النهضة المعاقة: تمهيد

تنطلق الطروحات حول النهضة المعوّقة من الواقع العربي "الصغير"، إذا صح التعبير، في الداخل، ومنه تتوسع بإستمرار، وتوسع مجال الرؤية. حقل الملاحظة بالعين المجرّدة وحقل التجربة هو هذا الحقل، أي حقل المجتمع العربي في الداخل والتقاطعات مع المجتمعات العربيّة

النهضة المعاقة: تمهيد

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع عرب 48 نشر هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.


تمهيد

1

يجمع هذه المقالات همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. لا تعنى هذه المقالات بموضوعات النّهضة العربيّة التاريخيّة والفكريّة التي أنتج الاهتمام بها أبحاثًا ممتازة في العقد الأخير بشكل خاص، وقد أُشبع تاريخ الفكر العربي في عصر النهضة بحثًا ومقارنة وتمحيصًا. ورغم أن الأطروحات التي يقدّمها هذا الكتاب لا تتجنب الخوض في النظريّة، إلّا أنّها تنطلق من الواقع الاجتماعي الملموس، تنطلق إليه من أجل تغييره بإتجاه واضح ومحسوم بالنسبة للكاتب وهو النهضة والتنوير والعقلانيّة والتحديث والديموقراطيّة. وينحاز النص بشكل واضح لهذه القضايا.

تنطلق الطروحات حول النهضة المعوّقة من الواقع العربي "الصغير"، إذا صح التعبير، في الداخل، ومنه تتوسع باستمرار، وتوسع مجال الرؤية. حقل الملاحظة بالعين المجرّدة وحقل التجربة هو هذا الحقل، أي حقل المجتمع العربي في الداخل والتقاطعات مع المجتمعات العربيّة كما تبدو من هذه الزاوية. إلا أن المجتمع العربي بشكل عام هو الهم الذي يقود إليه النص ويفتح حوله الأسئلة. وهو لا يغيب عن ذهن الباحث ولا القارئ على طول الأطروحات وعرضها. لذلك فإن الانطلاقة اللحظيّة المباشرة لا تلبث أن تأخذ المتأمل إلى قضايا المجتمع العربي وقضايا المجتمع والحداثة بشكل عام، أي نظريًا، ومنها قضايا العلم والأخلاق والفرديّة وغيرها... ذلك لأن القضايا التي اخترنا أن نبدأ بها عينية وملموسة لكنها ليست فريدة أو استثنائيّة بالكامل، فالمجتمعات العربيّة تعيش حالات شبيهة وقضايا متقاربة. وتأملات الكاتب نظريّة، لكنها تبحث عن تقاطعات بين هموم ومعضلات النظريّة وبين الهم العربي في الممارسة.

ليست هذه الأطروحات دراسات موثّقة، ولا هي مقالات رأي متفرّقة، وإنما هي أطروحات فكريّة من النمط الذي عرفه تاريخ الفكر، بما فيه فكر النهضة العربيّة ذاته.

وقد يصاب القارئ بالارتباك للوهلة، فالكاتب يعتمد أسلوبًا ينطلق من محفزات ودوافع يطرحها ميدان الملاحظة الضيق، لكنه لا يخشى، أثناء التحليل، من توسيع الصورة لتشمل المجتمعات العربيّة عمومًا. كما لا يخشى التنظير وطرح ومعالجة الأطروحات النظريّة الأكثر تعقيداً من خلال القضايا العينيّة المطروحة.

وما يجمع هذه الأطروحات ليس أنها كُتبت بقلم الكاتب نفسه، ولا أنها صيغت في فترة زمنيّة محددة، بل الموضوع والتوجه الفكري والقيمي ذاته، من زوايا نظر مختلفة.

إنها الطروحات حول إعاقة النهضة، النهضة المعوّقة. وهي ليست مختصة بالعرب ولا مقتصرة عليهم حصرًا، وإنما تتم معالجة ظواهر قائمة في المجتمع العربي، وبدرجات متفاوتة في مجتمعات أخرى أيضًا، كمعوقات للنهضة في الحالة العربيًة.

تبدو الأطروحات نقديّة بشكل عنيف، لكن الهدف منها هو فتح الأفق ورسم معالم الطريق الذي يقود إليه. فالكاتب لا يرى العوائق فحسب وإنما الأمل أيضًا. فليست معوقات النهضة العربيّة عربيّة الجوهر. ولم يُصب العرب بمرض أو بعدوى تحجب عنهم الحداثة وقضاياها، وإنما العوائق المقصودة هي عوائق اجتماعيّة ناشئة تاريخيًا، وعرضها نقديًا هو مساهمة في تحديها ومواجهتها.

2

وضعنا نصب الأعين ضرورة بلورة ومأسسة مشروع قومي لعرب هذه البلاد بحيث يقف على رجلين: الهويّة القوميّة والديموقراطيّة، أو المواطنة المتساوية والانتماء القومي.

إذا ما فصلنا بين المفهومين أو البعدين، القومي والديموقراطي، فسوف تتحول القوميّة إلى مجرد شوفينيّة وسياسات هويّة خاوية تستر التخلّف بالمزايدات الوطنيّة، وتخفي عيوب المجتمع العربي، نفس العيوب التي تشل قدرته على مواجهة التحديات القوميّة. لذلك عندما نقول الفكر القومي الديموقراطي لا نقصد أن تكون القوميّة لنا في حين تبقى الديموقراطية من نصيب أعدائنا أو خصومنا المطالبين بتحقيق المواطنة الديموقراطية والمساواة وغير ذلك، بل نقصد أن تكون قوميتنا ديموقراطيّة أيضًا. وهل بإمكان القوميّة أن تكون ديموقراطيّة؟  بالطبع. ومع أن الديموقراطيّة كنظام حكم وكنهج ينظم العلاقة بين مؤسسات الدولة وبين المواطنين غير ممكنة من دون دولة، إلا أن هذا السياق لا يمنع عرب الداخل من بناء مؤسسات وطنيّة تمثيليّة، وهذا المسعى كافٍ بحد ذاته ليطرح مسألة الديموقراطيّة. لكن قبل هذا كله علينا في التيار القومي أن نسأل أنفسنا: هل تتوفر لدينا ثقافة ديموقراطيّة تجعل من توجهنا القومي توجهًا متنورًا عقلانيًا غير منغلق ولا متعصب؟

قد يؤدي غياب الوجهة الديموقراطيّة التنويريّة للفكر القومي إلى وجهة أخرى أصوليّة لا تبعد كثيرًا عن الأصوليّة الدينيّة، إن كان ذلك في نمط الوعي، أو من حيث الإكثار من استثمار الخرافات والأساطير. وفرق أنها قد تكون أساطير وخرافات دنيويّة وليست دينيّة لا يشكل عزاء في مثل هذه الحالة. ومن مسلّمات التوجه القومي الديموقراطي أن القوميّة رابطة سياسيّة/ ثقافيّة حداثيّة تؤسس لعلاقة بين الفرد والمجتمع ككل، يكون فيها الفرد مواطنًا، والمجتمع صاحب سيادة. وأصدق تجليات هذه العلاقة النظريّة وأكثره قربًا لمفهوم السيادة والمواطن هو الدولة الديموقراطيّة الحديثة. لذلك يرفض هذا التيار التعريفات الجوهرانيّة المتعالية والمتسامية للقوميّة باعتبارها جوهرًا لا تاريخيًا، أو عنصراً بشريًا ثابتًا، أو ثقافة عضوية ذات سمات مستقلة لا  تتأثر بالزمان والمكان وبالثقافات الأخرى. لكنها تحتاج من دون شك إلى مقوّمات ثقافيّة ومعانٍ تاريخيّة وإلى روابط انتماء. وتختلف القوميّة العربيّة جذريًا عن العروبة الأقواميّة أو الإثنيّة، أو عروبة أقوام ما قبل ألفي عام. وما يجمعهما هو الرابط التاريخي، لا رابطة الدم ولا ادّعاء رابطة الدم، الذي يؤرّخ له وليس معطى طبيعيًا قائمًا ومستقلًا عن الفكرة القوميّة. لذلك قد يُكتب التاريخ العربي بتحقيب مختلف ومن بدايات مختلفة. وقد يُكتب هذا التاريخ من منطلق عقلاني ونقدي يفنّد الأساطير من خلال فهم وظيفتها ودورها، كما وقد تزيد الكتابة القوميّة من أسطرته. من يحاول أن يفهم التاريخ العربي كوحدة متناسقة ذات بداية ورواية جامعة وحبكة بأبطال ومآسٍ وانتصارات وهزائم وعصر ذهبي وعصور انحطاط، يحاول عمليًا أن يفرض وجهة نظر قوميّة على تاريخ غير قومي، تاريخ أقوام عربيّة وثقافات متعدّدة في ظل دولة ضعيفة غير مركزيّة بحكم تعريف الدولة ما قبل الحديثة. فالدولة المتناسقة اقتصاديًا وسياسيًا داخل حدود سياسية هي واقع حديث، وتصوّر حديث للدولة، غالبًا ما يتم إسقاطهما على التاريخ بأثر رجعي، من زاوية نظر قوميّة.

والقصّة، الرواية، الحبكة الدراميّة للتاريخ القومي لشعب من الشعوب ببداية ونهاية، وأخيار وأشرار، هي وليدة الدولة القوميّة الجامعة ذات اللهجات المتقاربة والسوق الاقتصادي الموحّد، وبالتالي ذات التاريخ الواحد، أي الذي تم توحيده بأثر رجعي.

وعندما تغيب الوحدانيّة حتى عن الواقع الحاضر، ويحاول العقل – الإرادة فرضها عليه ليصبح واقعًا واحدًا، تكون وحدانيّة الواقع نفسيّة عقليّة. والنفس أو العقل ممتزجًا بالواقع هو الخرافة أو الأسطورة إلا رواية، مغزى، إرادة، نزعة، قلق، مرمى غاية، تزرع في الطبيعة أو في التاريخ. يصبح التاريخ قصّة أو رواية أو مؤامرة يستخلصها الراوية من الأشياء بعد أن يكون العقل الجماعي قد غرسها في الأشياء. هكذا فقط تصبح المعرفة التاريخيّة عمليّة تُذكر بالمعنى الأفلاطوني مع إضافة كونها جماعيّة، ذاكرة جماعيّة إن شئتم.

تفهم القوميّة الديموقراطيّة ذاتها كرابطة حداثيّة ذات مخزون ثقافي وتراثي تقف عليه بقدميها، ولا تغرق فيه عبر إسقاط ذاتها عليه لتحوله إلى أسطورة. وفقط عندما تأبى ذلك يبقى رأسها حرًا طليقًا في فضاء الحداثة وأرجلها مغروسة كذلك على أرضها الثقافيّة القوميّة. الأرجل على الأرض والرأس في السماء. والبديل لهذا الواقع النهضوي الذي يغرس القدمين في تراب الواقع بانتماء، ويجعل الرأس حرًا طليقًا هو إما أن يزحف كلاهما على تراب الواقع كالزواحف التي لا يرتفع رأسها عن أقدامها، أو أن يحلّق كلاهما في سماء الخيال الذي لا تعرف فيه الرأس من الرجلين.

وكما لا تفهم القوميّة الديموقراطيّة ذاتها كجوهر عرق، رابطة دم، أو كعنصر ثابت غير متحول، كذلك فهي لا ترى الآخر كذلك، ولا تحكم عليه بالآراء المسبقة، أو عنصريًا. وكما لا ترى القوميّة الديموقراطيّة تاريخها كمجرد رواية بطوليّة أو مأساويّة، كذلك فإنها لا ترى تاريخ الآخر كأنه مؤامرة واحدة متتابعة من الشر.

دَمقرطة الفكرة القوميّة تجعل الفكرة قوميّة فعلًا لا قولًا. لأن التعبير الأقرب من إرادة الأمّة هو التعبير الديموقراطي عنها، ولأن التعبير الأفضل عن الفرد كمواطن في الأمة، وليس كعضو في العشيرة أو القبيلة أو الطائفة، هو التعبير الليبرالي الديموقراطي عن الفرد ككيان حقوقي خاص ذي حقوق وواجبات تجاه العام وتجاه خصوصيّة الأفراد الآخرين.

من فوائد دَمقرطة الفكرة القوميّة أنها تجعل تقمّصها والتلبّس بها صعبًا. وقد تُصبح القوميّة مجرّد تعصّب أقوامي خالٍ من أي مضمون، ومجرّد حقد أجوف وتافه ضد الآخر، وبالتالي أقصر الطرق لتلبيس لباسًا قوميًا. وما أسهل أن يتحوّل "عميل" قضى حياته في مسايرة مُضطهدي شعبه، إلى "قومي" لأنه لم يكافأ لدى مشغليه بترقية مثلًا، أو لم يأخذ حقه منهم كما يجب، من دون أن يمر بأي تحول سياسي أو قيمي أو فكري. كل ما عليه أن يفعله هو أن يُحوّل إعجابه وافتتانه بسطوة وقوة الآخر إلى حقد عليه كشرّ مستطير وكمؤامرة عالميّة واحدة لا تنتهي، وأن يُحوّل عقدة النقص لديه والخجل من انتمائه لقوم مغلوبين إلى تعصّب لهم، وبقدرة قادر يصبح ما كان تخلفًا عقيمًا بنظره أصالة يجب التمسّك بها.

ودَمقرطة الفكرة القوميّة ضمان ووقاية من التجاء كل عيوب المجتمع العربي إليها لتزوده بحجة الخصوصية والاختلاف كملاذ لها من حتميات التطوّر وضروراته ومتطلباته، وهي ذاتها متطلبات القوميّة كأمة حديثة. وما أسهل أن يحتمي التخلف بالقوميّة باعتباره أصالة يجب الحفاظ عليها ضد عمليّة التثاقف واستيراد الأفكار!  وما أيسر أن يلجأ قمع الفرد إليها باعتباره خصوصيّة تراثيّة تتضمنها العشيرة والقبيلة!  وليس أبين وأظهر من تدفق عديمي الكفائة والأهليّة إليها لتبرير فشلهم بالمؤامرة العالميّة المدبّرة، أو التمييز العنصري اللاحق بهم!  وما أسرعهم إلى التخلّص من عبئها، أقصد عبء القضيّة القوميّة، عندما تُتاح لهم من جديد فرصة الاندماج في النظام القائم.

الفكرة القوميّة الديموقراطيّة أساس لنهضة تنطلق من ثقة بالذات ووثوق من الهويّة الثقافيّة، وثوقًا وليس تعصّبًا. التّعصّب والعدميّة وجهان لعمليّة إعاقة النّهضة، وقد يكونان وجهين لعملة واحدة.

نخطئ خطًأ فادحًا وكارثيًا إذا ربينا شبابنا على أن القوميّة، أو أي انتماء مؤدلج آخر، هي المنقذ من الضلال، لأنها قد تُصبح الضلال بعينه من دون البعد الديموقراطي التنويري: وما قيمة القوميّة كمشروع سياسي معاصر، إذا لم يكن قادرًا على مجابهة تحدّيات العصر، وإذا كان مضطرًا بدلًا من مجاراة متطلّبات العولمة والتصدّي لتحدّياتها ولمعاركها ولإسقاطاتها على العلاقة بين المركز الرأسمالي المتطوّر والمحيط – الهامش اقتصاديًا وثقافيًا، إذا حوّل العولمة إلى مؤامرة على العرب من بين مؤامرات الحداثة الأخرى التي تحطمت على صخرة أصالتنا التي يُعاد انتاجها كرد فعل معوّقة ومعرقلة ومشوّهة ومستحدثة على الحداثة؟

ينظر الكاتب من حوله فيرى جيلًا بأكمله مستعدًا وجاهزًا لقبول التحدّي مع أنه نشأ وترعرع في ظل معوّقات النهضة. إنه الجيل العربي الذي يبحث عن معنى وعن هوية سياسيّة متنورة، وعن قضيّة تحمل المعنى، ولا تنقصه العقلانيّة، ولا الدوافع الأخلاقيّة لقبول هذا التحدي. وعندما تتاح لأبناء هذا الجيل الفرصة للإبداع في جامعات أميركا وأوروبا نجدهم يتحدون بالأسلوب الأكثر رقيًا وحداثة، من دون التخلي عن هويتهم الثقافيّة وقضيّة شعبهم. هذا الجيل هو القادر في البلاد العربيّة أيضًا على حل قضية النّهضة والديموقراطيّة، وهو القادر على تطبيقها وإليه يُوجَّه هذا الكتاب.

التعليقات