النهضة المعاقة (11): عيب

القتل على خلفية ما يسمى بالشرف، هو قتل بلا شرف أساسه العجز والفقر. والمقصود بالطبع الفقر المادي الطبقي، لكن الكلام يصح أيضًا بالنسبة للفقر المعنوي الناجم عن عقلية وثقافة الفقر.

النهضة المعاقة (11): عيب

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.

____________________________________________________________________

عيب

 

القتل على خلفية ما يسمى بالشرف، هو قتل بلا شرف أساسه العجز والفقر. والمقصود بالطبع الفقر المادي الطبقي، لكن الكلام يصح أيضًا بالنسبة للفقر المعنوي الناجم عن عقلية وثقافة الفقر. إن من يقتل على هذه الخلفية هو الفقير المكشوف لضغط وابتزاز مجتمع العيب الذي يراقبه ويتفحصه. أما الأغنياء في المجتمع العربي، محافظين كانوا أم منفتحين، فيعيشون حياتهم خارج طغيان الجماعة وخارج هيمنة الجمهور على الفرد. العيب قائم أساسًا لدى الفقير، لكنه خفة دم، أو حتى مجرد فرفشة عند الغني. والأخلاق المرتبطة بالعيب هي أخلاق الفقراء.

ومفهوم العيب مرن ومطاط، يتمدد ويتقلص مع الموقع الاجتماعي ودرجة الثقافة ومكان السكن. وهو مرتبط بـ"ما يقوله الناس". و"كلام الناس" هو أكثر من الرأي العام بالنسبة للفرد، والأدق بالنسبة للعائلة. فكلام الناس لا يتعامل مع الفرد معزولاً بل يسلسل نسبه وعائلته وأقاربه باحثًا عن عيوب شبيهة فيهم بدءًا بالأب والابن، أو: "لا، حرام والله أهلها مناح". فلا بد أن يدخل الأهل في النهاية. و"حرام" لأنه رغم أن الذنب ليس ذنبهم إلا أن "فعلتها" قد جلبت عليهم العار. كلام الناس يعكس صورة الإنسان عن ذاته، وهل هي صورة شرعية أو غير شرعية، في أخلاقيات الجماعة الخارجية ومعاييرها التي تذوتها الفرد. الفرد الذي يرى ذاته ويحكم عليها من خلال كلام الناس يلغي فرديته وخصوصيته. والجماعة في حالة العيب ليست جماعة مفترضة. بل هي جماعة قائمة تمارس ضغطًا عبر عاداتها وتقاليدها وأعرافها، وعبر مؤسسة الإشاعة التي تؤرخ للجماعة بكلام قد تتناقله فترة يوم أو سنة أو جيل، أو قد تتناقله الأجيال في عملية تأريخ لرموز الجماعة وترميم لحدودها عبر قصص وحكايات تحدد هويتها الأخلاقية.

في ثقافة "العيب" تُرجّح كفة الأخلاق الجماعية المحددة بالعرف والعادة والتقليد على كفة الأخلاق الفردية، المؤسسة على الاختيار الفردي الحر بين الخير والشر، أو بين هذه الممارسة أو تلك. لا توجد أخلاق فردية بالكامل في أي مجتمع. فالأخلاق مرتبطة بالانتماء والضمير الجماعي الذي يولّده الانتماء إلى جماعة، أو إلى جماعات متباينة  ومتداخلة. كما أن الأخلاق مرتبطة بالحسم الفردي. وحتى ولو كان نصيب هذا الحسم ضئيلاً في القرار، فلا بدّ له أن يسبق لحظة الممارسة.

لكن نسبة المركب الفردي والجماعي تتفاوت من مجتمع لآخر. كما تتفاوت طبيعة الأخلاق الجماعية المعبّر عنها بالأعراف من بلد لآخر، ومن ثقافة طبقية لأخرى ضمن نفس المجتمع. وقد يكون التفاوت في الأعراف وفي منسوب المركب الفردي والجماعي للأخلاق بين الطبقات الاجتماعية داخل نفس المجتمع أكبر منه بين المجتمعات بحيث يَسخر من الانتماءات الوطنية والقومية وحدودها.

وإذا زاد مركب الحسم الفردي في الأخلاق وزنًا فإن هذا يؤثر على طبيعة الأعراف الاجتماعية، ويجعلها أكثر مرونة في تقبّل الخيارات الفردية المتعددة. لكن هذه الليبرالية الاجتماعية التي تجعل الفرد نظريًا سيدًا على جسده وعلى نمط سلوكه الاجتماعي، لا تمر من دون ثمن. يتمثل هذا الثمن باغتراب الفرد عن الجماعة، وربما تذريره. وقد يشكل هذا التذرير أساسًا لإعادة إنتاج معنوية للجماعة العضوية التي اندثرت على شكل تعصّب ورد فعل عصابي على الحداثة. لكن هذا الاغتراب في حالات الحداثة التي تطورت بشكل "طبيعي"، والذي يتجسد بأنماط مختلفة من الأزمات النفسية والجماعية، هو من ناحية أخرى شرط نشوء الانسجام الواعي وغير القسري بين الفرد والمجتمع من خلال وعي الفرد للحقوق والواجبات تجاه الآخرين وتجاه الحيز العام.

وفي المجتمعات التي تسود فيها الأخلاق الجمعية فإن طبيعة الأخلاق الفردية تتغير وتتعدل بموجب ذلك، وإلاّ تحولت الحياة إلى توتّر مستمر. مع ذلك فإن هذا التعديل لا يغير من الفجوة في هذه الثقافة بين ما يقوم به الفرد في العلن وما يقوم به في الخفاء. تضييق الهوة بين الستر والبواح وبين الخفاء والعلن وبين السريرة والجهيرة هو معيار الانسجام بين الفرد والمجتمع. ويشترط هذا الانسجام تمييز الفرد لذاته وأخلاقية هذه الذات. إنه يشترط الاغتراب. فالاغتراب شرط الاقتراب. وهو قد يكون مدمرًا لأواصر العلاقات والجماعات العضوية والرابطة الانتمائية العاطفية والحميمية المؤسسة عليها، بما يخلقه ذلك من أزمات الفردوس المفقود. لكن لا بديل عن تميز أخلاقية الفرد، لكي تكون أخلاقًا فعلًا، وإن كان ذلك ضمن تعديل طبيعة الانتماء الاجتماعي.

في مجتمع ينشغل نصفه بمراقبة نصفه الآخر، غيرةً أو كبتًا وشهوة مرضية مؤذية اجتماعياً، تعاق نهضة النصفين، المراقِب والمراقَب، وتزداد الفجوة بين الأخلاق الفردية والأعراف العامة. في مجتمع يتم فيه تحويل المرأة إلى موضوع للشهوة الجنسية، ويحول فيه جسدها كله إلى عورة يفقد الفارق بين البورنوغرافيا والجمال، كما يفقد جزء كبير من طاقة المجتمع في عملية الرقابة ووضع الحدود والتستير على العورة، في مجتمع يتم فيه التحرر من هذه الحدود بالدفاع عن البورنوغرافيا بدل مهاجمتها كشكل آخر من أشكال التعامل مع جسد المرأة للاستهلاك، في مجتمع تبرز فيه الرجولة كصفة نقيضة وليس كصفة مكملة للأنوثة، يكون تطور نصف المجتمع على حساب نصفه الآخر. في مجتمع يخير المرأة بين أن تكون جارية تقليدية، من بين جاريات أخريات في بعض الحالات، أو دمية مصمودة تشغّل جواري، أو رمزًا للوطن تشتق شرعية مطالبتها بالحقوق من أنها ناضلت ضد الأجانب، ومن أنها أم رمز للوطن وللخصوبة والتكاثر، في مجتمع يُفقد المرأة المتحررة توازنها بالضغط عليها يوميًا لتجاوز الأخلاق البسيطة ولتجاوز علاقة الحب الإنسانية العادية بين شخصين إلى الانزلاق التام ما دامت قد "تحررت"، في مجتمع كهذا يتم القتل على خلفية الشرف. إنه ذات المجتمع الذي يضع أمام المرأة خيار الجارية التقليدية من بين جاريات، أو الجارية "الدمية باربي"، أو أداة الشهوة الجنسية خارج إطار العائلة، أو موضوع القصيدة الغرامية الوطنية الرومانسية التي تجمع ما بين الإحباط الجنسي والوطني وتموضعه في المرأة، كما أراد نزار قباني للمرأة أن تكون.

المقصود بالقتل على خلفية الشرف هو شرف الرجل، أو شرف رجالات العائلة. فشرفهم هو ملكية جسد المرأة. وجسد المرأة هو نقطة ضعف ذي أو ذوي الشرف المزعوم. إنه مقتل العائلة البطريركية وتراتبيتها الهرمية كما يراها الرجال. والقتل هنا ليس عقابًا ولا إعدامًا. القتل هنا يكاد يكون طقسًا وثنيًا لمحو العار بالدم، كما أنه إنهاء لمصدر العار بنظر المجتمع الرجولي المكبوت، ألا وهو جسد المرأة. أما جسد الرجل فلا يشكل مصدر عار أو شرف للمرأة، وهي لا تملكه. والغيرة هو أقصى ما يمكن أن تشعر به المرأة بموجب هذا المنطق تجاه الرجل إذا مارس نفس الخطيئة. أما الشرف فهو قضية الرجال، أو العائلة بمجملها كما تتجسد في حماة حدودها الرجال الكبار ومندوبيهم ومكملي دربهم الشبان الأشاوس الذين قد يحوّلون الموضوع إلى معركة وطنية.

يبدو أن القتل على خلفية الشرف من قبل الأخ أو الأب أو الإخوة، بغرض تحمل المسؤولية بشكل جماعي، قائم على أخلاقيات الانتماء إلى الجماعة العضوية الطاغية على حياة الأفراد. الجماعة تضع المعايير المتوارثة وتعطي معنى للأخلاق من خلال المسلمات الاجتماعية، والمؤسسات الاجتماعية، مثل العائلة وقرابة الدم. وترتبط أخلاقية الشرف برابطة الدم، وبضرورة الحفاظ على مؤسسة العائلة. وتقابلها في الغرب في المجتمعات الرأسمالية المتطورة جريمة القتل على خلفية عاطفية يقوم بها الزوج أو الصديق، لأن أحد طرفي العلاقة – التعاقد قد "خان" العلاقة. تقوم علاقة الملكية هنا والأخلاقيات التي تبررها وتتأسس من خلالها على التعاقد. الأخلاقيات التعاقدية خلافًا لأخلاقيات العائلية تؤدي في بعض الحالات إلى "القتل على خلفية عاطفية". والقتل قتل، لكن الفرق الجوهري بينهما أنه يمكن تصور وضع قتل على خلفية عاطفية يكون القاتل فيه هو المرأة ضد الزوج الخائن، ولو بدرجة أقل من العكس. لكن لا يمكن تصوّر وضع تقتل فيه الأخت أخاها، أو الأم ابنها، لأنه دنس شرف العائلة. يرتبط الشرف إذًا بالمجتمع البطريركي الذي سبق وقدمه للمجتمع العربي مطولاً هشام الشرابي.

جريمة القتل هي أبشع الجرائم عند الشعوب المتحضرة، لأنها تعتدي على أهم قيمة اجتماعية بنظر المجتمع: حياة أفراده. فمن دونها لا يقوم مجتمع، وتتحول الجماعة البشرية إلى قطيع تحكمه قوانين الغاب حيث الحياة والحفاظ عليها ليسا قيمًا أخلاقية، بل طبيعة قد تتعارض مع طبائع أخرى في صراع البقاء. يصبح القتل هنا طبيعيًا ناجمًا عن صراع بين الطبائع. أما في المجتمع فقد يرفع الفرد، أو الأفراد، قيمة فوق قيمة حياته هو، أو حياتهم هم الفردية. وهنا تبرز قضية التضحية والتفاني من أجل قيمة أو قيم أو انتماء يجسّد هذه القيم. لكنهم لا يستطيعون أن يرفعوها فوق حياة الآخرين في علاقتهم الفردية بهم لتبرير القتل.

لا يقبل المجتمع الحديث قتل الأفراد حتى لو كان دفاعًا عن قيمة رُفعت فوق حياة فرد آخر. ولا يستطيع أن يقبل بذلك. لذلك فإنه لا يحاكم بتهمة القتل فقط المجرمين، اللصوص مثلاً، الذين يرتكبون جريمة قتل أثناء اعتدائهم على قيمة أخرى هي قيمة الملكية الخاصة، بل يُحاكم أيضًا بنفس الصرامة القاتل الذي يبرر القتل بأسباب أخرى ذات علاقة بالطبيعة الإنسانية: الحب والكره والغيرة والخصومة وغيرها. وليس نصيب "الشرف الرجولي" بأفضل من نصيب هذه الدوافع والأسباب، بل هو سبب يدعو للتشدد وليس للتساهل لأنه ينطلق من استضعاف المرأة واعتبارها ملكًا للأخ أو للأب أو للزوج.

فكم بالحري عندما لا تكون هناك علاقة للشرف بالموضوع، أي عندما يمنع "العيب" الناس من دحض ادّعاء الشرف، لأن مجرد الخوض فيه "عيب". هذا "مجتمع العيب" الذي لا يعتبر الكذب والنفاق والاحتيال والفهلوية والاعتداء على الأملاك العامة وإزعاج الناس والتدخل في شؤونهم الخاصة عيبًا، ولا يعتبر نفاق ذوي السلطة والشأن والجاه والسطوة والتفريط بالحقوق والذل والهوان عيبًا، ولا يعتبر كذب السياسيين وافتراءاتهم عيبًا بل يعتبر العيب في أن تعود امرأة، أو تلتجئ، إلى بيت أهلها بعد التنكيل بها من قبل زوجها بحيث يخيم شبح العيب على العائلة طوال وجودها في بيت الأهل. العيب في أن تنفصل عن زوجها الذي من الممكن أن تكون قد تزوجته أصلًا لأنه "عيب" أن تبقى عزباء. وقد تُقتل هذه الإنسانة ليتّضح أن لدى الشرطة تاريخًا من الشكاوى ضد هذا الرجل وعنفه، لكن "العيب" منع الناس والمجتمع والأهل من معالجة الموضوع.

العيب عند المجتمع الحديث والمتحضر أن تترك إمرأة وأطفالها فريسة "العيب". العيب أن يكون متنفس الرجل في مجتمع مضطهّد هو الاعتداء على الآخرين، أو البحث عن كرامته ومحاولة استعادتها بافتعال خلاف و"طوشة" عمومية على موقف سيارة، أو باسترداد وطنيته ورجولته الضائعة لمصادرة أرضه بافتعال خلاف على متر أرض مع جاره يُحسم بالسكاكين. العيب أن نخشى "العيب" في تقولات الناس ونظراتهم، وألا نراه في الكذب والتصنع والتلون والاحتيال. العيب ألا نرى العيب في جريمة قتل إنسانة، وألا نمنع الجريمة القادمة.

وكم من مغتصبة قتلت مرتين: مرة عندما اغتصبت فرديتها وخصوصيتها وحريتها وحُوّلت إلى عبد يلبي احتياجات وغرائز الرجل الحيوانية قسرًا، ومرة عندما قُتلت على خلفية تلطيخ الشرف. العيب أن يتم التعامل مع جسد المرأة الغربية كأنه أداة ومتنفس لغرائز حيوانية مكبوتة، وأن يتم التعامل مع جسد القريبة كأنه موطن الضعف ومصدر العار. العيب هو في الأخلاقيات التي تنقلب إلى عكسها خارج نطاق علاقات السيطرة داخل العائلة. مجتمع بكامله أثرى حديثًا مشغول طيلة أيام السنة بشاغلين يستحوذان عليه: إخفاء المرأة في الوطن، والبحث عنها كموضوع للرجولة الجنسية خارج الوطن. هل بالإمكان التسامح مع رجل يتنزه في الخارج ويمنع الهواء عن زوجته، بحيث تتناول الغذاء تهريبًا من تحت القناع؟  وهل بإمكان المجتمع أن ينهض وهو في هذه الحالة من الانشغال الذي يستحوذ على أخلاقه وعلى وقته وطاقته.

ومجتمع آخر سُحِقت فيه الطبقة الوسطى بتوسع الهوة بين الغني والفقير، وأفقرت حديثاً وتدهورت لتنضم إلى الجماهير الفقيرة، فقد الشرف والعيب نهائيًا وحوّل جسد المرأة إلى أداة للكسب وذلك بالتغاضي الاجتماعي العام والتسامح مع الإزعاج الجنسي الذي تتعرض له الموظفة من قبل المدير أو المشغّل، وذلك إما لأن الكلام عن الموضوع عيب وإما للحفاظ على وظيفتها كمعيلة، هنا يصبح "العيب" براغماتيًا ونسبيًا. يرتكب هؤلاء جريمتين أولاهما بحق المرأة العاملة والثانية بحق من يُحرمن من العمل نتيجة لمبالغة القوى الأصولية وحراس حدود العائلة من المؤسسة الدينية بحجم الظاهرة. ويكمن الخطر الثاني بتحويل جسد المرأة كله إلى عورة مستورة بانطواء العائلة على ذاتها خوفًا من المجتمع الجماهيري. وتزداد هذه الإمكانية مع إزدياد شعور الفلاح أو ابن الفلاح أو ابن الطبقة الوسطى سابقًا بفقدان شخصيته وذاتيته ومكانته في المجتمع الجماهيري فيسعى لتكريسها بقوة أكبر كبطريرك داخل العائلة.

تنطلق أخلاقيات التنوير، من الأمر أو الوازع الأخلاقي الذي حاول إيمانويل كانط أن ينصه كـmoral imperative ويعتبر أن المسلك الفردي يوجه ذاته بحيث يصلح أن يكون معيارًا للمجتمع ككل، أو من عدم قيام الفرد بأعمال قد يكرهها لنفسه. الأساس هنا أن الأخلاق فردية وحرة ولكنها تتضمن البعد الاجتماعي الذي يمكّن من الحياة في مجتمع. ومفهوم العيب لا يضمن هذا النوع من الأخلاقيات إطلاقًا، بل قد يناقضه في حالات. خذ كيفية تعامل الرجل مع المرأة كأداة وكموضوع لغرائزه، واعتباره تعرضها لإلحاح غرائزه نوعًا من العيب، ثم اعتبار ذلك كله عارًا إذا لحق بمن تقربه قرابة الدم. فبإمكان تخيل حالة يؤمن فيها الفرد بالعيب في أن تتعرض إمرأة لإلحاحه الغريزي وتخضع له، دون أن يعتبر إلحاحه أو تحرشه عيبًا. العيب يتضمن هنا بحكم تعريفة إزدواجية في المعايير. وفي حالة تعرض إمرأة ترتبط بأحد حاملي قيمة العيب الأشاوس بقرابة الدم إلى أمر مما يفعله هو مع أخريات فإنه يعتبر ذلك أكثر من عيب، إنه يعتبره عارًا. ليس مفهوم "العيب" إذاً مفهومًا تنويريًا أخلاقيًا فرديًا، بل هو عائق أمام تشكل هذا النوع من الأخلاق.

هذا هو السر وراء دفاع "المرأة" كما نتصورها، بشكل يكاد يكون تلقائيًا، عن ذاتها أمام نوايا "الرجل" كما تتصوره في مجتمع العيب ومخياله الاجتماعي. إنها تدرك بالسليقة، أو بالذكاء العاطفي، أنه يريدها وسيلة لا غاية، يرغب فيها موضوعًا لرجولته وليس لحبه أو عاطفته، ولا ذاتًا بشرية فردية قائمة بذاتها. إنها تدرك بالحس المدرب عبر الأجيال أن هذه الأداتية غير متبادلة، ليس فقط بالنسبة لعلاقتها به بل بالنسبة لرجال آخرين في علاقتهم الأداتية مع النساء اللواتي يعتبرهم في إطار انتمائه العصبوي القبلي. فهو يرفض أن يتعامل الآخرون مع نساء من نفس القبيلة بشكل أداتي.

وقد تتوسع القبيلة قياسًا بنقطة المقارنة ومرجعيتها وزاوية المراقبة. فقد يشعر الرجل خارج بلده أن ابنة بلده تقع ضمن نطاق غيرته، بحيث إذا اقترب منها رجل من خارج البلدة تصبح جزءًا من قبيلته. وقد يغضب على عربية لأنها صادقت أجنبيًا أو تزوجت منه، في حين يعتبر هو صداقته من الأجنبيات، ليس لغرض الزواج، رياضة ترفيهية يتم التباهي بها بغباء معروف بات موضوع سخرية في الشرق والغرب على حد سواء. حدود القبيلة حالة نسبية، إذًا، لكن الانتماء يغلي في العروق في حالة رابطة الدم القبلية.

وكم يظهر خبث "التآخي بين الطوائف" عندما يرضى الأهل بزواج ابنهم من فتاة من طائفة أخرى، لكنهم يرفضون أن "تأخذ" هذه الطائفة ابنتهم. لا بأس أن "يأخذ" الابن فتاة من "عندهم"، لكن البؤس نفسه يتجسد في العكس. فالعيب يجعل عائلة الفتاة تتوارى عن الأنظار، تخزها نظرات "الناس" في ظهورها. لقد أصبحت لديها نقطة ضعف قد تستغل ضدها في كل خصومة اجتماعية. فما قبل هذه الواقعة ليس كما بعدها في علاقة "الناس" بها. لكن الرفض قد يتغير تمامًا إذا كان "الآخذ" المنتمي إلى طائفة أخرى غنيًا أو زعيمًا سياسيًا ذا نفوذ في أجهزة الدولة، فالعيب يصبح براغماتيًا في هذه الحالة. العيب يخضع نفسه لحساب الربح والخسارة. كما أنه جبان يتراجع أمام ذوي السطوة والسلطان. وتظهر في الزواج العابر للطوائف كل عقد "الأقليات" و"الأكثريات" الطائفية، وتؤكد أن الزواج المدني وحده في النهاية هو دليل على اندماج الأمة الوطنية أو القومية، وأنه من دونه تجسد المرأة في الخيال الاجتماعي نقطة ضعف "الأقلية" أما الأغلبية، أو تجسد من زاوية النظر المعاكسة، أي في حالة تزوج "ابن الأقلية" إلى "بنت الأغلبية"، تمادي أبناء الأقلية إلى درجة "أخذ" إمرأة من "بنات الأغلبية"، وفقط الرابط الوطني المدني يجعل الجميع أبناء نفس الأغلبية.

ليس "العيب" أخلاقًا بالمعنى الفردي للكلمة. فما الأخلاق إلا خيار يُفتَرَض أنه حر بين الخير والشر بتعريفاتهما الاجتماعية السائدة. إنه الجانب القسري من الأخلاق، مجموعة المحاذير والقيود الاجتماعية. ويتحول "العيب" إلى أخلاق إذا تذوته الفرد. وإذا تذوته فإنه يقلل من التوتر بين الفردي والاجتماعي، لكن على حساب قدرته على التفكير والتحليل والموازنة وتحمل المسؤولية، أي على حساب تطوير شخصيته وشخصية من حوله، خصوصًا إذا حوّله تذوت "العيب" ليس فقط إلى مقموع بل إلى قامع أيضاً.

من ناحية أخرى فإن ضغط "العيب" قد يؤدي إلى ردة فعل التحلل الكامل من "العيب" ورمي طفل الانتماء مع مياه الغسيل المتسخة. قد يكون التحرر من "العيب" عنيفًا إلى درجة فقدان التوازن والروادع الأخلاقية. فالتحرر من "العيب" يتطلب جهدًا نفسيًا واجتماعيًا كبيرًا قادرًا على إزالة كل الحواجز، لأن الطاقة العاطفية والنفسية والأخلاقية المبذولة لاجتياز هذا الحاجز تتفجر وتأتي على كل الحواجز، بما فيها الانتماء والمرجعية الأخلاقية. وإذا زالت كل الحواجز تزول العلاقة مع المجتمع وإمكانية التأثير عليه. تَذوّت "العيب" نقمة مدمرة للفرد. ولا تقل عنها تدميرًا ردة الفعل غير المتزنة عليه. الأنكى أن ردة الفعل على "العيب" قد تتخذ شكلًا نضاليًا تحرريًا عديم التأثير على المجتمع الذي يُطوّر بدوره ردة فعل عصبية على ردة الفعل العصبية. وما يبدأ كتحلل الفرد من المجتمع هربًا من "العيب"، أو في مواجهته قد ينتهي بتبرؤ المجتمع من الأفراد، أي بتهربه من تأثيرهم. "للعيب" تأثير مدمر على متبنيه الفاقدي الشخصية الفردية، وعلى ممارسي نقيضه في السر حد الإنحلال الأخلاقي الكامل في فئات اجتماعية بأكملها تمارس الكذب في كل لحظة. كما أنه ذو أثر مدمر على المتحللين منه الذين لم ينجحوا بلملمة ما انفرط وإنحلّ بتحللهم من أي عمود فقري أخلاقي بديل يرغب في التأثير على المجتمع.

التعليقات