النهضة المعاقة (12): "مين هو؟"، "وليش مش أنا؟"

في النظام السلطوي القمعي تؤدي الفردانية إلى استخدام القمع لفرض التراتبية والهرمية. وفي النظام التعددي الأكثر انفتاحًا تؤدي إلى منافسة بين السياسيين على تملق غرور الفرادنية بمظاهر الإغواء وإرضاء "الإيغوء".

النهضة المعاقة (12):

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.

_______________________________________________________________________________

"مين هو؟"، "وليش مش أنا؟"

 

عزا بعض المستشرقين المحدّثين عدم قدرة المجتمع العربي على ملاقاة تحدي الديموقراطية إلى "الفردية" العربية وعدم القدرة على العمل جماعة، التي "اكتشفها" مستشرقون كلاسيكيون سابقون، والتي تعوق، حسب زعمهم، بناء المؤسسات الاجتماعية والالتزام بإجراءاتها وقراراتها. ويستغرب القارئ ذو النزعة المعادية للاستشراق أصلًا هذه التهمة التي تشكل محاولة تفسيرية تعميمية بائسة وجوهرانية الطابع وبالتالي عنصرية. واستغرابنا لا يقف عند رفض التعميم، ولا عند رفض البحث عن سبب واحد هو "أصل المشكلة"، ويلعب دور "الخطيئة الأولى" التي تفسر كل الشرور التي تلتها. مع أن هذه الأخطاء المنهجية وحدها تستحق جام غضبنا.

استغرابنا لا ينبع من هنا. ونحن نخجل حتى في اللاوعي من البوح بداواعيه: المجتمع العربي يعاني من الفردية؟!  ولسان حالنا يقول: ليت هذه التهمة كانت صحيحة!  وحتى لو تجاوزنا إشكالية صياغة هذا التفسير عبر نموذج "الخطيئة الأولى"، وهو تفسير أسطوري في كل حال كما هو في حالة تحميل الفردية مسؤولية غياب الديموقراطية، فمن حقنا أن نناقش مع ذلك نوع الخطيئة التي يتم اختيارها للتفسير. فمن "الخطايا" ما لا يخطر ببال. قد نتناقش في تعثر المؤسسات الاجتماعية الناظمة للأفراد كـ "خطيئة" عربية "أولى". لكن "الفردية"!؟  وهل هذه خطيئة؟  أليست الفردية شيمة يعتز بها المستشرقون ذاتهم في المجتمعات الغربية؟  أليس توفرها شرطًا لقيام المجتمع المتنور ناهيك عن الديموقراطية والحريات الفردية وحق الاقتراع، وكلها تفترض الفردية؟  يتفرّد الفرد في المجتمع، ولا تناقض بين الاجتماعية والفردية. فالمجتمع Gesellschaft خلافًا للجماعة القبلية العضوية Gemeinschaft يتألف من أفراد، أو هكذا يفترض نظريًا لفهمه كحالة شبه تعاقدية بين أفراد أقاموه من خلال إقامة المؤسسات. والأفراد لا يقيمون جماعة عضوية، بل هم يولدون فيها ماديًا أو معنويًا، وبمعنى آخر فإن الجماعة العضوية تقيم أفرادها وليس العكس.

والفردية التي تناقض الاجتماعية هي ذاتها الفردية المتصعلكة المنبوذة والنابذة، التي تنجز الانفصال عن القبيلة بنفيها خارجيًا، أي بالابتعاد عنها في المكان. ويحدد الفرد المتصعلك فرديته هذه سلبيًا من خلال نبذ القبيلة له. لكن فرديته لا تتطور بذاتها، كما أنها لا تشكل نفيًا جدليًا للقبيلة. ولا يتفرّد الإنسان فيها كما يتفرّد في المجتمع. وفي عصرنا ليس الخروج عن القبيلة تصعلكًا بل قد يكون أساس انتماء الفرد إلى المجتمع المؤلف كله من أفراد "تركوا قبائلهم" المفترضة، كما يفترض على الأقل، ووجدوا الحماية في المؤسسات، وسيادة القانون أولى هذه المؤسسات التي تحمي الفرد خارج قبيلته من تجاوزات الدولة والأفراد الآخرين.

ما المقصود إذن؟  وهل فقد المستشرقون عقولهم إذا اعتبروا الفردية مشكلة العرب؟  مهلًا، فهكذا نُسهّل المهمة على أنفسنا أكثر مما يلزم. فليس المقصود الفردية التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة، كما يقوم عليها مفهوم المواطنة. وإنما المقصود هو الفردية (الفردانية إن شئتم في هذه الحالة) التي تنفي الاجتماعية التعاقدية والتزاماتها، وبذلك تميل بالعكس للعودة إلى الجماعة العضوية إذا صلحت كأداة لصالح الفرداني الذاتوي، ذاك الذي تحرّكه المصلحة الذاتية الفاقدة التوازن مع الصالح العام بالمطلق.

لا يرى الفرداني، الذاتوي الدوافع والسلوك، الصالح العام. إنه لا يحسه، ولا يلمسه إلا كنقيض. وقد يضطر للتعايش معه اضطرارًا. هذا النوع من الفردية ليس شرطًا للديموقراطية بل هو، من دون خطيئة أولى أو أخيرة، أحد أسباب غيابها، لا لأنه لا يحترم العام فحسب، بل لأنه يعني إجباره على فعل ذلك بقوة القانون. وهذا يعني أن احترام المؤسسات ليس قاعدة عامّة تحتمل شواذًا وتحتاج لتدخل القانون عند انتهاكها، بل هي بالمجمل حالة مفروضة قسرًا. وإذا كان احترام المؤسسات بالمجمل حالة مفروضة بحضور القوة الدائم، أو نتيجة للتلويح الدائم بوجودها، فلا يمكن الحديث عن فردية اجتماعية أو مجتمع مؤلف من أفراد.

حالة التنافر بين المسلك الفردي والنزعة الفردية وبين الحالة الاجتماعية، كمصلحة عامة وكمؤسسات، هي المقصودة إذًا. وعلينا أن نسلّم بأنها منتشرة إلى حد أننا لا نلاحظها. فنحن ما زلنا نعتبر المواظبة، والعمل ضمن مؤسسات، واحترام الحيّز العام، وعدم التهرّب من دفع الضرائب ظواهر متميزة وغير عادية يستحق صاحبها أن يُحمد عليها أو أن يعتبر ضعيفًا أو مستهبلًا، حسب زاوية النظر.

من منّا لم يلتقِ مع الناشط السياسي الذي يعارض كل ما لا يشارك فيه (لأسباب مبدئية بالطبع)، ثم يعارض كل ما يشارك فيه إذا لم يشارك في تأسيسه، أو يعارض كل ما ساهم في تأسيسه إذا لم يتزعمه، ويقيم تنظيمًا آخر لكي يكون بالإمكان أن يتزعمه؟  من يعترض على هذا النوع من السلوك، الذي درجت الناس في الماضي على تسميته انتهازيًا،  يضع نفسه في مصاف معادي التعددية، (ومعادي الفردية أيضًا؟  ولم لا؟). لقد انتشر هذا النمط إلى درجة لا يقابل فيها الاعتراض إلا بالاستغراب باعتبار أن هذا السلوك الفردي هو السلوك الرائج وربما النموذجي في حالة اعتبار القيمة الأساسية هي قيمة النجاح الفردي أو الإنجاز أو البروز، و"لا موقف ولا يحزنون". أما الاعتراض فيواجه بالاستغراب: ما دام هذا السلوك لا يضرّ بمصلحة المعترض أو إمكانيات تقدمه، أو كيانه الاجتماعي، أو كيان "جماعته" (الطائفة، العائلة، جماعة المصالح)، فلماذا يعترض؟  وهكذا لا تقدّر مبدئية المعترض. ولا مكان أصلًا للمبدئية في هذا التفسير الفرداني المصلحي الدائري للسلوك البشري. وهذا يعني أن المجتمع بات يعتبر أصحاب الموقف المبدئي غريبي الأطوار، أو مشكوكًا بدوافعهم، وهم الاستثناء.

وغالبًا ما يضيع الوقت في الإقناع بمبدئية الموقف وانطلاقه من الصالح العام أمام شكّ المشككين بالدوافع. وقلّما تتاح الفرصة، أو يسعف الوقت، للوصول إلى الموقف ذاته. وهكذا أيضًا يُتّخذ موقف إيجابي، في أفضل الحالات، من صاحب موقف لمجرد الاعتقاد أن دوافعه أيديولوجية أو مبدئية، خصوصًا إزاء ندرة هذه الحالة. أما صحّة الموقف "المبدئي" ذاته فتصبح قضية جانبية. وقد تكون الطريق من هنا قصيرة لتقدير التعصب باعتباره نوعًا من التفاني والإيثار أمام حالة استئثار المنطق الفردي المصلحي. هذا النوع من الفردية يضر على الوجهين، وكالمنشار ينشر الصالح العام بالاتجاهين: من زاوية الضرر المباشر والبالغ الذي يلحقه بالمجتمع بإعاقة بناء المؤسسات، ومن زاوية رد الفعل الإجتماعي عليه، مرة باعتبار هذه الفردانية معيارًا، ومرة باعتبار التعصب من أي نوع والتحجر الأيديولوجي صفات إيجابية أمام الانتهازية الفردية المطلقة السائدة.

وعندما يعمل الفردي الفرداني في مؤسسة فإنه يحول تنظيم التبعية والولاء للفرد إلى شكل التنظيم الأساسي. ويعاد تشكيل المؤسسة بحيث تحترم الإجراءات فقط بغرض تبرير الخطوات، التي يتم ملاءمتها خارجيًا للإجراءات، لا غير. وإذا كان الفرد تابعًا ومواليًا فإنه يغير ولاءاته تبعًا للهرمية الجديدة وخطوط الولاءات الجديدة. ويصبح الأساس هو ضمان ترتيب وضعه بموجب ما هو مقبول ضمن إعادة التشكيل. لا تناقض إذًا بين الولاء والطاعة والفردية الانتهازية. فهذه قد تتطلب الولاء، كما قد تتطلب إثارة عصبيات جماعية تبدو مناقضة للفردانية، ولكنها في الواقع تصب في خدمتها.

وكلمة الذاتية أدق في تصوير هذا السياق من كلمة المصلحة، لأنها تشمل أيضًا النزوات الذاتية والميول: الحب والكره والغيرة الشخصية والرغبة في إثبات الذات وحب الانتقام وتصفية الحسابات الفردية، وهذه لا تعكس كلها مصلحة بالضرورة. ومن ينطلق من ذاتياته لا يتوانى عن إثارة مشاعر جماعية إذا ضمنت له الولاء لا لسبب من ولاء وعصبية، بل لأنها تفيد في التعبير عن هذه الذاتيات وتُسخّر لخدمتها. ولكي يخرّب صاحب النزعة الذاتية أي جهد منظم لا يترجم مصالحه ونزواته ولا يعبر عنها فإنه، على أتم الاستعداد لأن يسأل فجأة: "وشو مع منطقتنا؟" أو "ماذا بالنسبة لطايفتنا؟" أو "إحنا ما حد جايب سيرتنا، ولا إحنا مش بشر يعني؟". وهو في الواقع لا يعكس مصالح هذه المنطقة أو تلك الطائفة، بل يستثير كل هذه النزوات الجماعية لصالحه، أو لتخريب ما ليس لصالحه، إما ليحصل على المنصب ليمثل هذه "المنطقة" أو تلك "الطائفة" لأنه نطق باسمها وليُضْمَن هدوؤه عن إثارة النعرات، أو بلا سبب إلا النزعة التخريبية الذاتية من دون مصلحة فردية.

وهي نزعة قائمة ومستعصية على التفسير في الحالات الفردانية أو الذاتوية المتطرفة. يقف شاب فجأة ويخرب اجتماعًا أو تجمعًا، بصراخ أو زعيق أو بافتعال توتر، أو يخرب جهدًا لتنظيم حي أو قرية أو للدفاع عن مصلحة جماعية من دون سبب واضح، أو لأن القيمين نسوا أن يدعوه، أو لأن أحدهم نسي أن يحيّيه قبل عام عندما رآه، ومنذ تلك اللحظة وهو ينتظر ساعة الانتقام، وقد حلّت. ولا يتم الانتقام بمبارزة سيفية بعد رمي قفاز في وجه غريمه، ففرديّنا ليس فارسًا، ولا يتحلى بأخلاق الفروسية. وهو لا يتحرك ولا يندفع إلى الأمام بدافع الشرف، بل بدافع النقمة والضغينة. وهو لا يجازف بخوض مخاطرة من أي نوع، فعمله هو تخريب جهود الآخرين بالدّس والتآمر، وهو الجهد الجماعي الوحيد الذي ينسجم فيه ويتقنه.

الفردية المقصودة هي بقايا مشوّهة من فردية الأعرابي وعنعناته ومفاخراته وبحثه عن الغنيمة السهلة التي تعوق انسجامه في البنى الاجتماعية إلا العصبية التي تشكل جزءًا من شخصيته. ولأنه لا يستطيع منها فكاكًا فإنه يحترم العرف في داخلها، لكنه متحلل منه خارجها. لذلك لا يعتبر الغزو سرقة. والحرام عنده لا ينطلق من احترام القانون. الحرام والحلال يصحّان لديه داخل القبيلة، أو نتيجة لتوازنات القوى الرادعة بين القبائل، أو التحالفات، وهي كثيرة.

إنها النزعة إلى المفاخرة بالمكانة التي تعيق تميز الواحد على الآخر في المسؤوليات، وتدفع إلى نوع مشوّه من المساواة التي ترفض المستويات المختلفة في توزيع المسؤولية. وهذه في الواقع ليست مساواة بل هي نقيضها: التميّز والإصرار على التميّز، الذي لا يمكن من المساواة في الفرص بين الأفراد، أو من تحمل المسؤولية بموجب معايير، أو حتى من دون معايير. فهنالك مشكلة جوهرية في أن يتلقى فلان تعليمات من فلان، ناهيك عن فلانة، ضمن إطار مؤسسة أو بعد عملية انتخاب. ولا يكون الإصرار الذاتي على الحق في الزعامة، أو في المنصب، أو في تحمل المسؤولية، وعلى إتاحة الفرصة للوصول إليها، مجردًا للفرد المجرد بحيث تكون بالاشتقاق من العام إلى الخاص. فمن حق فرد عيني يمثل حالة من الكفاءة أو المؤهلات، التي تغطيها المعايير العامة المفترض أن تسري على أي فرد، أن ينافس على الوظيفة أو القيادة أو المنصب. لكن الإصرار هنا على الذات، على كل ذات بعينها ينطلق من: "ما في حد أحسن من حد". ويخطئ من يعتقد أن هذه العبارة الجوفاء والمتغطرسة تكشف نزعة مساواتية، بل هي غطاء خجول، لكنه شفاف بحيث يكشف انعدام الخجل، للقول: "ما في حد أحسن مني". إنه الفرق كل الفرق بين الفرد والذات، وإنها محاولة الخلط المشوهة بينهما.

إنها تخفي نزعة لعدم قبول أي نوع من التراتبية في تحمل المسؤولية مما يؤدي إلى القسر وفرض التراتبية فرضًا في المؤسسات. وعندما تفرض التراتبية فرضًا لغرض إقامة المؤسسة، فإنها لا تحل مشكلة الفردانية. بل تعد لها مسارات التفافية للتعبير عن ذاتها عبر المحسوبية والفساد والتآمر وتعطيل العمل والبيروقراطية غير المبررة. في هذه الحالة تصبح البيروقراطية آلية للتهرب من أداء الواجب عبر تجنب القرار. ففي كل قرار مسؤولية وبالتالي مجازفة، وفرديّنا لا يعتبر المجازفة في غير مصلحته أمرًا محمودًا. إنها آلية للتهرب "فرديًا" من تحمل المسؤولية الفردية. والتهرب من المسؤولية والواجب المنظم اجتماعيًا، الذي تقوم البيروقراطية الحديثة وأخلاقياتها وعقلانيتها عليه، هو هروب من الفردية الحقيقية. فقد تُختزل الفردية في الحياة اليومية في لحظة الخيارات الأخلاقية الحرّة للفرد التي يطرحها تحدي الواجب الذي أنيط به. ويتحمل الفرد، إزاء هذا الواجب، المسؤولية بشكل فردي عن قراراته، ولا يهرب من هذه المسؤولية بجلده، أي بذاتيته إذا صح التعبير. هنا تتجاوز الذاتية الاختلاف عن الفردية لتناقضها. لا يحل القمع إذًا مشكلة الفردانية أو الذاتوية بل يجعلها تنخر في المؤسسات التي يجبرها على احترامها.

وتخلق عقلية وأخلاقية "ليش مش أنا؟" مناصب لا حاجة لها إلا لإرضاء من يسأل مثل هذا السؤال، لأن فلانًا ليس "أحسن منه"، أو لاختطاف أو ابتزاز ما ليس له من حاجة موضوعية له، لأن الآخرين حصلوا عليه، أو لأنه تمت تحية أو دعوة الآخرين، "وما في حد أحسن من حد". هكذا تكثر أيضًا وتتكاثر حفلات التكريم وحفلات التأبين. هكذا يرضي غرور الشخص أن يتلقى تهنئة من "شخصية مهمة" إذا تلقاها غيره في سياق آخر. وهكذا يدعو الناس السياسيين إلى مناسباتهم الاجتماعية غير السياسية. إنهم يتوسلون أن يخدعوهم. وهم يقومون بأنفسهم، عبر طلب التميّز، بإرشادهم لأسهل الطرق إلى خداعهم: تملق فردانية وذاتية الناس وإشعارهم بالأهمية. وهذه لا تؤدي إلى تعامل القيادات معهم كأن كلاًّ منهم فرد متميز بل كأنهم قطيع. وهذا هو الوجه الآخر لمقولة: "ما في حد أحسن من حد".

في النظام السلطوي القمعي تؤدي الفردانية إلى استخدام القمع لفرض التراتبية والهرمية. وفي النظام التعددي الأكثر انفتاحًا تؤدي إلى منافسة بين السياسيين على تملق غرور الفرادنية بمظاهر الإغواء وإرضاء "الإيغوء" بدل الحوار الحقيقي مع الناس حول السياسات والمصالح. هكذا يجد الناس في السياسة ولدى السياسيين تعبيرهم، ولا يجدون مصالحهم. كما وصف والتر بنيامين العلاقة بين الفاشية والبروليتاريا العمالية. هكذا يتحولون أيضًا إلى جماهير. ولا تستطيع السياسة أن تؤثر هنا من دون أن تتأثر، أي من دون أن يتحول السياسيون أيضًا إلى نوع من قطيع من المخادعين البهلونيين والكذابين يتنافس على إرضاء غرور الفردانية بموجب قوالب وكليشيهات وضعتها مسبقًا أدوات الاتصال وفي مقدمها وسائل الإعلام.

وحتى عندما يتملق الفردانيون أصحاب الجاه والسلطان، وهم غالبًا ما يجدون أنفسهم في حالة تملق ورياء، إذ لا علاقة بين الفردانية الذاتية والكرامة الفردية، نجد دائمًا فردانيًا يحاول أن يبزّ أترابه حتى في التملق ليلفت نظر المتملّق له ويستفرد به، أو ليلفت نظر الجمهور إلى بلاغته في التملق. فهو ليس مجرد أحد المتملقين بل هو أبرزهم وضاعة وأبلغهم تملقًا ورياءً.

ومن أخطر مخاطر الفردانية أنها تؤدي بالضرورة إلى الكذب، وإلى نشوء ظاهرة الكذاب، غير المعروفة في بعض المجتمعات المتطورة. يكذب الناس لأسباب عديدة في كافة المجتمعات. ولا شك أن هنالك علاقة مباشرة بين الكذب والمصلحة الصغيرة أو الكبيرة، التي قد لا يسهل الدفاع عنها أو الإقناع بها من دون كذب. ويتوقف ذلك على نوع هذه المصلحة القابعة وراء إخفاء الحقيقة أو ليّها أو تشويهها تمامًا، كما يتوقف على درجة الوعي الاجتماعي السائد. لكننا لا نتحدث عن الكذب القائم في كل المجتمعات والطبقات، من كذب رئيس الولايات المتحدة إلى كذب رئيس وزراء بريطانيا حول علاقاتهم الغرامية التي تشغل الناس لسبب ما، بل عن ظاهرة الكذّاب الذي يكذب من دون سبب واقعي أو حاجة مصلحية، ولا يتم كذبه عن انفصال مرضي عن الواقع بسبب من علة نفسية. الكذاب الذي نقصده صحيح النفس لكنه يكذب باستمرار بنسب مزايا لنفسه ومآثر وتأثير على مجريات الدنيا الصغيرة والكبيرة لإشعار الناس بأهميته. وحتى هنا لا نقصد كذبًا من نوع كذب غراهام بيل حول اختراع الهاتف لكي يحوز على جائزة نوبل، أو الكذب الصريح بخصوص اكتشاف الإنسولين الذي زكّى صاحبه لجائزة نوبل بدل فريق الباحثين في مختبره، وإنّما نقصد الكذب الذي قد لا يتجاوز إثارة إعجاب عابر سبيل تمت ملاقاته بالصدفة ولن يراه الكذاب ثانية. إلى هنا تقود ظاهرة الفرادنية، إلى ثقافة الكذب، ثم، في حالات متطرفة، إلى التلهي والتسلي بالكذب، اختبارًا لذكاء الناس.

ومن أخطر مخاطر هذه الظاهرة الوقوع فريسة التواطؤ مع العدو القومي والوطني، في حالة الصراع على الوجود الوطني، وتبرير ذلك بأنه قد استولى على قيادة الساحة الوطنية من لا يستحق، بإعتباره خصمًا عائليًا أو ممثلًا لحِلّة منافسة اجتماعيًا، أو بسبب الغيرة الشخصية القائمة كدافع يجب عدم الاستهانه به في العمل السياسي وفي غيره. وكان جهاز المخابرات الصهيوني "شاي" في فترة الهغناة، قبل النكبة، يرصد التناقضات الفلسطينية والصراعات على الزعامة. كما كان يرصد الخلافات العشائرية والقبلية والتنازع على الأرض والمراعي أو النفوذ بين العائلات الكبيرة وزعمائها، الذين لا يستطيعون التعاون بشكل هرمي ولا يقبلون التراتبية في المؤسسات، ولا يلتزنون بما تم إقراره سوية مع الآخرين، وينقضون العهد ويحنثون الوعد إذا قدم لهم مباشرة اقتراح إنكليزي أو صهيوني فيه منفعة شخصية أو عشائرية أو كلاهما. وكانت القيادة الصهيونية ترصد هذه التناقصات للاستفادة منها بواسطة نشر الإشاعات عن الخيانات والصفقات لتأجيجها، ولتسرّع زعامة إلى عقد صفقة قبل أن تحظى بها غيرها. هنا تلتقي فردية الزعامة ويلتقي الذاتوي الفرداني بسياسات الهوية العشائرية أو الجهوية أو غيرها. وتقوى إلى درجة تفضيل المصلحة الجزئية على المصلحة الجماعية. وما زالت إسرائيل تحاول دفع العرب في الداخل وفي الخارج في كثير من الحالات لقبول شروط لا يقبلونها عادة بتأجيج المنافسة. وما زالت القرية العربية في الداخل تحفظ في ذاكرتها الجماعية قصص تراكض آل فلان لاستقبال الحاكم العسكري قبل أن يحظى بهذا الشرف آل فلان، وعن إثارة الإشاعات عن قبول آل فلان بالصفقة المعروضة عليهم مقابل أرضهم ليسرع المنافسون لخطفها قبلهم.

أما الأمثلة في العالم العربي والاستعانة بقوة خارجية ضد خصم داخلي وكيفية تعامل بريطانيا ثم الولايات المتحدة مع التناقضات والتنافس على الزعامة بين الزعامات العربية فلا حاجة لسوق الأمثلة.

التعليقات