النهضة المعاقة (3): حنين ونهضة

الصراع بين مثقّفي الوظيفة والمثقّفين المحرومين من وظيفة كان صراعًا مؤقتًا وهامشيًا لضآلة عددهم، ولأن الواقع الجديد ما لبث أن أنجب فئة جديدة من المتعلمين خريجي الجامعات الإسرائيليّة الذين لا يشكلون تواصلًا من أي نوع مع ثقافة مرحلة الانتداب.

النهضة المعاقة (3): حنين ونهضة

**كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.


 

حنين ونهضة 


بعد تغييب المدينة الفلسطينيّة في نكبة عام 1948 تجمع مثقّفو الشّتات معنويًا حول المدينة العربيّة، وبذلك ارتبط مشروعهم الوطني (العودة) واستمرار بلورة الهويّة الفلسطينيّة بالمشروع القومي، الذي بات مشروع المدينة العربيّة، إلى أن بدأت هذه المدينة تتعرض إلى عملية ترييف، بدلًا من استيعاب الريف، واتّخذ المشروع مسارًا آخر يتجاوز الخوض فيه هذا الباب.

أمّا من فك حرف الواقع الجديد من مثقّفي الداخل القلائل، والمحصورين حتى بالأسماء، فقد انقطع عن العرب من ناحية، واغترب عن الواقع الإسرائيلي الجديد من ناحية أخرى، حتى لو جاوره بحكم الوظيفة: مدير مدرسة، مفتش معارف، موظف في مؤسسة حكوميّة. وكان بعضهم قد شغل وظائف في ظل الانتداب البريطاني واستمر في تأديتها في ظل "الانتداب الإسرائيلي" مفتخرًا أنه لم ينجح في إتقان اللغة العبريّة طوال فترة عمله مع الأسياد، أو المشغّلين، الجدد. صحيح أن الاحتلال الجديد أنشأ فئة من العملاء والوسطاء بحكم نظام الواسطة والخوف. لكن غالبية من تبقوا من خريجي فترة الانتداب في جهاز التعليم، أو حتّى الجهاز الحكومي، لم يكونوا عملاء للنظام الجديد بل مغلوبين على أمرهم ومغتربين عنه.

وقد طوّر بعضهم فيما بعد تبريرات أيديولوجيّة لوضعه الجديد عندما هوجموا كعملاء، أو كمطأطئي رؤوس، من قبل أحزاب إسرائيليّة مرخّصة عملت بين العرب، ولم يحظ مثقّفوها بأية تعيينات نتيجة لسيطرة حزب "مباي" على جهاز الدولة الصهيونيّة واستئثاره به، ورغبته في استبعاد الأحزاب الأخرى، يضاف إليه نشاط الشاباك والحكم العسكري في المناطق العربيّة الريفيّة.

لكن الصراع بين مثقّفي الوظيفة والمثقّفين المحرومين من وظيفة كان صراعًا مؤقتًا وهامشيًا لضآلة عددهم، ولأن الواقع الجديد ما لبث أن أنجب فئة جديدة من المتعلمين خريجي الجامعات الإسرائيليّة الذين لا يشكلون تواصلًا من أي نوع مع ثقافة مرحلة الانتداب الفلسطينيّة، بل يعيشون ديناميكيّة تطوّر جديد، على هامش المدينة اليهوديّة، متوتر العلاقة معها ومع ذاته.

يختلف هؤلاء عن مثقّفي الوظيفة الذين عايشوا عهد الإنتداب ونجوا بالوظيفة في الدولة اليهوديّة، أولئك الذين أتقنوا بعض الإنكليزيّة، واشتهروا، أو تباهوا، بجمال خطّهم العربي وحفظ الشعر. تحدّثوا الفصحى إذا وجب، وتجنّبوا الإثارة واحتقروها. وانكمشوا عندما بدأ الصّراخ. وتردّدوا في الافصاح عن رأيهم، ولم يكشفوا عنه دائمًا وحيثما اتّفق. أعجِبوا بالإنكليز، ولم يثر الإتحاد السوفياتي (سابقًا) إعجابهم في يوم من الأيام. أحبّوا عبد الناصر سرًا في ظل الحكم العسكري، وانفضح سر بعضهم حين لم يتمالك بعضهم نفسه وانفجر بكاء ومرارة عندما توفي. فهم لم يكرهوه أو يحقدوا عليه حتى بعد خيبة الأمل المُرّة والإحباط الصامت بعد هزيمة 1967. تبادلوا الطرائف والذكريات عن القدس وبيروت ودمشق التي عرفوها قبل العام 1948، واحتفظوا ببعض أصدقاء الطفولة في دول الخليج، أو في المخيّمات الفلسطينيّة.

ومنهم من اعترف بالهزيمة وتذوتها وتملّق المؤسّسة الإسرائيليّة ورجالاتها. ومنهم من عاش طيلة حياته "مستورًا يتجنّب المشاكل" والسياسة تجنبًا للطرد من الوظيفة من ناحية، وهروبًا من إعلانات الولاء لإسرائيل ولحكومتها من ناحية أخرى، ولو كان ثمن تجنّب الإحراج والتّملّق عدم الترقية.

يحتاج المراقب إلى عين ثاقبة لمساءلة رسم وطلول بداية نهضة مبتورة في شخصيّة ومزايا أولئك المثقّفين: تقدير للمعرفة العلميّة، رغبة في العمل ضمن مؤسّسة منظّمة، شعور عميق بالواجب الوظيفي وأخلاقيّاته، دقّة وتفاخر بالدقّة في المواعيد، تسامح ديني، لدى العلماني منهم والمتدين على حد سواء. الآراء السياسيّة عندهم يتم التعبير عنها بعد التقاعد، أو من خلال تربية الأولاد تربية وطنيّة غير متوقّعة في العديد من الحالات. لقد بتر تطوّر هذا الجيل من المثقفين وشغر مكانه من دون أن يملأه أحد، بعد أن ظُلم واتّهُم بالرجعيّة تارة وبالعمالة طورًا. 

وربّما أنه من المفيد القول، في هذه الأيام، أن هذا الجيل قد أخذ مهنة التعليم بجديّة عندما مارسها، وأن الطلبة المميزين والممتازين في الكليّات العربيّة في فترة الانتداب غدوا معلمين استفاد منهم الجيل الثاني من المتعلمين في ظلّ الحكم الإسرائيلي. وما زال هذا الجيل يحتفظ ببعض الذكريات عن معلم اللغة العربيّة أو الإنكليزيّة الذي يحوّل مرارته الاجتماعيّة والسياسيّة في الوضع الجديد إلى تندّر وتهكّم، أو إلى انضباط حديدي، يتخيله "إنكليزيًا" أو "ألمانيًا" عبر آراء مسبقة راسخة عن هذه الثقافات، حسب الذوق، أو إلى "فشة خلق" بالطلبة الكسالى.

لكن في غياب المدينة وتشرّدها، ومعها الطبقة الوسطى، والانقطاع عن المدينة العربيّة في الخارج (التي ما لبثت أن انقطعت عن ذاتها على أية حال)، ومع تحوّل القرية إلى بلدة صغيرة ونشوء طبقة وسطى – دنيا، نمت فئة المتعلمين الجديدة الساعية إلى استخدام التعليم كوسيلة للحراك الاجتماعي. وهذه ضرورة اجتماعية وطبقيّة عند شعب فقد أرضه ومقوّمات وجوده الزراعيّة والفلاحيّة البدائيّة. والتعليم كوسيلة للحراك الإجتماعي ليس هو الثّقافة بالمعنى الضيق الذي قصدناه، لكن قد تتولد عنه ثقافة في مرحلة لاحقة. وهو على أية حال يسهم في تشكيل ثقافة من نوع مختلف. هذا التعليم لا يتم عادة بهدف بناء صرح المعرفة والعلم كهدف بحد ذاته، كما هو الحال لدى أصحاب الرؤيا الاجتماعية الذين يشيدون مراكز أبحاث وجامعات (بعد أن تصبح الوسيلة هدفًا قائمًا بذاته). العلم هنا مهنة. والمفضّل لدى الأقلّيّات مهنة حرّة مستقلّة عن جهاز الدولة. وحتى في الدول الرأسماليّة المتطوّرة يتوجّه الطلبة المتفوقون الراغبون في العلم كمهنة إلى الطب والمحاماة وغيرها من المهن الكلاسيكيّة، أولًا. لكن في تلك المجتمعات تطوّرت مهن حرّة أخرى، مرتبطة بوجود اقتصاد رأسمالي متطوّر مستقل عن الدولة. الأهم من هذا كله أنه يضاف إلى "المهن الحرّة" ميل لدى المتفوّقين لدراسة لغتهم الأم ودراسة التاريخ والفلسفة والعلوم السياسيّة والآداب والعلوم الطبيعيّة، وذلك بدافع المساهمة في بناء مؤسّسة الدولة، أو المجتمع، أو بلورة الثّقافة، أو المساهمة في وضع برامج التعليم، أو في إقرار السّياسة الخارجيّة وغيرها.

نشأ في الوطن جيل من المتعلمين استثني (ثم استثنى ذاته بعد أن تذوّت حالته الموضوعية) من عمليّة العلم والمعرفة الحديثتين، وحددت خياراته. وبذلك أُجهضت مبكرًا عمليّة نشوء حداثة أصيلة لدى السكان الذين تحوّلوا إلى أقلّيّة في وطنهم.

يتطوّر التحصيل العلمي خاصّة في العلوم الطبيعيّة، وتتطوّر الفئة التي تستخدم هذا التحصيل بهدف الحراك الإجتماعي، من خلال جدليّة العلاقة مع عمليّة الإنتاج الصناعي، ومن خلال العلاقة مع المؤسّسة التي تنظم علاقة المجتمع وعمليّة الإنتاج مع الطبيعة: مراكز أبحاث، وزارات علوم وأبحاث، صناعات متقدّمة، مراكز ووزارات حماية البيئة وغيرها.

وقد استثني العرب من هذه العلاقة بين الطبيعة والمجتمع، حتى بعد أن تم اقصاؤهم عن الطبيعة ذاتها بقطع علاقتهم الحميمة معها كفلاحين وكمجتمع زراعي، عبر مصادرة الأرض، وعبر تحويل القرية إلى مأوى ليلي لمبيت عمّالها وموظّفيها العائدين من سوق العمل الإسرائيلي. لقد تم بتر المجتمع الريفي العربي عن الطبيعة والمنظر الطبيعي بعملية قسريّة سياسيّة، لا علاقة لها بالتحديث وتطور عملية الإنتاج، حددت مسار تطوّر الأقليّة العربيّة ثقافة ومجتمعًا واقتصادًا. لا يحاول المجتمع العربي في الداخل أن يسيطر على الطبيعة لأنه خارج هذه العلاقة معها أصلًا. وهو لا يُدير اقتصادًا من أي نوع، بل يعيش على هامش الاقتصاد الإسرائيلي. ولا يمكن أن يكون هنالك فصل أكبر من هذا بين علميّة المعرفة والتّعلّم وبين العمليّات الجارية فعلًا في الاقتصاد والمجتمع والدولة.
وثبت أنه حتى خيار مهنة الطب يفتح بابًا للعلوم الطبيعيًة الأخرى ما زال يتوسّع ويتشعّب حتّى هذه الأيام. هنا نجد من الطلبة العرب من لم يُقبل لدراسة الطب في الستينيات، "واضّطر أن يكتفي" بالبيولوجيا أو الفيزياء أو الكيمياء. وما لبث بعض هؤلاء أن واصلوا دراستهم العليا. ولأن مجال العمل في هذه المواضيع بعد الشهادة الجامعيّة الأولى لا يتجاوز، في حالة العرب، مهنة التّعليم فضّل بعضهم البقاء في الجامعة. ثم تحوّل هؤلاء إلى نموذج جذاب لغيرهم من الطلبة. وغالبًا ما يقود التّطوّر العلمي طريق أولئك إلى الولايات المتحدة حيث الإمكانات متاحة للنجاح في الأبحاث أو الوظيفة الجامعيّة – وقد شهدنا في نهاية التسعينيات موجة أعادت بعضهم إلينا – لكن الجامعة الإسرائيلية تثبت، يومًا بعد يوم، أنّها غير جاهزة لاستقبالهم، في الوقت الذي تُعدّ فيه الخطط لاستقبال واستيعاب الأكاديمين من المهاجرين الروس. ولم تتم بعد خصخصة البحث العلمي في إسرائيل إلى درجة استيعاب الباحثين العرب بهدف النجاعة والربح، وبغض النظر عن انتمائهم القومي. كما لم تقم حتّى الآن جامعة عربيّة بجهد وتخطيط وطني ومجتمعي عربي.

ورغم تسرّب بعض الخريجين العرب إلى صفوف وكوادر الشركات الصناعيّة ذات التّقنيّات العالميّة، فما زال التّطوّر التّقني في الصناعات الإسرائيليّة يتم من وراء ظهر الأقليّة العربيّة ومن دون مشاركتها الحقيقية.

يشهد العرب تحولًا هامًا في دراسة مواضيع العلوم الطبيعيّة والحاسوب، وليس فقط كخيار ثانٍ بعد الطب. وبالإمكان الإدّعاء، دون تعميمات غليظة وفظة، أن الكوادر العلميّة التي تخرّجت، والمتواجدة في البلاد والخارج، باتت تكفي للتفكير المؤسّسي بالمستقبل على غرار التفكير بإقامة جامعة عربيّة ومراكز أبحاث وغيرها، وبالتّنسيق في مواضيع مثل سياسة التّوظيف في الجامعات وغير ذلك. لقد بات الكم ينتج كيفًا.

مثال ممتع على ما تقدم أن العديد من الطلبة العرب اختاروا مهنة الصيدلة كَـ "مهنة مستقلّة" ذات علاقة بالتّجارة الحرّة إلى أن حصل إشباع في السوق. ومع عدم إتاحة أماكن عمل للصيادلة العرب تتعدى العمل في صيدلية خاصّة فضّل هؤلاء البقاء في الجامعة، وإكمال الدراسة العليا في الصيدلة. هكذا أصبحت نسبتهم من طلاب الدراسات العليا تتجاوز بأضعاف نسبتهم بين طلبة الشهادة الجامعيّة الأولى. لكن يبقى العائق أمام تطوّر العلوم الطبيعيّة ضمن مؤسّسات بحثيّة عربيّة هو غياب عمليّة الإنتاج العربيّة، وغياب الاقتصاد الشامل المستقل نسبيًا وغياب البرجوازيّة العربيّة المنتجة، أو الباحثة عن استثمارات إنتاجيّة.

وقد نشهد قريبًا مثالًا آخر على ما تقدّم يتمثّل في دراسات الحقوق كمهنة محاماة. لقد أُشبع السوق بالمحامين وبات بعض الطلبة يفضّل البقاء في الجامعة لإكمال دراسة الحقوق أو العمل بعد الدراسة في مهن ذات طابع أهلي اجتماعي في المؤسّسات غير الحكوميّة التي تتعامل مع حقوق العرب، كجماعة قوميّة وكمواطنين أفراد، مقابل الدولة. سوف تنتج هذه العمليّة الحقوقيين العرب المفقودين والذين طال انتظارهم. لا نشهد مثل هذه الصيرورة في العلوم الاجتماعيّة. وهذه قضيّة تحتاج إلى تعليل ودراسة.

الأهم من ذلك أنه، ولسبب ما، كان المتعلّم في الماضي يعود، ولو بعد إتمام الشهادة الجامعيّة الأولى، إلى قريته متنورًا بعض الشيء، أي أقل تقليديّة في تفكيره وأكثر علمانيّة مما كان عليه حاله عندما غادر، بمعنى ما. لكن المتعلّمين الذين يعودون إلى القرية العربيّة في أيّامنا ليسوا أكثر تطورًا من الناحية الاجتماعيّة عن بقية الناس. كما أنهم ليسوا بالضرورة أكثر علميّة وعلمانيّة في تعاملهم مع السّياسة والمجتمع. فما هو هذا الــ "السبب ما"؟ 
 

التعليقات