ إذ ستكون مراكزهم الاجتماعيّة - وأسواقهم - على المحكّ. ذلك بسبب وجود الوافدين الجدد في الفضاء الموسيقيّ الّذي يهيمنون عليه، والّذين قد يكونون قادرين على تجاوز النمط السائد في التفكير والتعبير، وتغيير السرديّة المهيمنة على الحقل الثقافيّ[8]، فيجري تصنيف القادمين الجدد (الموسيقيّون السوريّون مثلًا)، وملاءمتهم لفئة معيّنة، من شأنه أن يحصرهم في أنواع معيّنة من الموسيقى، وأماكن معيّنة، وحفلات موسيقيّة معيّنة، بالإضافة إلى أسواق معيّنة تتعلّق بالتصنيف الّذي يضعونهم فيه.

توفّر عمليّات التصنيف طريقة للحدّ من الوصول إلى الأسواق والمستهلكين المختلفين، ويمكن أولئك الّذين يشغلون مناصب مهيمنة في برلين في هذا المجال الاحتفاظ بمواقعهم وتعزيزها؛ من خلال حصر الوافدين الجدد تحت مسمًّى معيّن لا علاقة له بمسمّياتهم، وبالتالي إبقاؤهم بعيدين عن أسواقهم، وخلق أسواق جديدة. وهذا يؤثّر في عمليّة الإنتاج الفنّيّة، وتصبح محصورة في مسمّيات موجّهة اقتصاديًّا وسياسيًّا. يمكن فهم ذلك على أنّه عمليّة التفاوض على الشرعيّة؛ إذ لم يخضع السوريّون لعمليّة التصنيف، بل قاوموها عبر غير طريقة، ومنها مقاطعة الحفلات الّتي تضعهم تحت مسمًّى معيّن مثل لاجئين أو شرقيّين، ثمّ بناء منصّات مستقلّة يستطيعون الإنتاج الموسيقيّ ونشره من خلالها، إضافة إلى التجمّعات الفنّيّة الّتي تتناول وتعارض التصنيفات الهويّاتيّة والعرقيّة. نرى هذا أيضًا الآن مع ما يحصل في فلسطين، وبالتأكيد العمليّة ليست بالبسيطة والسهلة، وفي حاجة إلى جهد جامع وتنظيميّ لكنّه بالتأكيد وارد.

علينا التشديد هنا على العمق الثقافيّ في سوريا والمنطقة. كما نعلم، إنّ تاريخ منطقتنا حافل وغنيّ ثقافيًّا وفنّيًّا على مدار التاريخ والقرون. تُعَدّ سوريا والمنطقة كلّها منبعًا ثقافيًّا يضمّ 38 حضارة، فمثلًا، أوّل مقطوعة موسيقيّة وُجِدَتْ في أوغاريت (اللاذقيّة حاليًّا)، إضافة إلى أوّل مغنّية في التاريخ المكتوب، وهي أورنينا، كانت المغنّية في «معبد عشتار» في «مملكة ماري»، الّتي على مقربة من دير الزور حاليًّا. للأسف تاريخنا الحافل ثقافيًّا وفنّيًّا، حافل أيضًا بالاستعمار والتقسيمات المناطقيّة الحدوديّة، فضلًا على الهويّاتيّة. الألمان المعنيّون يدركون هذا، ويعلمون مدى الغنى الثقافيّ والتاريخيّ الموجود في سوريا والمنطقة؛ لهذا كانوا دائمًا يرسلون فرق تنقيب، ولهذا؛ المتاحف الألمانيّة والأوروبّيّة الاستعماريّة مليئة بالتراث والآثار من المنطقة وأفريقيا وغيرهما.

 

التطابقيّة والتوحيد

عند الهجرة والوصول إلى برلين، عمليّات التصنيف لها وظيفة أخرى، غير الحصر في أسواق معيّنة والتسليع واكتساب الربح من خلاله؛ ثمّة حاجة أيضًا إلى التطابقيّة والتوحيد (Standardization and Conformity). يجري، على سبيل المثال، دفع العديد من الموسيقيّين الّذين يصلون إلى برلين إلى أن يصبحوا منسّقي أغانٍ (DJ’s)، على الرغم من قدرتهم على الإنتاج والتأليف. يحدث الأمر نفسه مع المهاجرين غير الفنّانين، الّذين يُدْفَعون إلى العمل اليدويّ عن طريق عدم الاعتراف بشهاداتهم مثلًا، أو عدم القيام بمجموعة للمهارات والمواهب للتوظيف (Talent Pool)، كما فعلوا للأوكرانيّين على سبيل المثال، وهذا مسار مفهوم للفنّانين؛ لأنّ السوق ضخم والقادمون في حاجة إلى الدخل المادّيّ وتيسير الأحوال، والهجرة في حدّ ذاتها تحدٍّ هائل.

وفي إطار ما ورد عن البنية الثقافيّة الراهنة في برلين، هذه وسيلة للحفاظ على هذا السوق واقتصاد الحياة الليليّة، وإبقائه حيًّا ومستمرًّا في المدينة. هكذا تُوَفَّر رؤوس أموال وعمالة لهذه الصناعة (Industry)، حتّى لو تمكّن الموسيقيّون أثناء تنسيق الأغاني من الحصول على الإلهام من ثقافتهم أو هويّتهم الخاصّة، سوف ينتهي الأمر إلى دمجها مع الأصوات الإلكترونيّة المحلّيّة، الّتي هي في الغالب أصوات وعيّنات ونوتات غربيّة. وبالطريقة هذه تُوَحَّد البنية وتُطابَق داخل مجال الموسيقى الفنّانين، ولو بطريقة غير مباشرة؛ للحفاظ على استمرار السوق، وتغذية الاقتصاد الثقافيّ جيّدًا.

من الممكن العيش في برلين، طالما نمتثل إلى النظرة والسرديّة الألمانيّة المهيمنة. إذا ظهر الإنسان الفلسطينيّ في برلين بسرديّته وفكره ونظرته، فإنّه يُقْمَع. ما دمنا خفيّين، ونُنْتِج للاقتصاد الألمانيّ، ولا نزعج النظام، يكون الأمر مقبولًا.

بمجرّد أن يبدأ فنّان أو مجموعة من الفنّانين بتمييز أنفسهم من خلال موسيقاهم، واستنادًا إلى ثقافتهم أو هويّتهم الخاصّة، أو حتّى بعمليّة بناء/ إنشاء هويّة موسيقيّة جديدة، نظرًا إلى تجاربهم، قد تظهر سرديّة جديدة، ممّا يتحدّى السرديّة ’المهيمنة‘ أو ’الوطنيّة‘ أو ’البرلينيّة‘، والتأثير في البيئة الحاليّة، ومع الوقت كسر النمط السائد من الإنتاج الفنّيّ أو الثقافيّ؛ فهناك نوع معيّن من رأس المال، أو بشكل أدقّ رأس مال ثقافيّ يُنْظَر إليه على أنّه ذو قيمة ومطلوب، يدعم الثقافة القائمة، بينما آخر لا حاجة إليه.

في ظلّ نظام رأسماليّ وأسواق استهلاكيّة نيوليبراليّة، والاحتكار الغربيّ على الموارد الثقافيّة والأدوات الإنتاجيّة والفرص، بالإضافة إلى النظرة والفكر الما بعد استعماريّ والدنيويّ إلى باقي العالم، ولا ننسى الأنظمة السياسيّة الاستبداديّة الناتجة عن الاستعمار في منطقتنا، فإنّ التعامل مع  الثقافة والفنّ صناعةً مكوّنة من رؤوس أموال يُسْتَفاد منها يكون ربحيًّا؛ حيث قُضِيَ (ليس بالكامل بالطبع لكن إلى حدّ معيّن) على الإنتاجات الثقافيّة والفنّيّة الحقيقيّة والناقدة والبنّاءة، والّتي لها قدرة على التأثير والتغيير أو على الأقلّ التواصل والتعبير؛ ففي أيّ فرصة أو إنتاج يكون له القدرة على كسر السرديّة المهيمنة أو تغييرها، أو معالجة أمور حياتيّة وسياسيّة واجتماعيّة، لا تُدْعَم أو تُمَوَّل بل تُوضَع في خانة معيّنة ليجري حصرها في موقع أو سوق محدّد.

نرى هذا في المدن المركزيّة في أوروبّا كثيرًا، وباعتقادي لا ينطبق فقط على الفنّ بل على جميع رؤوس الأموال. في النهاية لا يرون فينا إلّا رؤوس أموال يمكن الاستفادة منها لتثبيت مواقعهم، وإعادة إنتاج الهيمنة النابعة من التاريخ الاستعماريّ والاقتصاديّ. عبر أدوات عديدة من تمويل، وإقامات فنّيّة، وفرص وعروض، وبرامج دعم، وغيرها من فضاءات جاذبة للفنّانين ولنا جميعًا، لكن شرط أن نتحدّث لغتهم، والبقاء تحت سرديّتهم. لنا حرّيّة هنا، لكن مع سقف، إذا خرقنا هذا السقف نصبح عائقًا أمامهم، بل نصبح أعداء؛ لأنّنا ظهرنا كما نحن وليس كما هم. وهذا الّذي نراه بوضوح كبير مع القضيّة الفلسطينيّة في ظلّ العدوان الإجراميّ على الفلسطينيّين في قطاع غزّة وغيره من أماكن وجود الفلسطينيّين في وطنهم، من الدولة الألمانيّة والمنظّمات الثقافيّة إلى أماكن حفلات ومنصّات فنّيّة تدّعي العدالة والانفتاح، هاجمت وجرّمت ومنعت وألغت الفنّانين الداعمين لهذه القضيّة.

من الممكن العيش في برلين، طالما نمتثل إلى النظرة والسرديّة الألمانيّة المهيمنة. إذا ظهر الإنسان الفلسطينيّ في برلين بسرديّته وفكره ونظرته، فإنّه يُقْمَع. ما دمنا خفيّين، ونُنْتِج للاقتصاد الألمانيّ، ولا نزعج النظام، يكون الأمر مقبولًا. الفلسطينيّون فعلًا مخفيّون؛ حتّى في أرقام الدولة يُكْتَب "غير معروف" أو "عديم الجنسيّة". وهذه المسألة تنطبق على الفنّ والفنّانين؛ طالما يمكن تسليع الفنّ وترويجه في السوق الثقافيّ، أو لا يزعج النهج السائد، فإنّه يُقْبَل. وهذا هو تمييز الثقافات ’الجيّدة‘ و’القابلة للاستخدام‘، والثقافات ’السيّئة‘ و’غير القابلة للاستخدام‘، كونها تتعارض مع الرؤية والسرديّة المهيمنة، فتصبح عائقًا أمام المجتمع، وسياساته، ومؤسّساته.

 


 

إحالات

[1] Stephan Lanz, “The German Sonderweg: multiculturalism as racism in distance,” In Sili Alessando, European Multiculturalism revisited (UK: Zed Books, 2010): 128.

[2] Douglas Klusmeyer, “A ‘guiding culture’ for immigrants? Integration and diversity in Germany,” Journal of Ethnic and Migration Studies, 27, no. 3 (2001): 528.

[3] Lanz, ibid.

[4] Ibid.

[5] Ibid.

[6] Theodor Adorno & Max Horkheimer, Dialectic of Enlightenment (Verso, 2016): 144, 147.

[7] Koushik Banerjea, “Sounds of Whose Underground?: the Fine Tuning of Diaspora in the age of Mechanical production,” Theory culture and society. 17, no. 3 (2000): 64-79.

[8] Pierre Bourdieu, The Field of Cultural Production (Columbia University Press, 1994):  31.

 


 

زيدون حجّار

 

 

 

كاتب وباحث في الموسيقى والهجرة. حاصل على الماجستير في دراسات الهجرة من «الجامعة اللبنانيّة الأمريكيّة»، يعمل في «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» منذ عام 2014. 

 

 

 

التعليقات