النهضة المعاقة (6): نقاش الكلام ونقاش المتكلم

من عادة أصحاب الأيديولوجيا الغيبية والعصبوية أن يحولوا النقاش الأيديولوجي إلى عملية تحريض، من دون التعامل مع الحجج التي يسوقها صاحب الأيديولوجية العقلانية. فمجرد التعامل مع هذه الحجج يقودهم إلى، أو حلبته، حلبة العقل. وهناك لا بد أن يخسروا النقاش.

النهضة المعاقة (6): نقاش الكلام ونقاش المتكلم

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب4 8" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.


نقاش الكلام ونقاش المتكلم


درجت في مجتمعات الكلمة العربيّة المكتوبة أساليب في مناقشة الرأي الآخر، أو الرأي الجديد، باتت تقليدًا معوقًا للنهضة. وتقوم مساهمة الحوار في النهضة على إغناء المعرفة من خلال جدل له أعراف وأصول بين مواقف وتفسيرات مبنية على معارف متراكمة. ويميز أساليب النقاش في مجتمعات الكلمة العربية المكتوبة سيطرة الاندفاع لمناقشة المتكلم بدلًا من مناقشة كلامه، أو مناقشة "جسم الكاتب"، بل مهاجمته في بعض الحالات المتطرفة، بدلًا من "جسم المكتوب". ويصح أن يقال باقتضاب في هذا الأسلوب أنه لا يؤدي إلى مراكمة معرفة، ناهيك عن تطوير أي نوع من الحوار والجدل المعرفي. بل إنه غالبًا ما يؤدي إلى إعاقة الإنتاج الفكري المعرفي.
قد تتم الموافقة على كلام أحدهم أو رفضه من خلال معرفة هويّة المدّعي لا مضمون ادّعائه. يتكرر ذلك عند الصحافي "المطيباتي" لدى زعماء الدول غير الديموقراطية، أو صاحب مصلحة انتهازي، لدى زعامات ديموقراطية قد يمدحها مقابل خبر فحسب، ويغير "موقفه" ونقاشه تبعًا لتقلب مصلحة الرئيس أو الزعيم، أو حتى تغير مزاجه. لكن هذا الأسلوب يخرج عن دائرة الانتباه لرتابته وعاديته في الحوارات بين الحلفاء أو الخصوم. فموافقة خصم على رأي ما قد تعني، معاذ الله، أن الخصم على حق.

وهذا الحكم يقوي الخصم أو الشخص المنافس في حالة الخصومة الناجمة عن تنافس حقيقي أو موهوم. وموافقته في نقطة، ولو كانت تافهة ومفروغًا منها، قد توحي بتخفيف حالة العداء له، أو تجعل الناس تصغي له في المستقبل بانتباه أكبر، أو تنفتح على ادّعاءاته الأخرى.

ولا ينضب معين أدوات مناقشة المتكلم عوضًا عن كلامة من مثل: "سيدي الكريم" أو "العزيز" أو "أخي الكريم". هذه التعابير، لسبب ما، تقع على السمع وقع الشتائم، وترافقها افتراءات حول موقف المدّعي، مرورًا بشتمه، أو التشهير به، أو نشر الإشاعات التي تطعن به، وقد تنتهي بتكفيره في حالة الحركات العصبوية الدينية وغير الدينية. كما يتم نشر حالة من الحقد والكراهية والرفض حول صاحب النص، أو الموقف موضوع النقاش، تؤدي إلى أخذ موقف من كتاب من دون قراءته، أو من مقال من دون إلقاء نظرة عليه، وفي أفضل حالات هذا النمط، قراءة النص من أجل إيجاد فجوات فيه، لا لنقده، بل كنقاط ارتكاز لنسفه كليًا.

الأنكى من هذا كله أن نشر حالة الحقد والكراهية العمياء يؤدي إلى اتخاذ موقف من شخص أو كاتب من دون معرفة أي شيء عنه. وما أسهل تملق الشباب المتحمس والكسول معرفيًا، أو الباحث عن عنوان يوجه إليه غضبه، وإقناعه بأن فلانًا "مارق" أو "فاسق"، أو أن فلانًا "برجوازي حقير" أو "أنه برجوازي صغير، والبرجوازية الصغيرة كما هو معروف تتميز بتذبذب مواقفها"، أو أن فلانًا "رجعي" أو حتى "خائن" أو "عميل". والذين يتملقون، عن عجز، عنوان الغضب الحقيقي بدل مهاجمته يحولون، هم ذاتهم، غضبهم مضاعفًا نحو من صادف أن أختار التعبير عن ذاته الفردية في هذه الموضوعات.

وعندما تُشن حملة الإشاعات فإنها لا تهدف إلى التخويف من الشخص ذاته، مع أنها تتناوله شخصيًا، وإنما إلى وضع حاجز بينه وبين الجمهور يؤدي إلى عزوف أوساط واسعة منه عن سماعه أو قراءته، وبالتالي إلى عدم التعرض إلى منطقية حجته أو تماسك كلامه. وقد يصغي إليه المتأثر بهذه الإشاعات بعد الحملة من دون أن يسمعه، وقد يقرأه من دون أن يلتقط معاني المكتوب، ناهيك عن استيعابه.
والسبيل إلى منع الكلام المنطقي من الوصول إلى العقول يكون إما بكم الأفواه أو بإيصاد العقول. وكم الأفواه أمر تعرفه المجتمعات العربية عندما يمارس من قبل الحكام وذوي النفوذ السياسي أو المالي. أما إيصاد العقول فقد يستخدم أيضًا من قبل المؤسسة الحاكمة ومنظّريها وصحافييها، لكنه غالبًا ما يتم بشكل غير رسمي، بل وبشكل شعبي أيضًا، فليس بالضرورة أن يتم على المستوى الرسمي دائمًا. إنه يتم بالتحريض الشعبوي ضد الأفكار، أو بنشر التفكير الغيبي غير القادر على التعامل مع الحجة المنطقية، أو نتيجة لانتشار التفكير الفردي المصلحي (من الجبن حتى النفعية الصريحة) غير الراغب في التعامل معها. والأداة المستحدثة الجديدة هي التعبئة ضد موقف على مستوى هوية صاحبه. وهذه إحدى أكثر الأدوات حملًا للطاقة التدميرية ضد المجتمع. إن الغمز على صاحب موقف بأنه يفكر كذا لأنه من القبيلة الفلانية، أو لأن أمه من أصل كذا، أو بتسمية انتمائه الطائفي أو الإقليمي، لا يؤدي إلى اغتيال الحوار بين الآراء فحسب، بل إلى منع إمكانية تعدديتها على المدى البعيد. ذلك أن أي تعددية كهذه تتحول في هذه الحالة إلى تعددية هويات وانتماءات تهدد وحدة المجتمع. والممتع والمشوق والغريب هو رؤية العلاقة بين هذا الأسلوب في النقاش وكيفية معالجة بعض المستشرقين والصحافيين الغربيين لآراء المثقفين العرب بالرجوع إلى هوية أصحابها الطائفية من دون بذل أي جهد لتحليلها.

كما يتم إيصاد العقول باستنفار وتصعيد الحالات الإنسانية الغريزية مثل الخوف والحقد والغيرة والحسد ومخاطبة الكبرياء وإنتاج صورة المتكلم كعدو، ,هكذا. النتيجة طبعًا إعاقة النهضة المعرفية والمجتمعية والخسارة المعرفية. وقد يؤدي هذا إلى فقدان أجيال معرفية كاملة يتربى أبناؤها على الحقد على أناس لا يعرفونهم ولم يقرأوهم، سواء أعاشوا في الماضي أم يعيشون في الحاضر. وبهذا ينشأون على العزوف عن المعرفة، وعلى غياب حب الاستطلاع وقواعد الحوار، وعلى الحضور الدائم والمتوتر لحجج الخصام وذرائعه.

وأول وسيلة في نقد الكاتب عوضًا عن المكتوب هي الإشاعة. وفي المجتمعات التي تعتبر فيها الإشاعة أقوى وسائل الإتصال، أو أقوى وسائل الإعلام، لا أمل للنص في منافسة الإشاعة. 

وعليه أن ينتظر وقتًا طويلًا، وربما حتى نشوء جيل غير معرضٍ للإشاعة حول المؤلف، على أمل أن تزول الخصومة بانقراض المتخاصمين. والطامة الكبرى أن الإشاعة لم تعد تقتصر على مجرد تعبير عن حضارة شفهية زائلة، بل باتت مكتوبة. فالواقع المتخلف ضمن الحداثة يستخدم أدوات الحداثة في نشر التخلف، أي أنه يستخدمها ليشِيع بدل أن ينشر.

يوفر واقع التخلف في الحداثة أدوات صحافية من دون أن يوفر بالضرورة صحافيين أو صحافة. وعندما يحل الفاكس أو الإنترنت محل التحرير، يرافقهما الكسل المعرفي وغياب الأخلاق الصحافية والمسؤولية الشخصية عما ينشر، تصبح الإشاعة أكثر قدرة على الانتشار، خصوصًا إن لم ترافق الفاكس أو الإنترنت صحافة جادة قادرة على، وراغبة في استخدامه للتحقيق الصحافي. وعندما تحل تصفية الحسابات الشخصية محل التحقيق في صحة أو دقة أو معنى أو سياق ما يكتب، تصبح الإشاعة مكتوبة ومتناقلة وغير مقتصرة على "القيل والقال"، متحولة إلى إسفاف منصوص.

وبتزامن عصر الديموقراطية من دون ديموقراطيين (مع الاعتذار للباحث غسان سلامه)، مع عصر الصحافة من دون صحافيين، يغدو الاسفاف المنصوص نصًا يطالب بالمساواة الديموقراطية مع النصوص الأخرى. فهو يطالب أن يعامل كرأي وموقف، وأن يعامل صاحبه ككاتب وصحافي وصاحب موقف. بل قد يكون له رأي في إتحادات الصحافيين أو الكتّاب!  وأي تنقيص من قدره يعتبر موقفًا لا ديموقراطيًا قد يجابه فجأة من زواية غير متوقعة بسؤال غير متوقع: "ألسنا نطالب إسرائيل بالمساواة أو بالديموقراطية، فلماذا لا نطبقها على أنفسنا؟".

هكذا يتساءل السذج أو الخبثاء المتساذجون الذين يساوون بين الخبيث والطيب، بين الموهبة وإنعدامها، بين الإبداع والاتّباع، وذلك في نسبية معرفية مقصودة مدّعاة تجرد النقد من سلاحه الأساسي وهو التفريق بين ما يعقل وما لا يعقل، بين ما يقرأ وما لا يقرأ. هكذا يخلط بين الحابل والنابل: فهذا نص وذاك نص. هذا رأي، وذلك رأي أيضًا. وعدم المساواة بين "الآراء" في القيمة يناقض قيم المساواة والديموقراطية.

وعبثاً تحاول إظهار سخافة الادّعاء أو الإشاعة بأن فلانًا حرامي أو ملحد أو كافر أو متكبر متعجرف أو صلف أو عميل. فهذا رأي فلان عن الكاتب صاحب النص، "ونحن نؤيد حرية الرأي والخلاف في الرأي"، وباستطاعة الكاتب أن يرد إذا شاء "فنحن ديموقراطيون، صحيح أننا نشتم، لكن صفحات صحيفتنا مفتوحة للرد". وهذا في واقع الحال خبث المتخلفين المعادين للديموقراطية، الذين يستخدمون أدوات الديموقراطية ضد الديموقراطييين. إنه الخبث الذي قد ينتصر مرتين: مرة عندما يحول التشهير إلى إشاعة مكتوبة، ومرة حين يجبر الضحية على أن تدافع عن ذاتها.

ويضيع الموضوع عندما يتحول إلى مسار مختلف تمامًا، هو مناقشة الشخص وليس النص. ويوضع الشخص فورًا في حالة دفاع غير متوقعة عن الذات. والدفاع لا يجدي، لأنه يحشر الشخص فورًا في موقع تبرير الذات أمام أصابع الإتهام الموجهة إليه، وهو موقع دوني مسبقًا. لذلك فالهجوم المضاد هو الإستراتيجية الرائجة لمواجهة تلك الحالة.

يبدأ الهجوم المضاد بنفي مؤهلات الخصم في فهم النص أصلًا، ثم ينتقل إلى دوافعه وخلفياته من غيرة وحسد وخصومة لا علاقة لها بموضوع الخلاف. وإذا كان المدافع – المهاجم معتدًا بذاته فقد يتحول إلى المفاخرة غير المنضبظة وإلى تجنيد الأقلام الصديقة لمهاجمة الخصم – وهكذا يتحول الخصام إلى معركة كلامية، يضيع فيها الكلام الأصلي موضوع المعركة، إلى حزبٍ بين فلان وفلان ومن تجند لنصرة كل منهما.

وغالباً ما يقودنا الخصام من أنوفنا، ورغم أنوفنا، إلى بعض "الموضوعيين" الذين يتحينون فرصة ممارسة دور الوسط والتوسط والوسطية والوساطة، كرجالات الصلح الكلامي العشائري. طابع الصلح هذا يثبت طابع الخصومة، بل يحدده ويكرسه. فالصلح الطائفي يكرس حقيقة أن الخصومة طائفية. وحتى لو لم تكن طائفية فإنه يفترض ذلك بحكم وظيفته ويساهم أيضًا في جعلها كذلك. فهذه أدواته وتلك مرجعيته. وكذلك الصلح العشائري. أما الصلح الكلامي فإما أن يكون توفيقيًا يوفق بين المواقف، وإما شخصيًا بين أصحاب المواقف، وذلك بتثبيت الطابع الشخصي للخصومة بدل تخفيفها: "صحيح أن لدى الكاتب فلان سلبيات عديدة، ولكنه ليس نصابًا أو خائنًا مثلًا"، و"الادّعاء أنه كذا هو مبالغة"، أو "هذا الكلام لا يجوز ضد كاتب كبير"، "أو لا يصح ضد كاتب شاب يجب تشجيعه"، والصلح سيد الأحكام. وعلى من هوجم أو شهّر به بغير وجه حق أن يسامح. وعبثًا يتوسل مضمون الكلام، أو النص ذاته، أو الفكرة، انتباه أقذاذ الصلح والخصومة.

وبحكم التعريف لا تنتشر العملة بوجه واحد، إذ ينتشر وجه العملة الآخر بنفس درجة الانتشار. فلا يمكن أن ينتشر جانب من الظاهرة من دون جوانبها الأخرى. وعليه قد يصير النقد تغنيًا بما يكتب، بحيث يكون التغني مثيرًا للإعجاب إلى درجة تغني عن القراءة النقدية – ويتحول النقد إلى مديح منطلق من العلاقة الودية مع الكاتب، أو من دافع ما إلى تملقه إذا كان شهيرًا.

ومن ناحية أخرى فإن أقصر الطرق إلى الشهرة هي ادّعاء التميز عن كاتب مشهور، أو مناقشة كاتب مبدع ومهاجمته، أو مفكر ينتظر ضعاف النفوس نصًا له غير مألوف لمهاجمته وصلبه على جدران الكلام. وغالبًا ما يستخدم أولئك الناس أفكاره، أو يجترونها اجترارًا، ويقومون بمهاجمته، في الوقت ذاته، بواسطة إخراج جملة واحدة من سياقها، الذي قد يسرقونه من دون الإشارة إلى المصدر، ثم يقومون بمهاجمة جملة أخرى أُخرجت أيضًا من سياقها. وليس أدل على الحسد والغيرة من سرقة أفكار كاتب، من دون الإشارة إلى مصدرها، ومهاجمته في الوقت ذاته، انتقامًا منه على اضطرار المنتقم ذاته للإعجاب به وسرقة أفكاره.

لكن بالإمكان أيضًا تملق الكاتب أو المفكر وإثارة إعجابه للإفادة من العلاقة الودية معه. وأطرف ما في هذه المدائح أنها تنظم بلاغة أو نصًا جديدًا لا علاقة له بموضوع النقد. فالناقد المفتون مفتون بذاته في الحقيقة، ولا يقصد بمدائحه إظهار مفاتن النص موضوع نقده بل مفاتن لغة نقده هو وصعوبة تركيباته اللغوية. وقد يجتر هذا الناقد تعابير لغوية أعجبته لدى قراءته نقدًا آخر كتب في مكان آخر حول نص آخر. ولكي يستخدم التعابير التي أعجبته يدسها في النص حاملة معاني لا علاقة لها بالنص موضوع النقد، ولم تكن واردة إطلاقًا في ذهن الكاتب، ولا يمكن استنباطها من نصّه ولا حتى من لا وعيه، فالمهم هو استخدام هذه التعابير.

ويشكل استخدام تعابير ما بعد حداثية لدى الكتابة عن نصوص من دون معالجتها أو التعامل معها بشكل فعلي ظاهرة حقيقية. إذ يحتمي الناقد عادة وراء استعصائها على الفهم خارج سياقها الحضاري. فمع انتشار التزاوج بين النقد الأدبي والفلسفة، في بعض المدارس المابعد حداثية، سيطرت بعض التعابير غير المألوفة، لكن المفيدة معرفيًا ومنهجيًا، على ممارسة نقد النص. لكن هذه الأدوات المفيدة قد تتحول إلى مجرد استعراض للتعابير خارج سياقها الحضاري والثقافي لتتحول في النهاية إلى معوق للمعرفة.

هنا يصح أن يُعلن على الملأ أن أدوات النقد الأدبي لا تقتصر على البلاغة، ولا على مقارنة النصوص، وأن الفكر لا يقتصر على السجال وتماسك الحجج، وأن النقد وظيفة اجتماعية بقدر ما هو موهبة في القراءة المقارنة والتحليلية. كما يجب أن يعلن احتفاليًا أن هنالك نصوصًا لا تستحق التحليل وبالإمكان إغفالها أو إسقاطها من منزلة الأدب، أو تخفيضها إلى مرتبة "تحت مستوى النقد"، مرتبة ما لا يستحق النقد.

وقد تنقذ البلاغة النقدية ماء وجه الكاتب لكنها لا تفلح في تحسين وجه النص. هذه البلاغة المتسامحة ليست تهذبًا ولا سعة صدر، وإنما هي اعتداد الناقد بنفسه، غالبًا.

النقد قوة وسطوة، وإساءة استعمالها تعسف وظلم. ويزداد زبائن هذه السلطة وعملاؤها عددًا مع ارتفاع نسبة المتعلمين والكتبة، ومع تصدير الأدب في غياب دور النشر المحكّمة وغياب جمهور القراء الناقدين الذين يجولون المكتبات بعين فاحصة باحثين عن الدوريات المحكّمة والنصوص. وعندما يصدر الكاتب مادته بنفسه فإما أن يكون راديكاليًا أو مجددًا بشكل خاص، أو أن تكون دور النشر قد رفضت إصدارها. لكن عندما لا تتوفر دار نشر تردها إليه، أو عندما يوزع كتابه مجانًا، أو بسعر بخس، لأن وراء الإصدار دائرة معارف وثقافة رسمية تموله، معتبرة هذا التمويل دعماً للحركة الثقافية، تزداد الأيدي التي تطرق باب الناقد باحثة عن إطراء أو تشجيع.

وقد يشعر ناقد مجهول بالإطراء لأنه أصبح ذا فائدة لأحد. فهنالك إنسان حقيقي من لحم ودم يحتاج إلى تشجيعه، لذلك فإنه يرد معروف من توجه إليه بمعروف أكبر فيكيل له التشجيع على شكل مديح، أو يكتب مقدمة لديوانه الشعري. وقد يتحول الكتّاب إلى نقاد بعضهم بعضًا في عملية دعم وإطراء متبادلة. يكون النقد في هذه الحالة أبويًا عشائريًا ناجمًا عن غياب المؤسسات وقوانين العرض والطلب وغياب الفرد. والمقصود في هذه الحالة الفرد القارئ الناقد، وغياب التحكيم ذي المعايير النقدية، أي النقد الذي يسبق النشر. ولكي يكون النقد بعد النشر نقدًا فعليًا يجب أن يتوفر النقد قبل النشر. الاحتضان البلاغي للشخص أبوية نقدية، والهجوم الشخصي ثأر ونتقام وعصبوية عمياء، وكلاهما وجهان لعملة العشائرية الأدبية والفكرية.

ورغم كل ما قيل أعلاه، وبعد إدراك ما قيل حول نقد النص، يحق لنا الآن أن نقول أنه يصح، بشروط، نقد المتكلم في سياق نقد كلامه: شخصه، مصالحه، مواقفه. فالنقد أداة اجتماعية وسياسية وحضارية بالمعنى الواسع. وموقع المتكلم، أو الكاتب، أو صاحب الرأي، لا يقع خارج حدود النقد. كما لا تقع آراؤه السياسية والمصالح التي تعبر عنها بعيدًا عن طائلة نقد النص. لكن ليس بوسع الناقد أن يختزل النص، خصوصًا إذا كان أدبيًا أو علميًا، إلى هذه العناصر المتعلقة بصاحب النص.

ويفترض أن يبرّر تناول الكاتب أو المتكلم وموقعه السياسي أو المصلحي بالنقد عبر إثبات العلاقة بين الموقف النصي والمصلحة، أو بين الموقف والأهداف التي يمثلها الكاتب. وإذا كان النص علميًا ومتماسكًا، أو كان أدبيًا إبداعيًا، فسوف تصعب هذه المهمة، وتغدو أكثر تعقيدًا. إذ يحتاج إثبات العلاقة المذكورة بين الإنتاج الثقافي وموقع صاحبه إلى أدوات معرفية وبحثية تتجاوز النقد الأدبي وتحليل النصوص إلى علوم اجتماعية أخرى.

وحتى عندما تتوفر هذه الأدوات وتثبت العلاقة بين موقع المتكلم وكلامه، فإن ذلك لا يلغي قيمة الكلام لا سيما إذا كان علميًا أو أدبيًا إبداعيًا. لذا يجب على النقد أن ينتقل إلى الحوار معه، أي مع الكلام الذي ثبتت قيمته العلمية أو الأدبية. والحوار هنا ليس حول قيمة النص بل حول الرأي الذي يعبر عنه. فإثبات العلاقة بين النص والموقف السياسي أو الإجتماعي، أو بين النص والمصلحة، أو بين النص والموقع السياسي والإجتماعي للكاتب قد يفضح النص، خصوصًا إذا كان النص تمويهًا لموقف. لكنه من الناحية الأخرى قد يثبت الجانب الأيديولوجي فيه إذا كان منسجمًا مع نسق فكري وثقافي كامل يعبر عنه المؤلف عادة. عندها يبدأ النقاش الأيديولوجي معه. وقد يكون النقاش حادًا. 

ومن عادة أصحاب الأيديولوجيا الغيبية والعصبوية أن يحولوا النقاش الأيديولوجي إلى عملية تحريض، من دون التعامل مع الحجج التي يسوقها صاحب الأيديولوجية العقلانية. فمجرد التعامل مع هذه الحجج يقودهم إلى ساحته، أو حلبته، حلبة العقل. وهناك لا بد أن يخسروا النقاش. لذلك يكتفي أولئك عادة بالهتاف والتشهير والتكفير من خارج الحلبة من دون التجرؤ على وضع قدم واحدة عليها. والهتاف والتحريض والتشهير تقلب الحديث الشريف ليصبح من واجب المحرضين تقويم "المنكر" باللسان لمن يستطيع، وبالسيف لمن لم يستطع إتقان النقاش.

ولا يكفي فضح الطبيعة الأيديولوجية للنص وإنما يكمن التحدي في تفنيد حججه. ولا يكفي فضح كون النص قوميًا أو شيوعيًا أو اشتراكيًا أو ليبراليًا إلخ. فقد تكون الادّعاءات التي يسوقها صحيحة، بغض النظر عن الموقف الذي يخدم أيديولوجيًا إذا تم فضحه فعلاً. وإذا لم يكن بالإمكان تفنيد حججه، يصبح الصراخ والسباب تعبيرًا عن ضعف. من ناحية أخرى قد تكون الادّعاءات التي يسوقها النص صحيحة نسبيًا، أي في سياقها الأيديولوجي. وحال تحطيم هذا السياق الأيديولوجي تفقد الادّعاءات صحتها، لأنها مبنية على أسس افتراضية خاطئة، أو لأنها تبدو كذلك من منظور وموقع اجتماعي محدد فقط. لكن هذه أيضًا مهمة معقدة تحتاج إلى أدوات تحليلية وعلمية، فلا يكفي فضح السياق الأيديولوجي إطلاقًا لفضح مواقف صاحبه.

وفي حالة النص الإبداعي الأدبي، أو في حالة النص العلمي إذا ثبتت علميته، وهي لا تثبت لمجرد أن كاتبه دكتور، أو لمجرد أنه يحوي بعض الجداول الإحصائية والهوامش والمصادر، في هذه الحالة لا تكفي الدلالة على أبعاده الأيديولوجية، كما لا تكفي الأدوات النقدية أعلاه. بل يجب أن تتوفر معايير إضافية لتقييم علمية المقال أو جمالية النص وصوره وقيمته الأدبية.

ولا يضير النص العلمي أو الأبداعي أن يكون الموقف الأيديولوجي هو دافع الباحث إلى الإنتاج العلمي والإبداع عمومًا، وحتى لو خدمت النتائج هذا الموقف. ذلك أنه لولا وجود قيمة للنص العلمي، مستقلة عن موقف كاتبه الأيديولوجي، لما كان بالإمكان فصل العلم عن بقية حقول المعرفة، ولتحول إلى مجرد نمط من أنماط الأيديولوجيا. ينتج العلم في سياقات اجتماعية وفكرية وأيديولوجية محددة، لكن هذه الحقيقة لا تحوله إلى مجرد نمط معرفي أيديولوجي.

ولولا وجود قيمة للأدب مستقلة عن موقف الأديب والكاتب، حتى لو كان هذا الأدب يخدم هذا الموقف أو ذاك، لطمست خصوصية الأدب التي تميزه من أصناف النشاط والممارسة الإنسانية الأخرى في خدمة نفس الموقف. لكن هذا التمييز يجب أن يتوفر في جودة النص ذاته أولاً، أي أن يتوفر الفرق بين الإبداع والدافع إليه. فالمنشور السياسي ليس أدبًا ولو فرضت عليه القافية فرضًا. ومن ناحية أخرى فالقصيدة الرديئة ليست أدبًا إذا لم تتوفر فيها الجمالية، حتى لو كانت تركيبة من جمل حب فاحش أو عذري، وحتى لو أعلنت ابتعادها عن أي قضية أو التزامها بأي هدف. وحتى لو مُنِعت وأجبرتنا على الدفاع عنها بحجة حرية الأدب، فإن المنع قد يثبت أن النظام الذي يمنع معادٍ لحرية التعبير، لكنه لا يكفي بحد ذاته لكي يحولها إلى أدب.
الدافع الأيديولوجي والشعار السياسي لا يتحول إلى أدب وفن إذا صيغ بلغة أدبية. كذلك فإن غيابه لا يحوّل نصًا رديئًا إلى أدب، ولا يجعل من نشاط إنساني استعراضي فنًا. يفترض النقد حدودًا بين مجالات النشاط الإنساني المختلفة. ومع تغييب الحدود تنعدم خصوصية النقد أيضًا كما تنعدم، بالتالي، الحاجة إليه. إن النقد الذي لا يفقه الحدود بين الأنماط المعرفية المختلفة، ولا يفترضها إذا كانت نسبية، ولا يتوقف عندها من أجل تحديد المفاهيم والمصطلحات، هو النقد الذي تجرفه، وتجرف حدوده أيضًا كنسق معرفي، سيولة المصطلحات غير المحددة.
 

التعليقات