النهضة المعاقة (16): سياسات الهوية وصناعة الهوية

مع تعثر عملية التحديث والفشل في إتمام المهام الوطنية الديموقراطية، وجدت القوة المحرومة، التي عاشت على وعد الحداثة، ضالتها في سياسات الهوية. لقد عيّنت نخب جديدة ذاتها ناطقةً بإسم "الهوية"، وبإسم الدين كهوية وليس كعقيدة.

النهضة المعاقة (16): سياسات الهوية وصناعة الهوية

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.

____________________________________________________________________________

سياسات الهوية، وصناعة الهوية

 

لم توجد جماعة من دون هوية وانتماء. فالهوية هي نتاج التماهي مع جماعة، نتاج الشعور بالانتماء وصياغة هذا الشعور في أطر وتصورات وتعبيرات، في سياق تاريخي محدد، تُصنّف الذات بموجبها. لكن الهوية كموضوع للنقاش والتفكير وللبحث العلمي موضوع حديث. لم توجد في الماضي أزمة الهوية كموضوع لتفكير الفرد، ولم يفكر الناس بشكل انعكاسي بهويتهم قبل نشوء مفهوم الفرد الأوتونومي الذي يجعل من علاقته مع الجماعة، أي انتمائه لها، موضوع تأمل وتفكير تعقبه استنتاجات ذات إسقاطات على هويته ذاتها.

تكون الهوية معطى في البداية بالنسبة للفرد، ثم تصبح متشكلة تاريخيًا عند نقدها. ثم يصبح بالإمكان تشكيلها وتعديلها بما يتلاءم مع رؤية المصلحة الجماعية كما تمثلها القوى المسيطرة في المجتمع الحديث، ثم بما يتلاءم مع ردة الفعل على هذه القوى من قبل القوى المسيطر عليها، ليدور الصراع فيما بينها على تحديد طبيعة ومضامين الهوية التي تجمعهما في مجال القوة والسيطرة الاجتماعي الواحد المحدد بهوية: دولة، مجتمع، عائلة، طائفة، إقليم، قبيلة، عشيرة، عسكر، زي رسمي، نادٍ حصري.

ليست الهوية معطى بالمنظور التاريخي، بل بمنظور الفرد فقط. إنها بنية متشكلة، ويعاد تشكليها وترسيم حدودها ووظيفتها باستمرار. ونحن لا نفكر بالهوية كتعاقد اجتماعي متشكل نظريًا، ولا نحللها في النظرة الأولى كعملية تشكل تاريخي تساهم بها التكنولوجيا ووسائل الإنتاج وطبيعة الدولة، بل نحسّها ونفكر بها كانتماء سلبي وإيجابي. والناس لا تخرج إلى الحرب بسبب عقد اجتماعي، ولا تتشنج أو تغضب أو تتعصب لتعريفات علمية نظرية للأمة أو الشعب أو الدولة. لذلك فإن تفكيرنا اليومي بالهوية ليس تفكيرًا بحثيًا. ومع ذلك فإن التفكير بالهوية كموضوع قد فسح المجال أمام النقيضين وما بينهما من ألوان: التفكير التفكيكي بالهوية عبر فهم مصادرها التاريخية ووطيفتها الآنية في المجتمع، والتعصب الأيديولوجي للهوية، أو تحويلها إلى أيديولوجيا توحد المنتمين إليها في نفس مجال القوة والسيطرة. وكلا الخيارين لم يكن قائمًا في الماضي. كلاهما حديث، بما في ذلك التعصب الأيديولوجي للهوية. فالعصبية للانتماء في الماضي لم تكن أيديولوجية. ومجرد الحاجة للأيديولوجيا بالمعنى العميق والأساسي والبسيط للكلمة تعني أنه حصل انفصال في وعي الفرد بينه وبين انتماءاته.

وفي الحالة التي نراقبها وتنطلق منها، حالة العرب في الداخل، كان لا بد من أخذ موضوعة الهوية التي تجمعهم بجدية، وذلك للإعتبارات التالية:

أ       لم توجد هوية توحدهم وتفصلهم عن غيرهم في الوقت ذاته. فما يوحدهم، ونقصد الهوية العربية الفلسطينية، لا يفصلهم عن غيرهم من الفلسطينيين والعرب. وما يفصلهم عن بقية العرب، أي مواطنتهم الإسرائيلية، لا يشكل حالة انتماء بأي حال، وهي بالتالي ليست هوية جماعية. والمحاولات التي جرت، والمتكررة في الحاضر، لتحويلها إلى هوية تناقضت عمومًا مع الهوية الفلسطينية.

ب      تكوّن لديهم إحساس طبيعي قائم على التجربة الذاتية في إسرائيل التي تحاول قمع الهوية العربية الفلسطينية، وعلى الخراب الذي لحق بالمجتمع الفلسطيني، أن هويتهم هذه معرضة للخطر.

ج      إن هويتهم لم تكتمل تشكلًا لتكتسب ملامح واضحة قبل عام 1948، وإنهم مضطرون بأنفسهم إلى تأكيد معالمها وترتيب ذاكرتهم التاريخية بعد أن شرد حفظتها من المثقفين وأبناء الطبقة المدينية الوسطى في المنافي.

الهوية إذًا قضية، وهي إضافة لذلك قضية نضالية. لكن بين هذه القضية "وسياسات الهوية" politics of identity بون شاسع.

النضال من أجل "الحفاظ على الهوية" لا يحافظ عليها فعلًا بل يعيد تشكيلها عبر رموزه الجديدة كهوية جماعية، مرتبطة بالأرض إلى حد بعيد، في مواجهة الصهيونية. وهذا النضال من "أجل الحفاظ على الهوية" لا يعني سياسات الهوية، لكنه قد ينزلق إليها ويعيد تشكيل الهوية بموجب سياسات الهوية. وليست هذه لعنة أو عائق تطور العرب وحدهم.

فالعالم يشهد بشكل سافر، لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، انتقال قوى سياسية وتيارات فكرية، وحتى عقائد دينية، إلى إتّباع سياسات الهوية على المستوى العالمي، بعد أن كانت فاعلة أساسًا على مستوى الصراع الاجتماعي داخل الدولة. وقد تبين أن الصراعات العالمية التي كانت تتخذ شكل صراع على فاعلية أو عدالة هذه المنظومة الاجتماعية الاقتصادية أن تلك، قد تحولت إلى صراعات بين "نحن" و"هم". و"نحن"، أياً كانت حدودها، و"هم"، مهما شملت، ليستا برامج سياسية أو فكرية، ولا حتى عقائد. ورغم تأكيد جورج بوش الإبن في حينه، والمستمر بعد أكثر من عام على ذلك اليوم، ومعه وسائل الإعلام الأميركية مثل فرقة فلهرمونية، أن الديموقراطية الأميركية وأسلوب الحياة الأميركي قد تم استهدافهما بالهجوم في يوم 11 أيلول من العام 2001 مثلًا، إلا أنه من الواضح الجلي أن خطابه السياسي الدعائي ليس تحليليًا عقلانيًا وأن المقصود هو ليس استنفار أنصار الديموقراطية الليبرالية في أميركا والغرب بأسره والعالم، فغالبيتهم لا تعتبر جورج بوش أو "محور الخير" المحيط به بطلهم، وإنما مخاطبة الهوية الأميركية واستنفارها ضد صورة العدو. ويلاحظ المراقب النبيه كيف أدى هذا الاستنفار إلى استنهاض مشاعر أميركية على مستوى الهوية أدت إلى قمع الرأي الآخر داخل الولايات المتحدة ذاتها، وكيف تحول الإعلام الحر إلى أداة تعبئة وتجنيد. لقد أثبتت الحالة الأميركية، كما أثبت غيرها في الماضي ويثبت في الحاضر، أن الهوية لا يمكن أن تتصلب وتنغلق وتتعصب نحو الخارج وأن تكون في الوقت ذاته منفتحة وديموقراطية نحو الداخل. وليست مقولة "صراع الحضارات" أو "الثقافات" إلا سياسات هوية من أسوأ نوع تُفرض أميركيًا على المستوى العالمي.

تعود تقسيمات "نحن" و"هم" إلى حدود القبيلة أو الجماعات البشرية التي تحارب على مناطق نفوذها الرعوية أو الزراعية أو الإستراتيجية. وربما انتبه بعض المختصين إلى أنه في أيام عملية الحادي عشر من أيلول، وبعيدًا عن اهتمام وسائل الإعلام، وفي عالم آخر غير عالم المساجلات الثقافية والسياسية التي جرت حول "الإرهاب" و"مكافحة الإرهاب" – ومع ذلك في نفس هذا العالم – دارت رحى حرب طاحنة بين قبيلتي "جهم" و"جدعان" في منطقة مأرب، ليس بعيدًا عن العاصمة اليمنية. ويعود سبب الحرب إلى نزاع على حدود كل قبيلة. واستخدمت القبيلتان السلاح الثقيل والمدفعية في هذه الحرب التي سقط فيها 43 قتيلًا ومئات الجرحى. تتمسك هاتان القبيلتان بنمط "النضال" الأولي والبدائي بين "نحن" و"هم" على مناطق النفوذ. ولا تطرحان في الصراع برامج سياسية ولا فكرية ولا تتخفيان حتى وراء عقائد دينية، فأبناؤها ينتمون إلى نفس العقيدة الدينية.

لكن منذ الأزمنة السحيقة التي كان الصراع القبلي فيها يتم على مناطق النفوذ بين "نحن" و"هم" – والتي ما زالت بعض المناطق العربية والأفريقية وغيرها أسيرة لها – تطورت ديانات قبلية وطنية وثقافات تبرر أفضلية "نحن" على "هم". ومنذ ذلك الوقت تطورت أيضًا الحركات الوطنية والقومية التي تتعامل مع الهوية، "نحن"، بشكل واعٍ كهوية قومية وكأداة لبناء الدولة الحديثة ذات السيادة. وفي هذه الأثناء نشأ أيضًا الفرد الإنسان الباحث، في الوقت ذاته، عن فرديته وعن تحديد هويته بشكل واعٍ، وعن المشترك مع بقية الأفراد. ومنذئذٍ تطورت أيضًا الديانات التي تتجاوز مهمتها منح القدسية لـ"نحن" ذات آلهة وطواطم خاصة بها، إلى رسالة سماوية عالمية عقيدية. ومنذ ذلك الحين نشأت أفكار وعقائد غير دينية تطرح نماذج اجتماعية واقتصادية صالحة برأي أصحابها للناس جميعًا في مرحلة تاريخية محددة. وقد أخذت هذه، كما أخذت الديانات صاحبة الرسالة العالمية، على القومية والوطنية تمسكها بـ "نحن" و"هم" رسمًا للحدود. ودافعت الأخيرة عن ذاتها بالتأكيد على مرحلية هذا التقسيم لفرض التحرر الوطني وخلق الانسجام والتجانس الاجتماعي الثقافي اللازم لخلق الأمة الحديثة. وعلى عكس ما يدعى ضدها اعتبرت الحركات القومية نشاطها تحديًا للتقسيمات القبلية والعشائرية الداخلية. لكن لم يخل التاريخ الحديث من حركات وأفكار قومية استثمرت العصبية القبلية وذلك بتأميمها، أي بتحويلها إلى ممارسة على مستوى الأمة. كما لم يخل التاريخ الحديث من تحول أيديولوجيات عالمية، بما في ذلك ديانات عالمية الطابع، وأهمية التوجه، إلى هويات مرتبطة بالانتماء إليها ويتعصب لها قبل أن يتعقلها، كما كان الحال في العصبية القبلية ودياناتها. كما لم يخلُ التاريخ الحديث من عقائد ومنظومات فكرية وأحزاب تحول صراعها إلى "نحن" و"هم"، بعد أن حولت العقيدة إلى "هوية" مجردة وصمّاء، لا يطلب من معتنقها أن يعرف عنها الكثير، ويتناسب تعصبه لها تناسبًا طرديًا مع جهله بها وبتاريخها، وبالأفكار التي أسست لها.

لا يمكن معالجة موضوع "الهوية" من دون الاستدراك والتمييز بين "الهوية" و"سياسات الهوية". فرغم العلاقة الجدلية بينهما، ورغم استناد الثانية إلى الأولى، إلا أنها لا تنفك تعدّلها وتعيد تركيبها، كما تخلق هويات جديدة باستمرار.

لم يعش الإنسان في أية مرحلة من دون هوية، أي من دون جماعة واحدة على الأقل يُشتق التعامل معه، كما تُشتق تعاملاته، من الانتماء إليها. لكن الإنسان الحديث بات يُعرّف ذاته بشكل واعٍ بواسطة هذا الانتماء وغيره. أي أنه لم يعد يرضى أن يشتق سلوكه والسلوك تجاهه من مجرد الانتماء الجاهز والتنميط والأفكار المسبقة، وإنما يقوم الفرد الحديث بالتفكير انعكاسيًا بهويته. الهوية إذًا كموضوع للبحث والتفكير هي ظاهرة حديثة. وإحدى أهم مميزات الإنسان العصري تشابك هوياته وتشعبها ومحاولته الدائبة لتشكيل هوية فردية متميزة، إضافة إلى كل الهويات الأخرى. ورغم سيطرة هوية محددة في مرحلة تاريخية ومرحلة صراع من نوع معين، إلا أن الإنسان الحديث لا ينفك يؤكد لذاته ويحاول إقناعها بأن هذه السيطرة تتم بخياره الواعي، أو أن متطلبات المرحلة تجعل الانتماء إلى إحدى هذه الهويات أمرًا ملحًّا وضروريًا ومفضلًا.

لكن الفرد العصري والحديث يولد أيضًا في حضن هويات قائمة مثله مثل الإنسان البدائي. ورغم أن فرديته وتعدديتها تميزاته عن الإنسان البدائي، إلا أنه قلما يطرح أسئلة حول هذه الهويات في غير سياق الصدام مع هويات أخرى، أو في غير سياق التنصل منها عبر عقدة النقص تجاه الآخر. هنا يصح القول أن التنصل من الهوية والتعصب لها وجهان لعملة واحدة، هي عملة رد الفعل غير الناضج على فعل الهويات الأخرى، من دون التفاعل معها. وتنطلق الأسئلة التشكيكية الأكثر نضجًا والقادرة على خلق حوار مع الذات ومع الآخر، من الاقتناع أنه كما يولد الفرد في هويات لم يخترها، كذلك فإن الهويات مولودة، أي مصنوعة. وهي غير قائمة منذ الأزل وغير مستمرة إلى الأبد.

ويكتشف إنسان النهضة المجرد بموجب التوصيف الديكارتي لعقلانيته، والذي يحضر وجوده أو كيانه (المؤلف من هوياته) أمامه عندما يفكر (إنه يشك، إذًا هو يفكر، إذًا هو موجود)، عندما يفكر بعقلانية بهوياته ويُخضعها أيضًا لمبدأ الشكّ أن عددًا كبيرًا من الهويات التي أخذها كمُسلّمات هي هويات متأخرة التكوّن، وأحدث عهدًا مما كان يتصور في السابق، وأن أدوات إنتاج واتصال صمّاء، مثل الهاتف والصحيفة والسيارة والشارع ومكان العبادة والضريبة والمقهى قد أنتجتها وولدتها، وأن الصراع مع الاستعمار قد عدّلها تعديلًا أكيدًا، وأن الدولة عادت وحولتها إلى نسق في كتب تدريس. كما يكتشف أن عددًا من الأساطير والملاحم والبطولات والتواريخ أُضيف إليه أو حذف منه أو خلق أو استذكر أو عدّل نصّه، ودائمًا أُخرج من سياقه، بموجب أجندة تختلف من مرحلة إلى أخرى.

ويكتشف الإنسان العصري أن هذه المعارف والمعلومات عن هوية رُكّبت تركيبًا، وبدت له مثل جسده وصفاته الأخرى عضوية أو بيولوجية، لا تقلل من انتمائه للناس الذين يعتنقونها، كما لا تقلل من فهمه لمصلحته في إطار مصلحة هذه الجماعة من البشر. لكنه لا يرى هذه المصلحة في صراع مع مصالح البشر الآخرين لأنهم يعتنقون هويات مصنوعة ومركبة أخرى. فقد بات يدرك أنهم لا يشتقون اشتقاقًا من هوياتهم، وأن مصالحهم لا تُشتق من هذه الهويات ولا من الصراع مع هويته هو. ويخطو خطوة أخرى خارج الكهف من الظلمة نحو النور (ومن حالة الجهل إلى حالة التنوير) عندما يعلم أن الهويات ليست في حالة صراع، وإنما البشر هم الذين في حالة صراع. وكما أن الصراع الداخلي في إطار كل جماعة تضع لنفسها حدود هوية قد أعاد تشكيل هذه الهوية وأعاد تركيبها وخلق هويات جديدة، كذلك فإن الصراع بين الجماعات يحول الهوية إلى أداة في المواجهة، أداة لتأكيد الذات ونفي الآخر. ومع تحويل الهوية إلى أداة في الصراع تتغير أيضًا وظيفتها وبالتالي طبيعتها.

يجب أن يبدأ الفكر النقدي في العصر الحديث بمسألة كشف وفضح الظروف التاريخية والسياسية والمصالح الاجتماعية والسياسية التي تقف وراء إنتاج الهوية. وليس صدفة أن ماركس أفلت عبارة مثل "نقد الدين هو مقدمة لكل نقد" – نقول، ليس صدفة لأننا نرى هذه العبارة في سياقها التاريخي، ولأننا نطرح مقولة في سياق تاريخي مختلف. السياق التاريخي الحالي في بداية القرن الواحد والعشرين، هو سياق تحويل الدين إلى هوية من بين هويات أخرى (طائفة وهوية ثقافية وحتى إثنية). لقد اعتبر ماركس الدين وإنتاجه دلالة على انفصال المصلحة العامة عن الخاصة والفرد عن المجموع ونقد المراحل المختلفة للتطور الديني هو نقد المراحل المختلفة لإنتاج الملكية الخاصة، والنقد هو الأداة لإزالة القشرة من أجل الوصول إلى الجوهر، البنية التحتية، اغتراب الإنسان منذ نشوء علاقات الملكية الخاصة والاستغلال. والنقد يبدأ بإظهار تاريخية الظاهرة الاجتماعية، أي كونها من صنع البشر في ظروف محددة، معيشية ومادية، وفي مستوى معين لتطور الوعي. وهي بالتالي متغيرة وبالإمكان تغييرها. ونحن نرى أن "فضح" تشكل الهويات كعملية تاريخية هو مقدمة لكل نقد اجتماعي، ليس لأننا نبحث عن جوهر مدعى للعلاقات الاجتماعية يُفسّر كل شيء وينتهي في الواقع إلى أن يختزل كل شيء، وإنما نحن نعتقد أن تشكّل الهويات هو البناء المعماري الذي يعيش فيه الإنسان، وتشكل الهويات ظروفه وأسبابه، وإنماط استخدامها، وطرق التعبير عنها، هو المبنى المتين الذي يجب اختراقه من أجل فهم ما يدور في داخله. ونحن لا نتحدث هنا عن بنية تحتية اقتصادية اجتماعية، كما درج الماركسيون على التقسيم – وإنما عن مبنى له داخل وله خارج – والخارج والداخل مهمان لفهم المبنى كله. ونمط البناء الثقافي والسياسي وتصميمه ذو علاقة تأثير وتأثر بالتطور الاقتصادي والاجتماعي والصراعات بين المصالح المختلفة ضمن هذه العلاقات.

لكن هذا المبنى ليس، في الوقت ذاته، مجرد بنية فوقية، بل هو أيضًا سقف وبيت وملجأ وحيّز للعيش. ليست الهوية إذًا مجرد بنية فوقية تحملها البنية الاقتصادية والاجتماعية، بل هي إطار هذه البنية. وأول ما يكشف عنه نقد الهوية ويفضحه هو سياسات الهوية. هنا تبرز أمامنا معالم سياسات القوة والسيطرة بكل عظمتها البراغماتية. وهنا يتضح العقلاني والمقصود والموجه من وراء الغيبي، كما تتضح حسابات المصالح القابعة خلف العصبيات والتشنج، والوظيفة المستترة من وراء الأسطورة والخرافة، والقوة السياسية والاقتصادية الكامنة خلف الانتماء.

لقد تنافست القوى السياسية في العصر الحديث على طرح برامج للمجتمع بأسره، وربما للإنسانية جمعاء في حالة الأنساق الأيديولوجية العظيمة. وادّعت أحزاب البرجوازية أن تطبيق برامجها السياسية والاقتصادية هو في صالح المجتمع بأسره، كما ادّعت الأحزاب الاشتراكية ذلك. وفي الدول غير المتطورة اقتصاديًا حاولت الأيديولوجيات التحديثية أن تقوم بهذا الدور، لكن في غياب المقومات الاقتصادية – الاجتماعية اللازمة لتجانس وتماسك المجتمع، وفي غياب البرجوازية القوية والطبقة العاملة القوية، وفي غياب الطبقة الوسطى الواسعة وعلاقات التبادل ضمن اقتصاد داخلي قوي، وجدت القوى الوطنية والقومية ذاتها مضطرة إلى التشديد على الهوية والتراث وغيرها كمركبات للانتماء الوطني، وكتعويض عن غياب الاقتصاد الوطني والمؤسسات السياسية والنقابية والمدنية والسياسية الوطنية الجامعة.

عاظم هذا التأكيد من أهمية مركب التراث والتقاليد التي تغيرت بعد أن تمّ تعميمها وتوظيفها. ونتجت ثقافة وطنية تتصارعها نزعات متباينة بين الحداثة الليبرالية أو الاشتراكية، وبين ثقافة وطنية تراثية الطابع، تعيد إحياء التراث، بعد إعادة إنتاجه على مقاسها وتحوله إلى هوية من نوع جديد.

لم يوجد في حينه وجه شبه بين نمط التدين الشعبي والريفي والهوية التي ينتجها من ناحية، وهذه الهوية الجديدة التي حولت الريف والتقاليد إلى "أصالة" من ناحية أخرى. لكن الريف لم يعترض على الهوية الوطنية ولم يتناقض معها بل زودها بالجيوش. كما لم يوجد وجه شبه بين دين المؤسسة المديني الفقهي الطابع من ناحية، وهذه الهويات التي تنتجها الدولة من ناحية أخرى. وحتى التدين السياسي بدا في بداياته معترضًا على هذه الهويات الجديدة مؤكدًا على أهمية الدين ونقائه كعقيدة، في نفس الوقت الذي أبدى فيه نفورًا شديدًا من التدين الريفي والشعبي وأساطيره وهويته التي ينتجها، والتي يختلط فيها الديني بالعشائري، والتوحيدي بالوثني، كما تختلط فيه تقاليد مستقاة من أديان مختلفة لتنتج هوية "غير نقية" هجينة بنظر التدين السياسي.

 ومع تعثر عملية التحديث والفشل في إتمام المهام الوطنية الديموقراطية، وجدت القوة المحرومة، التي عاشت على وعد الحداثة، ضالتها في سياسات الهوية. لقد عيّنت نخب جديدة ذاتها ناطقةً بإسم "الهوية"، وبإسم الدين كهوية وليس كعقيدة. فالناطق بإسم الدين كعقيدة كان، حتى تلك اللحظة التاريخية، هو المؤسسة الدينية بفقهائها وعلمائها وأئمتها. كما كان الناطق بإسم الوطنية هو الدولة مع ما بين المؤسستين (الدينية والوطنية) من تقاطع في مرحلة الصراع من أجل الاستقلال وفي مرحلة الدولة. لقد قامت قوى تستثمر الانتماء في الهوية كوسيلة لجمع الناس من حولها من أجل الانتصار في صراع القوى والسيطرة على المجتمع ومقدراته. وكلما ازداد التعصب لهذه "الهوية"، بغض النظر عن تدين أو عدم تدين المتعصبين العقائدي في حالة الهوية الدينية، ازدادت قوة النخب الجديدة التي تمثل هذه الهوية. ولا بد في هذه اللحظة التاريخية للتدين السياسي أن يتصالح مع التدين الشعبي بغرض استغلاله واستثماره كهوية، ويشمل ذلك أيضًا مواقف جماهيرية وطنية قائمة قبل التدين السياسي، مثل الموقف من القضية الفلسطينية، قام الأخير بتحويلها إلى خطاب ديني.

وانتشرت سياسات الهوية في الفترة ذاتها في الدول الديموقراطية والمتطورة. ففي ما عدا الرهان المستمر على "الهوية الوطنية" لدى قوى اليمين المحافظ، الذي تزداد قوته كلما ازدادت الأحقاد على القوميات المجاورة وكلما تمّ إحياء الصراعات الحدودية، برزت قوى جديدة مع أزمة الأحزاب والأيديولوجيات وأزمة اليسار بشكل خاص، تراهن على الهوية كرأسمال رمزي يستثمر من أجل الوصول إلى السلطة والمشاركة في تقسيم الكعكة القومية بشكل أكثر عدالة. واتّبعت هذه الإستراتيجية قوى اجتماعية وسياسية تنطلق من أساس اقتصادي ضعيف، أو من أساس سياسي تنظيمي ضعيف، لا يمكّنها من المنافسة على مقدرات المجتمع اقتصاديًا بموجب قوانين السوق، ولا سياسيًا بموجب قواعد اللعبة الديموقراطية.

هكذا، وفي خضم الحداثة أُنتجت هويات جديدة سياسية الطابع. وباتت الأقليات تبحث عن أصولها. وباتت الأقاليم التي تشعر بالغبن تبحث عن تاريخها الخاص المنفصل عن الجوار، وعن تاريخ الصراع للتأكد أنه ناجم عن كونها "نحن"، وعن كونهم "هم". وحتى القوى التي كانت تعبّر عن ذاتها في أيديولوجيات تحمل حلولًا شمولية، أي تشملها، باتت تبحث عن تنظيم ذاتها في إطار الهوية: الهوية النسوية، والهوية الإثنية والهوية الطائفية (مع الفرق الهائل بينها في الأهداف والمنطلقات). لا يتم البحث هنا عن عدالة للجميع وإنما عن "تمثيل" لهذه الهوية، وللدقة: عن نضال لزيادة تمثيل النخب الناطقة بإسم هذه الهوية في مكان اتّخاذ القرار الاقتصادي والسياسي.

لقد أصيب "الغرب" و"الشرق" (وهذه أيضًا هويات مصنوعة ومفروضة من دون أن يشعر الأفراد حتى بانتماء مباشر إليها)، بداء سياسات الهوية. وأبرزت أحداث نيويورك وواشنطن من العام 2001 عقم هذه السياسات التي لا تؤدي إلا إلى صراع بين الثقافات أو حوار بينها لا طائل من ورائه، لأن الهوية ليست برنامجًا سياسيًا واجتماعيًا يتم الصراع تحت رايته أو يتم الحوار بهديه. وإذا فحص المتعصبون للهوية ضد الهويات الأخرى، ولمعادلة "نحن" ضد "هم"، أنفسهم فسوف يجدون أنهم لا يتعصبون أو يتحزبون لقناعة، وأن الشعور بالغبن لا يحتاج إلى تعبير فحسب بل يحتاج، أيضًا، إلى مشروع سياسي واجتماعي واقتصادي. وسوف يكتشفون أن "أوضاعنا" غير ناجمة عن هويتنا وأن "أوضاعهم" غير ناجمة عن هويتهم، وأن الصراع ليس بين هويات، وأن هذا الاكتشاف لا يقلّل من الشعور بالانتماء لشعب ووطن وثقافة وحضارة، بل يغنيه لأنه يحوله من أداة عصبوية سياسية إلى وطن وإلى قضاء حضاري من المعاني التي تخاطب حاجة الفرد إلى الانتماء، وحسّه الجمالي، ونزعته إلى أن يحب وأن يكون محبوبًا.

التعليقات