النهضة المعاقة (17): خطاب ديموقراطي

إذا لم في يكن حوزة الديموقراطيين مشروع ديموقراطي حزبي سياسي بديل تُحشد له القوى الاجتماعية القادرة على حمله فإنهم لا يطالبون الديكتاتورية بالديموقراطية، وإنما قد يستقيلون من السياسة لصالح الوعظ الديموقراطي.

النهضة المعاقة (17): خطاب ديموقراطي

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.

_____________________________________________________________________________

خطاب ديموقراطي

 

نشأت النظرية الديموقراطية عبر تاريخ طويل من الجدل والصراع في الفكر والواقع، وبين الفكر والواقع. ولا يمكن فصل تطور النظرية الديموقراطية عن الصراع الاجتماعي الذي دار عبر قرون طويلة لتعميم حق الاقتراع، والذي كان جزءًا لا يتجزأ من الصراع الطبقي الذي بدأته الطبقة الوسطى ضد امتيازات الأرستقراطية في أوروبا القرن الثامن عشر، والذي تابعته النقابات واتحادات العمال ضد البرجوازية في القرن التاسع عشر.

وكما تطورت النظرية الديموقراطية كذلك النظرية الليبرالية في صراع مستمر مع ذات القوى الاجتماعية التي حملت الديموقراطية، ومع القوى المحافظة في الدفاع عن الحيز الخاص وحرية التعبير والتنظيم والاجتماع وعن استقلال القضاء والفصل بين السلطات، وهي قيم لم تؤمن بها دائمًا القوى الديموقراطية التي دعت إلى حكم الأغلبية وتعميم حق الاقتراع. كما صارعت القوى الديموقراطية في مرحلة لاحقة من انتشار الأفكار الليبرالية من أجل تعميم القيم أعلاه كحقوق المواطن.

لقد باتت النظرية الديموقراطية الليبرالية، بعد هذه القرون الطويلة من التطور النظري والعملي، موضوعًا مركبًا يحتاج إلى اختصاص. وتكتسب دراسة النظرية الديموقراطية الليبرالية، وتدريسها كنظرية في الإدارة والحكم وحقوق المواطن، أهمية قصوى خاصة عند تولي الحكم، أو بهدف تعميم الثقافة الديموقراطية في أوساط واسعة كشرط لتعزيز القوى الديموقراطية قبل تولي السلطة. إذ لا يمكن عند مواجهة كل تجربة أن تبدأ محاولة جديدة لاستنباط نظرية ديموقراطية ليبرالية جديدة في الحكم، بإجراء تجارب على ديموقراطية لا تتضمن حق الإقتراع العام مثلًا، أو لا تتضمن استقلال القضاء، أو لا تستند إلى نظام تمثيلي، أو تتجاهل الحقوق الليبرالية للمواطن. وكما يقال: "لا يمكن اختراع الدولاب كل مرة من جديد" عند الرغبة في التنقل والسفر. النظرية الديموقراطية الليبرالية وممارستها في الحكم قائمة وتتطور باستمرار. وهي تتطور أساسًا من خلال الممارسة وليس من خلال النقاش النظري خارج ممارسة السلطة. وهي تحتاج إلى بحث ودراسة، كما تحتاج مبادئها إلى تعميم على شكل حد أدنى من الثقافة الديموقراطية.

لكن النظرية الديموقراطية الليبرالية ليست نظرية تاريخية أو اجتماعية في تفسير نشوء الديموقراطية، أو في شرح أسباب هذا النشوء الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أو في تبيين طبيعة القوى الإجتماعية القادرة على حمل مهمة التحول الديموقراطي.

بعض المثقفين العرب، الذين لا يفقهون حتى النظرية الديموقراطية الليبرالية، ناهيك عن قدرتهم على إجراء دراسة مقارنة لعملية نشوء الديموقراطية في بلدان أوروبا أو أميركا أو العالم الثالث – والأنكى من ذلك كله عزوفهم عن أية مشاركة حزبية أو سياسية على الأقل في النضال من أجل الديموقراطية بالانحياز الحقيقي الفعلي لها – يعتقدون أنه يكفي اجترار بعض المسلمات الديموقراطية ثم بصقها على الفاعلين سياسيًا كأنهم اكتشفوا أميركا مثلًا: "النظام في البلد العربي الفلاني ليس ديموقراطيًا" أو "الزعيم الفلاني كان ديكتاتورًا". إنهم يعتقدون أنه يكفيهم فخرًا الاكتشاف الكبير أن الديموقراطية أفضل من الديكتاتورية كنظام سياسي، و"يتقمزون" اعتدادًا بالنفس في وسائل الإعلام المحلية والإسرائيلية، وفي الحوارات مع المنظمات الأجنبية الحكومية وغير الحكومية، معتقدين أنه يكفي الإنسان أن يهاجم النظام في "بلد معادٍ لإسرائيل" للتدليل على ديموقراطية هو، كأنه وليس سواه هو الموضوع.

والواقع أن الطيهجة (مشتقة بتصرف من الطيهوج وهو طير كثير الألوان، يبدو عندما ينفخ صدره وينفش ريشه استعرضيًا مزهوًا شديد الاعتداد بنفسه) ليست إلا دليلًا على التزلف والوضاعة، وركاكة الشخصية، وضعف الهوية، ناهيك عن انعدام المعرفة والكسل الفكري، قلة حب الاستطلاع للتعرف إلى ما يلزم لأكثر من اجترار بعض المفاهيم الرائجة في الديموقراطية الليبرالية، يُضاف إليها الجهل الكامل بنظريات نشوء الديموقراطية.

ولا يحتاج التمييز بين نظام ديموقراطي ونظام غير ديموقراطي، أو التمييز بين أنواع الأنظمة غير الديموقراطية بحسب المراحل التاريخية والبنية الاجتماعية، إلى حذاقة خاصة. ومع ذلك لا يفهم البعض أهميتها ولا يحاول حتى التعرف إليها. وكل ما يهم بالنسبة له هو التفاخر بأنه يهاجم نظامًا عربيًا من إسرائيل. وهذه أسهل المهمات، فهي لا تحتاج إلى جهد ولا إلى معرفة أو اطّلاع، ولا يدفع صاحبها أي ثمن، بل قد يعتبره الإسرائيليون ديموقراطيًا من دون أن يكلفه ذلك عناء موقفٍ ديموقراطي يكلفه ثمنًا فعلًا حيث يقيم وينشط.

عرف المجتمع العربي في الماضي مثقفين يساريين يتماثلون مع أنظمة غير ديموقراطية وغير عربية. وكان هذا التماثل أيديولوجيًا، وليس سياسيًا فحسب. أي أن هؤلاء ناصبوا الديموقراطية الليبرالية العداء باعتبارها "ديكتاتورية البرجوازية"، أو باعتبارها "شكل حكم رأس المال". كما اعتبروا البرلمانات مواقع للثرثرة أو "غرفًا للثرثرة"، على رأي لينين، واعتبروا حرية الصحافة مجرد خداع، وحقوق الإنسان مؤامرة إمبريالية باشر بها جيمي كارتر في فترة رئاسته للتدخل في شؤون دول أوروبا الشرقية والعالم الثالث الداخلية. وقد انهار المعسكر الذي شكل قطب هذا التماثل. ولا شك أن بعض هؤلاء المثقفين قد راجع نفسه جذريًا، و إن كان ذلك بعد الانهيار، أي بعد اختفاء موضوع التضامن ذاته. والمراجعة بعد الانهيار لا تحتاج إلى جهد خاص أو تماسك قيمي خاص، لكن بالإمكان احترامها رغم ذلك. غير أن بعضهم الآخر لم يتعب نفسه بمراجعة حقيقية للذات، وانتقل مباشرة إلى تبنٍّ شبه آلي لمفاهيم الديموقراطية الرائجة، كما تتبناها قوى غير ديموقراطية عديدة كأداة في مقاومة السلطة، عند توفر الجرأة الكافية، وكأداة في مقارعة الخصوم السياسيين عند الهروب من مواجهة السلطة. والأنكى من ذلك كله أنه انتقل من تبنّي "الديموقراطية" السوفياتية و"الديموقراطيات الشعبية" إلى تبنّي الديموقراطية الليبرالية سطحيًا من دون أن يراجع موقفه السابق المعادي لها بشكل نقدي، ومن دون مراجعة موقفه من القومية، أي أنه انتقل من الاتحاد السوفياتي إلى أميركا من دون المرور بأرض الوطن.

لم يُطرح في المجتمعات العربية في الماضي، ولا يُطرح في الحاضر، بديل سياسي ديموقراطي ليبرالي يتضمن:

برنامجًا للوصول إلى السلطة.

برنامجًا لقلب نظام الحكم إلى نظام ديموقراطي ليبرالي، مع ما يتضمنه ذلك من تطبيق المفاهيم الرائجة حول الديموقراطية من حقوق المواطن الأساسية وحتى إمكانية تداول السلطة بين الأحزاب أو ائتلافاتها موسميًا في الانتخابات مرورًا بإقامة النظام التمثيلي وفصل السلطات واستقلال القضاء.

ونحن لا نقول ذلك تشفيًا بالمعارضات العربية التي لم تطرح برنامجًا ديموقراطيًا يتضمن الاستيلاء على السلطة لا في الماضي ولا في الحاضر. فالموضوع لم يكن مجرد إهمال أو سوء نظر، والخيار الديموقراطي الليبرالي لم يكن مطروحًا بجدية في المجتمعات العربية كخيار سياسي بديل للأنظمة القائمة. وقد شهدت بعض المجتمعات العربية مرحلة تسمى، مجازًا، المرحلة الليبرالية ما بين الحربين العالميتين، أي في ظل الاستعمار الأجنبي في هذه المرحلة، على أهميته، نابعًا من طرح سياسي بديل تقدمت به حركة شعبية كبرنامج سياسي. لقد أهملت الجمهورية الراديكالية العربية الناصرية والبعثية هذه المرحلة ونسفت تراثها الثقافي والسياسي وقوّضت أساسه الاجتماعي، وكانت هذه كارثة كبرى. لكن رغم أهمية أنماط السلوك السياسية المتنورة والجديرة بالدراسة التي تميزت بها بعض النخب في تلك المرحلة، إلا أننا نرى أنها نتاج تفاعل ثقافة النخب العربية المتعلمة وأبناء الطبقات الميسورة مع الثقافة الغربية. أي أنها اقتصرت على كونها ثقافة النخبة في مرحلة الاستعمار.

ومنذ الاستقلال طرحت ثلاثة بدائل جماهيرية قادتها نخب حزبية سياسية: قومية ويسارية وإسلامية. ولم تكن منها ديموقراطية. لا نظام عبد الناصر كان ديموقراطيًا، ولا المعارضة الإخوانية المنظّمة ضده كانت ديموقراطية. النظام في السودان لم يكن ديموقراطيًا، ولا المعارضة الشيوعية الجماهيرية ضده كانت ديموقراطية. لا البعث العراقي كان ديموقراطيًا، ولا المعارضة الشيوعية، وكلاهما كان أقل انفتاحًا – وليبرالية من النظام الملكي الذي حكم العراق قبل الثورة. كيف نحاسب نظامًا على أساس غياب الديموقراطية الليبرالية، في حين أن هذه الأخيرة ليست بديلًا مطروحًا، هكذا يجد مؤيدو الديموقراطية أنفسهم يطالبون، من خارج النضال من أجل الديموقراطية، نظامًا ديكتاتوريًا بالديموقراطية، وهو مطلب متناقض مع ذاته.

إذا لم في يكن حوزة الديموقراطيين مشروع ديموقراطي حزبي سياسي بديل تُحشد له القوى الاجتماعية القادرة على حمله فإنهم لا يطالبون الديكتاتورية بالديموقراطية، وإنما قد يستقيلون  من السياسة لصالح الوعظ الديموقراطي، وهذه ليست مهمة عديمة الأهمية، أو يطالبون بإصلاحات ديموقراطية تدريجية. والقوى الديموقراطية الليبرالية في الوطن العربي تطالب الأنظمة بالإصلاح. وهي لا تطالب بالنظام الديموقراطي دفعة واحدة، ولا تستطيع أو تحاول فرضه، كما لا تحاول حتى هذه المرحلة قلب الأنظمة القائمة بالقوة.

فالقوى الانقلابية القائمة في الدول العربية هي قوى غير ديموقراطية، بل معادية للديموقراطية وهي تقبل بالدخول في حوار معها حول هذه الإصلاحات، لكن الأنظمة هي التي ترفض الحوار عادةً. في إسرائيل فقط يوجد "ديموقراطيون عرب" يرفضون حتى بدء العلاقة مع العرب. وهو رفض لا يكلفهم غاليًا، فلا يوجد نظام عربي يدعوهم إلى علاقة أصلًا. كما أنهم لا يدفعون ثمن مواقفهم على الإطلاق كما يدفعه ديموقراطي عربي، بل يقابلون بإعجاب إسرائيلي بتبرئهم من العرب والعروبة.

والوعظ بالديموقراطية للعالم العربي من داخل دولة مثل إسرائيل هو مهمة سهلة، لكنها أيضًا رخيصة ومتزلفة ومتلونة. ليس لأنها قد ترضي الصهاينة وتثير إعجابهم بشكل واعٍ وعن سبق الإصرار والترصد فحسب، وإنما أيضًا لتجاهلها الفضائحي لحقيقة انطلاقة هذا الوعظ من ديموقراطية ليست ديمقراطيته، ومن مجتمع وأوساط سياسية عربية لم تسنح لها ولنا الفرصة للتأكد مما إذا كانت ديموقراطية أم لا، لأنها بعيدة عن السلطة وغير قادرة على ممارستها في إسرائيل. وتجربة ممارستها المحدودة جدًا "للسلطة" على المستوى الاجتماعي والبلدي لم تحمل معها بشائر ديموقراطية نامية في المؤسسات وفي النفوس. إنه وعظ ديموقراطي وتبشير بالديموقراطية من دون ديموقراطيين.

والحقيقة أن المجتمع العربي في إسرائيل لا يستطيع أن يدعي أنه ديموقراطي، وإذا ادّعى فإنه لن يُصدّق. وفيه أيضًا قوى سياسية عديدة ومركزية معارضة لا تشكل الديموقراطية همها الأساسي، ولا تحتل مكانًا على جدول أعمالها، أو برنامجها المكتوب وغير المكتوب. لقد تطرقنا في موقع آخر إلى أنماط المثقفين الذين لا يتقنون اختصاصًا ولا فكرًا ابداعيًا في أي مجال، ولا يملكون موقفًا سياسيًا متميزًا، ولا جرأة اجتماعية تمكنهم من اتخاذ موقف، ويعتبرو لقب "د."، بحد ذاته، كفاءة مواقف، والمقصود مواقف واعظة تتسم بـ"الموضوعية" و"الجرأة" التي لا تتجاوز مضغ المألوف، الذي مله غيرهم، واجتراره. هؤلاء المنشغلون بصورتهم أكثر من انشغالهم بحقوق الإنسان والمواطن، أو بالديموقراطية في هذا البلد العربي أو ذاك، لم يبذلوا، ولن يبذلوا، جهدًا يُذكر من أجل، أو في صالح التحول الديموقراطي في هذا البلد أو ذاك، ولا حتى للاطّلاع على تجربة التحول الديموقراطي في أي من دول العالم العربي والعالم الثالث، ولا حتى في أوروبا.

وقد نزلت عليهما نزول الوحي عبارات مثل "الحل هو الديموقراطية"، على وزن "الإسلام هو الحل"، ثم راحوا يحرّمون ويحللون بنفس منطق العبارة الثانية، مع فارق كبير، أن أهل العبارة الثانية يحللون ويحرمون بنفس شعبي جماهيري نجحوا باستنطاق عصبياته وغرائزه لصالح خطابهم، فيما يحرم أصحاب العبارة الأولى ويحللون من دون تواضع بنفس المؤسسات الأجنية الداعمة. والمؤسسات الداعمة على أنواع، ومنها ما لا عيب فيه ومنها الـAmerican aid التابع مباشرة للحكومة الأميركية.

وغالبًا ما يعمل هؤلاء في مؤسسات عديمة الشفافية تبشر بالديموقراطية والشفافية، وينادون بالديموقراطية من خلال جمعيات يديرها رجل واحد وحوله مجلس أمناء عيّنه بنفسه، ويتغنون بالعمل التطوعي والمجتمع المدني، ولا يستعدون لبذل ساعة واحدة تطوعًا، أو كتابة ورقة واحدة من دون أجر. على أية حال هذا موضوع نقاش آخر، ليس هذا مكانه. وباستطاعة المرء، رغم ما أسلفنا من نقد، أن يقول كلامًا صحيحًا حتى من موقع مهزوز وركيك. لكن المشكلة أنه في مثل هذه الحالة لا يمكن تجاهل العلاقة بين الحديث عن الديموقراطية تبشيريًا، من دون تذوّت قيمها ونظرياتها، ومن دون أدنى مساهمة في الصراع على الديموقراطية في المجتمع من ناحية، والموقع المدعم إسرائيليًا وأميركيًا (يسار صهيوني، صحافيون من شتى الأنواع، باحثون عمن يشتم العرب) من ناحية أخرى. وعلى أية حال تشذُّ جمعيات جدية عديدة عن هذه القاعدة وتنشط في قضايا الديموقراطية من دون أن تمنح ذاتها وغيرها ومجتمعها شهادات. والأواخر يشفعون للأوائل على هذه العلاقة. وبإمكان الموقع الخاطئ أن يطرح نقاشًا صحيحًا وإن كان مجردًا. لذلك ننتقل إلى لب الموضوع: على من يجهد نفسه في الحديث عن الديموقراطية أن يجهد نفسه قليلًا في التنقيب عن سياقاتها التاريخية والفئات الاجتماعية الحاملة للفكرة الديموقراطية والقادرة على فرضها، أو المستعدة لخوض معركة سياسية من أجلها.

لقد اُستنفرت الطبقة الوسطى (المسماة الطبقة الثالثة) في الرابع عشر من تموز 1789، في الهجوم على الباستيل، جماهير المدينة ضد امتيازات الأرستقراطية والإكليروس ومن أجل المشاركة في السلطة السياسية. واتّخذ هذا المسعى شكل تنظيرات فلسفية وسياسة عقلانية ونقدية وشكل تثبيت فكرة المواطنة التي ما لبثت أن دخلت في جدلية وصراعات لم تفتأ تعيد تشكليها حتى يومنا هذا. ومنذ 1848، عام الثورات الديموقراطية في أوروبا وربيع الشعوب، لم تقم في الواقع ثورات ديموقراطية، أي ثورات هادفة إلى تأسيس حكم ديموقراطي ليبرالي، لا في أوروبا ولا في العالم.

وربما كان تحالف الجيش والشعب في البرتغال في إحداث التطور الديموقراطي في ذلك البلد حالة فذّة بين التحولات الديموقراطية في هذا القرن. ففي إسبانيا وصل الملك كارلوس إلى السلطة كخليفة لفرانكو بالأساليب القديمة، وانطلق الإصلاح الدستوري الديموقراطي "من فوق"، لكن البلد كان جاهزًا بمؤسساته وطبقاته الاجتماعية لاستقبال هذا التحول بالطرق السلمية.

أما في ديكتاتوريات دول أوروبا الشرقية، ذات الحزب الواحد، فقد وصلت حملة الإصلاح الديموقراطي إلى السلطة بالأساليب القديمة عبر الترقي والتسلق في جهاز المخابرات والحزب، ثم بدأ الإصلاح من فوق، من دون ثورة شعبية، إلى أن فقدت النخبة الإصلاحية سيطرتها على الإصلاح المتردد الذي ما لبثت أن أُطلقت له العنان. وقد تفاوتت دول أوروبا الشرقية في قدرتها على تحويل هذا الإصلاح إلى نظام ديموقراطي حسب مدى تطورها الاجتماعي وقدرتها على إقامة مؤسسات ديموقراطية، وبقدر تجانس تركيبتها الثقافية والقومية وقدرتها على الحفاظ على وحدتها من التفتت على أساس أقوامي، أو ديني أو قومي.

وقد تفتت بعض هذه المجتمعات وزُجّ بها في حروب أهلية وحشية، أو لبست فيها النخب الشيوعية البيروقراطية القديمة لبوس الديموقراطية وحافظت على سلطتها تحت شعارات قومية عصبوية ذات طابع عرقي. ونجح بعضها الآخر في الانتقال إلى شكل محافظ من الديموقراطية الليبرالية. ولنعلم علمًا واثقًا أن قسمًا من الأقطار العربية يواجه من تركة الحدود الاستعمارية والتنافر بين الانتماءات القطرية والأقوامية تهديدًا من هذا النوع، وأن على الإصلاح الديموقراطي أن يأخذ هذا السياق بعين الاعتبار، خصوصًا أن بعض روّاده ينتقلون من الحجة الديموقراطية إلى الحجة الطائفية ضد نفس الأنظمة وفي سياقات مختلفة من المستمعين.

لا تتم هذه الإصلاحات من أعلى نتيجة للوعظ أو التبشير، إنما نتيجة لأزمة الحكم وعدم قدرته على الاستمرار بالأساليب القديمة، أو نتيجة لأزمة الاقتصاد. وغالبًا ما انطلقت الإصلاحات في العالم الثالث بعد قمع هبة شعبية اندفعت إلى الشوارع ضد رفع أسعار الخبز أو المحروقات أو بعد الفشل في حرب فاشلة زُجّت فيها البلاد وهكذا.

ولماذات نذهب بعيدًا؟  فقد شهد العالم العربي مؤخرًا عدة محاولات فوقية للإصلاح الديموقراطي، بعضها بقي تحت سيطرة النظام القائم (مصر، الأردن، المغرب) وبعضها خرج عن سلطة النظام القائم (الجزائر)، فماذا كانت النتيجة؟  الانقلاب العسكري. المحاولات التي خرجت عن سيطرة النظام هي تلك التي بدأت بتداول السلطة ذاته وفتحت الأبواب على مصراعيها للانتخابات:

محاولة اللواء سوار الذهب في السودان الذي انقلب على الديكتاتور النميري وأعلن أن حكمه مؤقت لحين عقد انتخابات، وعقدت انتخابات فعلًا ليتلوها انقلاب عسكري.

محاولة الشاذلي بن جديد بعد أزمة الجزائر الاقتصادية والاجتماعية العميقة إجراء انتخابات برلمانية بعد فوز الحركة الإسلامية في الانتخابات البلدية، لكنها أُجهضت بانقلاب عسكري أدّى إلى حرب أهلية، ما زال جمرها متقدًا ويُجبى ثمنها يوميًا بالذبح الهمجي البدائي.

ومع ذلك، ورغم هذا التعقيد، تبقى قضية الديموقراطية، ويجب أن تبقى، مطروحة بإلحاح في العالم العربي، لأن الحاجة الاجتماعية والحقوقية لها قائمة في حياة الإنسان العربي اليومية، ولأن العولمة الإعلامية والفكرية تطرحها كما تطرح ردود الفعل عليها، ولأن معظم الأنظمة العربية قد استنفذت مقوّمات تطورها بأدورات الحكم القائمة، كما فقدت القدرة على سد حاجات الجماهير المادية والروحية، التي باتت أكثر تنوعًا وتركيبًا من الخبز والمأوى، فكم بالحري عند الحديث عن حاجات الناس الأولية وحتى البدائية بمفاهيم العصر الحديث؟  لم تعد حقوق المواطن قضية رفاهية، بل باتت حاجة، وهي تحتاج إلى من يطرحها على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري.

ويجب أن يتم هذا الطرح بموازاة النضال السياسي حول القضايا الاجتماعية اليومية التي تهم الناس: قضايا الفساد وتدنّي الأجور، نمو الفئات الطفيلية في المجتمع، ونظام المحسوبيات، وغيرها من القضايا التي يواجهها المواطن في حياته اليومية، والتي لا يمكن حلها من دون إجراء إصلاحات. هكذا تضطر الأنظمة إلى إجراء إصلاحات، أي عندما يتبين أن استمرار الوضع يؤدي إلى أزمة في العلاقة مع الجماهير، الأمر الذي يهدد النظام بأجمعه. وتنطلق الإصلاحات، وعندما تنظلق يجب أن تتوفر قوى سياسية مسؤولة تطالب بتوسيعها لتشمل المجال السياسي، أو على الأقل مجال الحقوق السياسية. ولا يبدأ الأمر عادة بعملية تداول السلطة، وإنما يؤدي إليها.

لم يخلُ العالم الثالث من حالات ثورية نادرة استحقت التماهي مع الديموقراطية مثل حال الساندنيستا في نيكاراغوا. لقد وصل أولئك الثوريون إلى السلطة بواسطة حرب عصابات غزيرة الضحايا خاضوها على أبواب الولايات المتحدة ضد ديكتاتورية مدعومة من هذه الأخيرة في أحد أسوأ عصورها، عصر رونالد ريغان، وانتصروا. وبعد انتصارهم تنازلوا عن احتكار السلطة في انتخابات خسروها. وما زالت عملية تطور نيكاراغوا مفتوحة لم تُستكمل. ولسنا هنا في معرض بحث العوامل التي أدّت إلى هذا القرار الذي اتّخذه الثوريون الديموقراطيون في ذلك البلد. لكن من الواضح أن عملية مواجهة الديكتاتوريات في الوطن العربي لم تنجب حرب عصابات يخوضها أمثال الساندينستا، وإنما أنجبت أحزابًا تحالفت مع الديكتاتوريات بمختلف الذرائع مثل اعتبارها "أنظمة تقدمية" بفعل علاقاتها الجيدة مع الاتحاد السوفياتي، أو نتيجة لتقييم دورها الاجتماعي والقومي. كما أنجب هذا الواقع ردود فعل غير ديموقراطية على الديكتاتوريات وعلى الحداثة والتحديث.

ويبدو أننا ما زلنا بعيدين عن تحول فوري ديموقراطي مباشر في معظم الدول العربية. والأمل يكمن في مخاطبة وعي النخبة الحاكمة أو الضغط عليها لإجراء إصلاحات ديموقراطية، والنضال هو وسيلة الضغظ، ثم توسيع هذه الإصلاحات إلى أن تلامس النظام الديموقراطي. أما الديموقراطية الليبرالية كنظام في الحكم فيجب أن تكون معروفة وان تُدرس وتُدّرس بعناية، إذ لا توجد ديموقراطية أخرى غيرها أثبتت قدرة على الاستمرار والتطور. ولو كانت هنالك قوى ديموقراطية قادرة على تنظيم ذاتها كخيار جماهيري، وقادرة على طرح ذاتها كبديل للحكم، ولو كانت هنالك إمكانية لدعم شعبي للخيار الديموقراطي، لكان هذا هو البديل الأفضل بالطبع، وهو على أية حال لن ينطلق من إسرائيل.

التعليقات