النهضة المعاقة (4): العلوم الاجتماعية في هذا السياق

أما بالنسبة لخطر "الدال نقطة" (د.) فحدّث ولا حرج. فقد يتحول الجامعي إلى معلّق صحافي من النوع المتوسط تلبية لحاجة وسائل الإعلام إلى اختصاصي عربي. كما قد يتحوّل الجامعي، عمليًا، إلى وجيه من الوجهاء الذين تُفتح أمامهم آفاق تمثيل العائلة

النهضة المعاقة (4): العلوم الاجتماعية في هذا السياق

**كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب 48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.


العلوم الاجتماعيّة في هذا السياق

خلصنا، إذًا، إلى سؤالين:

1    لماذا لم تنشأ فئة من خرّيجي الدّراسات العليا بمستوى معقول في العلوم الاجتماعيّة؟
2    لماذا بات خرّيج الجامعة يعود إلى بيته بعد الدّراسة من دون أن يزداد تنورًا من الناحية الاجتماعيّة؟

أجبنا على جزء من السؤال الأوّل بإلقاء التبعة على نمط السّلوك الأقلّيّاتي الذي يُحدّد خيارات الدراسة الجامعيّة بالمهنة وفرص العمل، ويؤكّد على أهمية تعلّم مهنة مثل: الطّب والمحاماة والهندسة المدنيّة ومراقبة الحسابات، ثم العلوم الطبيعيّة بالدرجة الثانية، بحيث تبقى العلوم الاجتماعيّة الإنسانيّة والآداب لمن يواجه صعوبة في القبول للمواضيع المحبّذة.

العائق الفوري الذي يخطر بالبال أمام تطوّر دراسة العلوم الاجتماعيّة والآداب هو إذن عزوف المتفوّقين دراسيًا والطّلاب الواعدين عنها. ومع ذلك ليس كل شاب واعد هو صاحب العلامات الأفضل في الثانوية، أو في امتحانات القبول للجامعة، فهنالك استثناءات. ويصل طلبة واعدون إلى مقاعد دراسة العلوم الاجتماعيّة والآداب، ومع ذلك يصعب رصد أي نوع من التّقدّم والإبداع في هذا المجال لدى العرب في الداخل.

من المتعذّر الإلمام بكافة العوامل المسؤولة عن هذا الإشكال الثقافي الاجتماعي، حتى بعد تأسيسه نظريًا على خلفية غياب المدينة والجامعة ومركز الأبحاث ودور النشر والدوريّات المحكّمة، وغياب التقاليد البحثيّة في المجتمع العربي الريفي المعزول عن العالم العربي أو المدينة العربيّة الحاليّة على مصائبها. فمن المفروض في حالة العلوم الاجتماعية والآداب أن نُضيف إلى هذه الخلفيّة، أو إلى هذا السياق، موضوع تهميش عرب الداخل أو هامشيّتهم (تهميشهم لذاتهم)، إن كان ذلك على مستوى المؤسّسة الإسرائيليّة الأكاديميّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والإعلاميّة، أو على مستوى المؤسّسات ذاتها في العالم العربي.

لا يتم الإنتاج في العلوم الاجتماعيّة والآداب، كما في العلوم الطبيعيّة، من دون أجندة أو جدول أعمال لمجتمع منظّم في دولة، أي من دون مشروع سياسي اقتصادي اجتماعي وفئات اجتماعيّة تحمل هذا المشروع. وترتبط هذه بوضع سياسات الدولة، أو نقدها، وبالأحزاب، وبسياسات التعليم والتربيّة ووضع الكتب المدرسيّة، وبالسياسات الاقتصاديّة والتخطيط. ولا يتم هذا بالضّرورة في كل كيان سياسي يُسمي نفسه دولة. فهنالك دول مستقلّة في ما يسمى العالم الثالث ما زالت بعيدة عن أن يكون لديها مشروع تنموي. لكن حالة العرب في الداخل هي حالة إقصاء تام واغتراب تاريخي ووطني عن هذه العمليّة القائمة: سواء كسوق عمل للخريجين في العلوم الاجتماعيّة، أو كمجموعة مستحثّات ومحفّزات وأطر للتفكير والبحث والإنتاج.

ومع تأكيد فقر العلوم الاجتماعيّة في الوطن العربي، إلا أنّ هذا الفقر غير متميّز. فهو لا يبرز على خلفية الفقر والعوز في المجالات الأخرى كافة. ورغم هذه الحالة المتدهورة في البحث الاجتماعي والفكر السياسي والفلسفي والآداب، إلّا أنّه، ونتيجة للاندماج في الهمّ ذاته، الوطني والقومي، ونتيجة لاستمرار بعض تقاليد البحث الاجتماعي في بعض المراكز العربيّة، أو لدى فئات اجتماعيّة سنحت لها فرصة الدراسة في الغرب، نشأت مجموعة بارزة وممتازة من المفكّرين المتميّزين وأساتذة الجامعات والباحثين العرب في البلاد العربيّة وفي الغرب، وذلك في إطار مراكز الأبحاث الرسميّة وغير الرسميّة، وفي المؤسّسات الجامعيّة، وفي بعض الوزارات، وفي مؤسّسات الجامعة العربّية في حينه. وفي ظروف الردّة العربيّة وانتشار الخطاب الغيبي ووصول الوعي الشعبي الأسطوري، مختلطًا بالسلفيّة، إلى الصّحافة اليوميّة والتلفزيون، وحتّى إلى كتب التدريس وإلى المقالة الجامعيّة، ومع انتشار الترهات من أحاديث الجن إلى دموع التماثيل وعجائب الأولياء ومواعظ الواعظين بالترافق  مع الإرهاب الثقافي- حتى في القاعات الجامعيّة –، تمكّنت مراكز بحثيّة معينة من الحفاظ، بشكل يكاد يكون بطوليًا، على حد أدنى من العلميّة. كما راكمت معرفة اجتماعيّة وتاريخيّة، عبر إصداراتها ومؤتمراتها، شكلت نوعًا من التشبيك بين المثقّفين والمفكّرين في ظروف تجزئة وشرذمة عربيّة صعبة للغاية. وأخص بالذكر تحديدًا هنا مركز دراسات الوحدة العربيّة على المستوى العربي العام، ومؤسّسة الدّراسات الفلسطينيّة على المستوى الفلسطيني، وكلاهما في بيروت، إضافة إلى مؤسّسات ودور نشر صاعدة في المغرب العربي، وأخرى حافظت على ذاتها في لبنان. لكن عرب الداخل يعيشون على هامش هذه العمليّة أيضًا.

ومع تطوّر قابليّة المؤسّسة الإسرائيليّة (الحكوميّة، وإلى حد ما المدنيّة) لاستيعاب المثقّفين العرب، نشأت مخاطر الأسرلة، التي تهدد بإجهاض احتمالات التّطوّر المتبقية للعلوم الاجتماعيّة عبر تحويلها إلى تابع على هامش الأجندة البحثيّة الإسرائيليّة، أو إلى ممثل للهويّة العربيّة من دون إنتاج علمي جدي ولمجرّد إثبات أن التّعدّدية الثّقافيّة أو الحريّة الأكاديميّة في إسرائيل قادرة على استيعاب العرب بهويّتهم.

رافق هذا خطر داهم آخر هو الشغف بالدال تضاف إلى يسارها نقطة ضئيلة تذكر بالصفر فقط (د.)، لكنها تعبر عمّا لا نهاية له من "الإيجو" والإدّعاء ( ما لا نهاية = أي شيء مقسوم على صفر، وفي حالتنا فإنّ "دال" مقسومة على صفر). ما أقصده هنا ليس الشهادة الجامعيّة المرجوّة والمطلوبة، ويجب أن تكون كذلك، وإنما تحوّل الدكتوراه إلى منصب اجتماعي بدلًا من كونها لقبًا أكاديميًا. وأوّل ما يخطر ببال صاحبها بعد الحصول عليها هو التّنافس في المجال غير الأكاديمي: رئاسة مجلس بلدي، ادّعاء الخبرة في أي مجال عدا مجاله وهكذا... لكن لنعد بداية إلى الخطر الأول.

تفرّع مطلب تشغيل الأكاديميين في مؤسّسات الدولة العبريّة عن مطلب شرعي بالمساواة. لكن تأثير هذا التشغيل على مضامين أبحاث العاملين في العلوم الطبيعيّة أقل بكثير من تأثيره على مضامين إنتاج العاملين في العلوم الاجتماعيّة. وقد يحمل هذا الطراز من التشغيل مخاطر محدّدة. فما هي هذه المخاطر؟

1    الباحث كعربي بدلًا من العربي كباحث: مع ازدياد مطلب تشغيل العرب، قد تتكيّف المؤسّسة الإسرائيليّة مع هذا المطلب، وقد تُشغّل عربًا، لكن وظيفتهم في هذه الحالة أن يكونوا عربًا. بمعنى أنه قد يغدو موضوع الإنتاج العلمي ومستواه ثانويًا نسبة إلى كون من يقوم به عربيًا.

2    الباحث كمساعد بحث في شؤون شعبه: فالمطلوب من الباحث أو الأكاديمي، في غالبية الحالات، هو الاهتمام بتقديم الأوراق والتقييمات حول موضوع واحد فقط هو موضوع العرب في إسرائيل. وقلّما تجد أكاديميًا عربيًا باحثًا في العلوم الاجتماعيّة أو في الشؤون الإسرائيليّة أو الفلسطينيّة أو المصريّة أو في شؤون نظريّة، أو في النظريّة ذاتها. كذلك قلّما تجد باحثًا في العلوم الاجتماعيّة قادرًا على تقديم حتّى مجرّد كتاب تدريس للعرب في شؤون فكريّة أو نظريّة عامّة، أو في الشؤون الإسرائيليّة. وقد يتحوّل الباحث عمليًا إلى مخبر حول أنماط السلوك السياسي للعرب باللغة الصهيونيّة، وبرغبة في مواجهتها.

3    وتخضع حتّى أجندة البحث والتخصّص في شؤون المجتمع العربي في الداخل للأجندة الرسميّة أو أجندة المؤسّسة الإسرائيليّة. وقد لاحت مؤخرًا خيارات بحثيّة تتجاوز هذا الخطر بنشوء بعض الجمعيّات الأهليّة العربيّة ذات الأجندة المختلفة عن أجندة المؤسّسات الرسميّة في الدولة، وبشكل خاص مع تطور الحوار الناجم عن بروز التيار القومي الديموقراطي بشأن أجندة عرب الداخل وضرورة بلورة مشروع سياسي ثقافي عربي. وقد فرض هذا الحوار نفسه حتى على خصوم هذا التيار. وازدادت قوّته مع بروز نُقّاد له يرتبط نقدهم بوجوده، ويرتبط وجودهم على الخارطة الثقافيّة بنقده، لا بأهمية هذا النقد.

ولا ينفي ما قلناه سابقًا وجود حالات فرديّة في الجامعات الإسرائيليّة قدّمت مساهمة جديّة في العلوم الاجتماعيّة وخصوصًا في مجال دراسات الهويّة.

ومن المفيد التشديد على العائق الأول، لأنّه يحوّل الهويّة العربيّة إلى مجرّد أداة للتّقدّم ضمن المؤسّسة الإسرائيليّة، بدلًا من أن تكون إطارًا حضاريًا للإبداع والإنتاج في العلوم الاجتماعيّة والآداب. والهويّة العربية كأداة تنتج صناعة كاملة من الأوراق والاقتراحات والندوات والمؤتمرات غير المفسّرة إلّا بالبحث عن الوظيفة أو التمويل. وهذه تسد الطريق أمام كل من يريد التعامل نقديًا مع إنتاج الأكاديمي العربي لكي لا يفسر أنه ينتقده لأنه عربي. المرفوض والمصاب بالمرارة، إذا لزم، ودور العربي ورقة التوت وشاهد الزور على المساواة والإندماج إذا لزم. ويتطلب الإنصاف الاستدراك أن الاستثناءات موجودة بالطبع، وتستحق الثناء والتشجيع.

وسنعود إلى هذا الموضوع لاحقًا عند التّطرق إلى تبنّي "سياسات الهويّة" عمومًا كعائق من عوائق النّهضة في فصل لاحق.

أمّا بالنسبة لخطر "الدال نقطة" (د.) فحدّث ولا حرج. فقد يتحوّل الجامعي إلى معلّق صحافي من النوع المتوسط تلبية لحاجة وسائل الإعلام إلى اختصاصي عربي. كما قد يتحوّل الجامعي، عمليًا، إلى وجيه من الوجهاء الذين تُفتح أمامهم آفاق تمثيل العائلة في رئاسة السلطة المحليّة البلديّة. هذه الأخطار لا تحيق بالعلوم الاجتماعيّة تحديدًا وحصرًا. فالمجتمع الذي يقمع بدايات الموهبة الفنيّة بتحويل صاحبها إلى مغنّ في الأعراس، أو إلى شاعر قبل أن يتقن قواعد اللغة العربيّة والإملاء متحولًا إلى "دواونجي" بعد إصدار أول ديوان شعر، يقمع أيضًا الرغبة في الثّقافة والتّعلم والإنتاج لدى أول دكتور خريج بتحويله إلى وجيه، أو بتحويله إلى "أول عربي يُقبل في وظيفة كذا"، مع التهاني والتبريكات، و"أجمل باقة ورد" كلاميّة إلى فلان. وكلّما ازدادت الغلاظة ازدادت التعبيرات عنها تصنعًا للرقّة البلاستيكيّة.

لكن "الدال نقطة" قد تتحول إلى خيار سياسي مستقل هكذا وبجرّة قلم على يمين الإسم الشخصي، وبذلك لا تشطب فقط إمكانيات التّطوّر العلمي وإنّما أيضًا السياسي. فمن تدقلط، أي بات صاحب "دال نقطة"، لا ينضم إلى حزب كبقية أعضاء الحزب، بل من المفروض أن يبدأ بالقيادة مباشرة. ومن المفضّل أن يزيّن القائمة الانتخابيّة أو يتصدّرها بالبقاء خارج الأحزاب منتظرًا وفود الأحزاب إليه. فحضرة "الدال نقطة" يحب أن يُسمّى شخصيّة مستقلّة. من تدقلط فقد تشخصم، أو تشخصل، أي بات شخصية هامة أو مستقلة. وهذا معنى الاستقلاليّة بالنسبة له: التظاهر بالأهميّة.

قد يعني الاستقلال الفكري اتّخاذ موقف مستقل ضمن الحزب، أي مستقل عن ضغط الأغلبيّة أو موقف قيادة هذا الإطار في هذا الموضوع أو ذاك، مع الالتزام بنهج هذا التيار أو ذاك بشكل عام. وهذا تفسير إيجابي للاستقلاليّة في التفكير. لكن الاستقلاليّة قد تعني أيضًا الاستغناء عن اتّخاذ أي موقف بحجّة الحياد مع الالتزام بقضيّة واحدة فقط هي المصلحة الشخصيّة، كما يراها. وقد تتطلب المصلحة الشخصيّة، أو النزعة الذاتيّة، نفي ومعارضة كل ما يقوم به مثقّف سياسي آخر، أو عدم اقتباسه عند سرقة أقواله. لماذا؟  بسبب الغيرة الشخصيّة مثلًا. صدّق أو لا تصدّق!  إلّا الاستقلاليّة في هذه الحالة، إذن، تعني في هذا الواقع الغياب الكامل للشخصيّة المستقلّة فعلًا. إنها تعني نقيضها.

وآثار هذا النمط السلوكي على السياسة محدودة للغاية. لكن آثاره الثقافيّة بالغة. ذلك أن المثقّف ينزاح عن المجال الثقافي، أو عن مجال الاختصاص والإنتاج العلمي ضمن هذا الاختصاص، إلى مجال لعبة الألقاب والقوى والاعتبارات. وهذا يتضمّن التنافس ليس على كسب الاحترام لدى بضع مئات من قرّاء مجلة علميّة، وإنّما على الآلاف من قرّاء صحيفة لا يعرفون شيئًا عن مستوى إنتاجه العلمي ولا يستطيعون تقييمه.

تتطلب النّهضة أن ينشغل المثقّفون بالسّياسة، لا كأصحاب ألقاب وإنما كمثقّفين ذوي رؤيا في الممارسة السياسية، وفي علاقة جدليّة نقديّة بين المعرفة والفكر والواقع. أمّا الدّفاع عن لقبهم فلا يتم في المجتمع ولا في السّياسة وإنّما عبر التطوّر العلمي في الجامعة أو المؤسّسة الأكاديميّة. فهناك تتعرض "الدال نقطة" إلى تحدّيات ذات علاقة بها، وإلى حاجة مستمرة للدفاع عنها وإثباتها.

التعليقات