النهضة المعاقة (14): الحيز العام والحيز الخاص

ليس الحيز العام مكانًا عامًا بالضبط، ولا هو ملكية عامة دائمًا، بل هو حالة ذهنية ثقافية اجتماعية قادرة على تصور الصالح العام، أو على فرضه قانونيًا من أجل ردع الاستثناءات غير القادرة على احترامه.

النهضة المعاقة (14): الحيز العام والحيز الخاص

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.

______________________________________________________________________________

الحيز العام والحيز الخاص

 

"لم يعد أحد يحتمل أحدًا". هكذا نسمع احتجاج صاحب فرح استولى على الشارع العام وأغلقه، بعد أن صف الكراسي على ناحيتيه، وأقام فيه إحتفالًا ما لبث أن تحول إلى اشتباكات متتالية مع أصحاب السيارات. هو لا يدرك أن هنالك خطأ ما في هذه الحالة، ولا يلحظ الخطأ إلا في قلة تسامح الناس. وهو يقصد في الواقع كرم الأخلاق. فالتسامح مقولة خاصة متعلقة باحتمال الناس لبعضهم إذا تعلق الأمر برأي مخالف. أما التحمل في ما يتعلق بالشأن العام فلا علاقة له بالتسامح. التسامح متعلق باحترام الاختلاف، خصوصًا الاختلاف بالرأي. من حق الإنسان أن يكرم على غيره، وأن يتحمل اختراق حيزه الخاص، أي حديقة بيته، بعد استئذانه من قبل أصحاب الحفل مثلًا. لكن ليس من حق الناس، أفرادًا، أن يتسامحوا بشأن استخدام الحيز العام فهو ليس ملكهم أفرادًا، ولا حتى ملك جماعة اتفقت عليه. وهو بالتأكيد ليس ملك جماعة من المارة. فهذه جماعة عرضية مفارقة لا علاقة لها بالجموع الاعتباري (المجتمع) الذي له حق في الحيز العام (وليس بالضرورة ملكية). ولأن الفرق بين الحيز العام والحيز الخاص غير واضح إطلاقًا لذلك لا يفهم مخترق هذا الحيز العام ومقتحمه الجريمة في ذلك. كما لا يفهم المنزعجون أنه ليس من حقهم التسامح، كما أنه ليس من حقهم الاقتصاص من المقتحم، لا بأيديهم ولا "بسيوفهم"، لأنهم في الحالتين، حالة التسامح والاقتصاص، يتصرفون كأن الحيز العام ملك لهم، مؤقتًا على الأقل إلى أن تتم تصفية مصدر الإزعاج.

والعلاقة بالحيز العام في حالة العرب في الداخل ملتبسة أصلًا. فإذا كان الحيز العام هو الدولة وسيادة القانون والضرائب فإن العلاقة به علاقة اغتراب تمتد ما بين المداراة والتملق حتى العداء الصريح، وكلها تعبيرات عن علاقة اغتراب. لقد قام الحيز العام الإسرائيلي من خلال مصادرة الحيز العام العربي، وعلى أساس مادي هو مصادرة ونهب الأرض العربية. ولا يرغب المواطن العربي بالتمييز بين مصادرة الأرض لإقامة مستوطنة يهودية أو لشق شارع. فهو مغترب عن عملية التحديث بمجملها كعملية قامت على السطو على وطن وسرقته. ولا يقع المواطن العربي خارج الحيز العام وحده: من شاطئ البحر الذي تحرمه منه عنصرية روّاده، حتى المناطق الخضراء التي أصبحت تابعة لـ"الكيرن كييمت" (الصندوق القومي اليهودي) أو الوكالة اليهودية. والتطوير لا يتم من أجله على أية حال، لكن يسمح له كضيف بالاستفادة منه، شرط أن يلتزم شروط الضيافة وأدبها. يقع العربي بالطبع خارج أهم تجليات الحيز العام إطلاقًا، أي الرأي العام، الذي ينجم عن التفاعلات بين الحيز العام ووسائل الاتصال التي يتيحها، والفاعلة فيه وفي السياسة والدولة. لكن العلاقة الملتبسة مع الحيز العام لا تنتهي بالاغتراب عن الدولة العبرية ورأيها العام، بل يتجاوز ذلك إلى تعثّر عملية تشكل الحيز العام الاجتماعي على مستوى القرية والمدينة العربية، ناهيك عن الأقلية العربية بمجملها أو الرأي العام الفلسطيني.

والحقيقة أن الجيل العربي الحالي لم يعرف حتى المشاع، أي الملكية العامة الأولية، غير المحددة بمؤسسة اجتماعية تعنى بها بإسم الصالح العام. ولم يكن المشاع أصلًا حيزًا عامًا بالمعنى الحديث والعصري لهذه التعابير، بل كان جزءًا من الطبيعة: أرض مرعى، ينبوع ماء، لا يملكه أحد أو يعنى به، إنه في الواقع نقيض الملكية. وهو مشاع تحت تصرف أهالي القرية أو العشيرة ينظمه تقليد أو عرف. لكن الحيز العام الحديث، خلافًا للمشاع، مصنوع يعيد المجتمع إنتاجه وليس معطى طبيعيًا. كما أنه يحتاج إلى رعاية واهتمام لأنه ليس معطى طبيعيًا. إنه ليس مرعى أو أرض مشاع أو نبع ماء. وهو يحتاج لأن يتم استيعابه والتعامل معه على درجة أعلى من القدرة على التجريد، لأنه لا يُلمَس دائمًا حسيًا مثلما يُلمَس عند التنزه في حديقة عامة هي جزء من الحيز العام، وبالتالي لا يصح المس فرديًا بأزهارها مثلًا. ولا يحتاج المرء إلى نباهة خاصة ليدرك أنه لا يصح تلويث هذا الحيز العام الملموس المحسوس ببقايا النفايات "الخاصة"، كما لا يجوز إغلاق شارع لغرض تنظيم حفلة خاصة ساهرة.

إضافة إلى أن الحيز العام ليس دائمًا ملموسًا، كذلك فإنه يفرض على الأفراد بشكل "عام" التزامات تنتج بحد ذاتها العمومية. إنه يتطلب ضرائب، والضرائب تتطلب ثقافة ضرائب. ومهما بلغت عتاوة الدولة فإنها لا تستطيع أن تجبي بالقسر فعلًا إلا مقتطعات من الأجيرين. أما المستقلون فتحتاج الجباية منهم إلى ثقافة ضرائب تعي أهمية الحيز العام والمساهمة في بنائه، إضافة إلى القسر القانوني.

تبدأ الضريبة بالمقتطعات الطوعية اللازمة لتنظيف درج أو مدخل العمارة بلا تدخل من الدولة، مرورًا بالتأمين الصحي، ومخصصات الشيخوخة التي لا يلمسها الفرد في شبابه، انتهاء بضريبة الدخل التي لا يلمسها إطلاقًا من دون درجة من التجريد تستند إلى وعي تاريخي بالمجتمع والدولة، وعي غير سلطاني، أي غير متنافر مع الدولة ككيان، إذا صح التعبير. ويجب أن يكون الفرد قادرًا على تصوّر حيز عام يهمه كمجتمع بحيث تزداد أهمية اتساع الشارع قرب البيت، وأهمية الحديقة العامة بين البيوت، والحاجة الاجتماعية إلى النادي الذي يلتقي فيه الناس بدلًا من ساحة البلدة القديمة، وغيرها من الخدمات التي تعوّض عن ضيق البيت الفردي أيضًا، وقد تتم على حساب اتساع البيت. وتعتبر هذه كلها علامة على تطور نوعية الحياة ورقيها.

إن الدليل الأول على وجود تخيل للحيز العام هو تعامل الطبقة الوسطى والبرجوازية من نشاطها الاقتصادي وطريقة حياتها من خلال رؤية الحيز العام ومن خلال التفاعل الجدلي معه. إن من يبني فيلا فوق مزبلة، أو يوسع حديقته على حساب الرصيف، لا يدرك إطلاقًا ما هو الحيز العام. ويتضح مع الوقت أيضًا أن الحيز الخاص غير محدد بالنسبة له لأن أدوات تحديده غائبة، وتحديده يتم قياسًا إلى الحيز العام المفقود. وإذا وصل أصحاب الفيلات إلى قناعة مشتركة حول كيفية إدراة حيهم بنظام يترك متسعًا للعام من دون أن يأخذوا بعين الاعتبار الأحياء الفقيرة تحت أنوفهم، ببناء نمط يَخِز العيون ويستفز النفوس، فهذا يعني أنه رغم اتفاقهم على الحيز "العام" الخاص بهم فإنهم لا يفقهون الحيز المجتمعي العام. إنهم لا يعيشون والطبقات الفقيرة على سفينتين مختلفتين، وإن أوهموا أنفسهم عكس ذلك، بل هم على نفس السفينة. إن من يبني قصرًا في حي مكتظ بالقصور لا يفهم أن القصر والاكتظاظ نقيضان، وأن مثل هذه القصور كانت تبنى خارج المدن بعيدًا عن أعين الناس محاطة بساحات شاسعة من الأرض تفصلها عن محيطها. استثنيت من ذلك حالات رموز السيادة السياسية والمؤسسة الدينية المفترض أن تفرض هيبتها كممثل للعموم، للدولة وللحالة الرسمية ولأيديولوجيا الدولة، وبرزت كقصور داخل المدن.

إن من يستثمر جزءًا أساسيًا من الثروة الاجتماعية في سلع استهلاكية ومظاهر غير منتجة إنما يساهم في شل قدرة المجتمع على الإنتاج، ويوسع الخاص بشكل وحشي على حساب العام. إن الوجه الآخر لبناء البيوت الخاصة كأنها مؤسسات هو هزاله وضعف المؤسسات العامة في المجتمع.

الحيز العام في هذه الحالة نتاج تصور لمجتمع هو ليس مجرد تجمع تراكمي لأفراد، ونتاج صالح عام لا يقتصر على مجموع المصالح الفردية لجزء من المجتمع بطبيعة الحال. وهو أيضًا ليس مشاعًا، بل هو ملك للدولة أو الجماعة. وفي كافة الحالات يفترض أن صيرورة نشوئه وقيامه والحفاظ عليه لا تترك لقوى الطبيعة، مثل المرعى أو نبع الماء أو الوادي الذي تشرب منه المواشي، بل لقوى المجتمع المنظمة. لذلك من غير الممكن الاعتماد على تراث المشاع لتثبيت الوعي بالحيز العام. ليس الحيز العام موضوع ملكية عامة، رغم أنه قد ينتهي إلى الملكية العامة، لكن علاقته تبدأ بالصالح العام الذي يخترق الملكية الخاصة.

قد تكون الصحيفة ملكية خاصة، لكنها من دون شك أيضًا جزء من الحيز عام. وقد يكون المستشفى تابعًا لملكية خاصة، لكنه حيز عام. وحتى إدارة المقهى ليست بالضبط مسألة خاصة بالكامل. وتستند أخلاقيات مهنة الصحافة، كما أخلاقيات مهنة الطب وغيرها، إلى هذا البعد بالضبط الذي يجعلها تختلف عن مهن ذات بعد عام مقلص وغير مباشر مثل التجارة. ونحن لا نقصد بالبعد العام تعرض أي صاحب مهنة ذات علاقة بالحيز العام، صحافيًا أو طبيبًا أو محاميًا، كتعرض أي إنسان أو مواطن لطائلة القانون الجنائي حتى في حياته الخاصة أو في تجارته الخاصة، إذا مس بالصالح العام لأنه أضر بقيم عامة فقام بالغش أو السرقة أو القتل أو العنف، حتى داخل العائلة وفي علاقته مع أطفاله أو زوجته. فالقانون الجنائي ليس دليلًا على خصوصية الحيز العام مجتمعيًا بل دليلًا لا غنى عنه على وجود الدولة. والدولة هي المدعي في حالة القانون الجنائي لأن المجتمع يعتبر الجناية جريمة تضر به كمجتمع حتى لو كان ضحيتها فردًا، وحتى لو أسقط حقه.

فالقانون الجنائي هو أبسط تجليات الحيز العام المتمثلة بالدولة كحامٍ لإمكانية وجود الحيز العام بقمع التجاوزات الجنائية. ولا شك أن ولوج القانون الجنائي إلى حياة العائلة الخاصة هو دليل على قوة الصالح العام. كما أنه دليل على تغير الحدود المستمر بين الخاص والعام، الذي يميز تطور المجتمع الديموقراطي ضمن الجدلية القائمة بين الديموقراطية وبين الأغلبية. إذ تأخذ قيم هذه الأغلبية بعين الاعتبار، وتأخذ أيضًا القيم الديموقراطية بالاعتبار ذاته، والتي قد لا تكون قيم الأغلبية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالعرف والعادة والتعامل مع المرأة.

والممتع في عملية إعادة تشكيل الحدود التي لا تتوقف بين الحيز الخاص والحيز العام أنها تحدد، وتعكس بيانيًا إلى حد بعيد، جدلية العلاقة بين الديموقراطية (التي ترتبط تاريخيًا بنشوء مفاهيم مثل إرادة المجموع وتمييزها عن مجموع الإرادات الفردية، ومفاهيم مثل الصالح العام) وبين الليبرالية (المدافعة تاريخيًا عن الحريات الفردية والحقوق ذات الطابع الفردي والملكية الخاصة، والتي تبدي تحفظًا يكاد يكون تقليديًا من تجاوز العام لحدود الحيز الخاص). ولا تتوقف هذه الجدلية عند حدود في المكان، أو عند عناوين الملكية، بل هي تعيد رسم الحدود باستمرار. وبعد كل معركة جماهيرية، أو حقوقية، أو سياسية، أو نقابية، تطالب قوى اجتماعية بتدخل الدولة، بإسم الصالح العام، لتفرض أو تقونن حقوقًا داخل حيز اعتبر خاصًا حتى تلك المرحلة فأعادت هذه الجدلية تعريف خصوصيته. هكذا حثت الحركة النسائية الدولة على التدخل في شؤون اعتبرت حتائِذ عائلية خاصة. وهكذا حثت الحركة النقابية الدولة على التدخل بالقانون في علاقات العمل باعتبارها ليست شأنًا خاصًا يتم بين جدران مكان العمل الخاص بالمستثمر أو المشغل. وهكذا منعت الدولة شروط عمل تعتبر غير قانونية، حتى لو تمت برضى الطرفين، العامل والمشغل، من منطلق حرية التعاقد. فليس لدى طرفين خاصين من حق في تعاقد يتجاوز أموراً باتت تعتبر شأنًا عامًا للمجتمع ككل، مثل شروط وظروف العمل.

يتجاوز الحيز العام حق الدولة المذكور أعلاه في التدخل جنائيًا بإسم المجتمع للحفاظ على الحيز العام، وذلك لسببين، أولًا: إن الدولة تتدخل عبر القانون الجنائي في استثناءات هي خرق القانون، لكن غالبية الناس في دولة سيادة القانون لا تخرق القانون حتى من دون أن تعرفه. ذلك لأن المصلحة العامة المتمثلة بحماية الحيز العام قابلة للاشتقاق بالعقل السليم لدى غالبية من الناس على درجة معينة من التطور الاجتماعي التاريخي. وإذا لم يكن الحال كذلك، وإذا اعتبرت الغالبية بعقلها السليم أن الأرصفة، مثلًا، كجزء من الحيز العام غير ضرورية وبالإمكان توسيع حديقة البيت على حسابها، أو تحويلها إلى معارض للباعة المتجولين، أو حتى إلى مجلس للتسامر وشرب الشاي، حتى يشعر عابر السبيل الذي يستخدمها أنه متطفل يرمقه محتسو الشاي والقهوة بنظراتهم كأنه اخترق خصوصية جلستهم، إذا كان الأمر كذلك فلا فائدة من القانون. لأن القانون في هذه الحالة لن ينظم الاستثناء بل القاعدة، أي أنه يتحول إلى عملية قمع شاملة، قد تنجح، وقد لا تنجح، وفي الحالتين تزيد الاغتراب عن القانون ومؤسساته. وثانياً: لأن غالبية الحيز العام الاجتماعي تنظم بالأخلاق وقواعد السلوك التي قد تتقاطع مع القانون وقد لا تتقاطع، وتتجسد حيث لا خوف من طائلة القانون. فأخلاقيات مهنة الطب أو المحاماة، التي نظمت ضمن أخويات في القرون الوسطى، وما زالت تنظم في نقابات تؤرخ لذاتها من تلك الفترات، ولا تستند في كل تفصيل وممارسة إلى قانون جنائي يبيح ويحظر بل تحمل جزءًا عرفيًا بل حتى عقائديًا متعلقًا بالواجب الاجتماعي. كذلك الحال بالنسبة لـ"أخلاقيات الصحافة" التي باتت في مخيلتنا وكأنها تزاوج متناقض ومستحيل بين صفتين متناقضتين بحكم التعريف contraditio in adjecto.

لا شك أنه في المجتمعات المتنورة أيضاً هنالك صحافة صفراء لا تقوم على أية أخلاقيات، بل على هدف الانتشار والربح والسبق. وهذه أمور، إذا تحولت إلى هدف قائم بذاته، قد تؤدي إلى التضخيم والكذب الصريح والاختلاق ونزع الأمور من سياقها والتطفل على حياة الناس الخاصة. لكن في المجتمعات المتحضرة تعمل دائمًا إلى جانب الصحافة الصفراء صحافة متمسكة بأخلاقيات المهنة من دون أن يجبرها القانون، والبحث عن "الحقيقة" كما تمكن من فهمها أدوات التحقيق الصحافي بمحدوديتها، والابتعاد عن اختلاق الدراما الرخيصة. أي أنه إلى جانب الصحافة الصفراء هناك صحافة، أو على الأقل فئة غير قليلة من الصحافيين، متمسكة بأخلاقيات المهنة المتعلقة بمسؤوليتها في الحيز العام. والطامة الكبرى عندما لا تجد إلا صحافة صفراء يتقاسم تحريرها مع الفاكس أحقاد صاحب الجريدة، بما في ذلك حقده في انتمائه العربي مثلًا، وعقده الخاصة، ومصالحه، ومصالحه الخاصة تمامًا المرتبطة بالسلطة الإسرائيلية الحاكمة ومواقفها العامة في حالة العرب في إسرائيل، وبمكاتب الدعاية والإعلان في تل أبيب أو في وزارات الدولة.

وأهم من هذا جميعًا الشعور بالواجب، في أية مهنة بشكل عام، تجاه الحيز العام، أو الحيز العام الذي تساهم هذه المهنة في بنائه. فمن دونه لا تقوم قائمة للحيز العام يستند إليه هذا التجسيد الاجتماعي للإرادات الخاصة المتقاطعة. فإذا لم يتوفر في الإرادة الخاصة والسلوك الخاص بُعد عام، لا يمكن أن ينشأ هذا البعد العام من مجرد تقاطع الإرادات الخاصة. كما لا يمكن له أن ينشأ بمجرد فرضه قسرًا عليها من الخارج. إذا كانت الإرادات الخاصة، خاصة فحسب، وإذا كانت منطلقة من المصلحة الخاصة وحدها، فإنها لا يمكن أن تنشئ حالة اجتماعية إلا بالقسر وفرض العام على الخاص عبر الدولة المطلقة، كما في عقد هوبس الاجتماعي. فالوجه الآخر للخاص المطلق هو نشوء العام المطلق الذي ينفيه نفيًا مجردًا.

ليس الحيز العام إذًا مكانًا عامًا بالضبط، ولا هو ملكية عامة دائمًا، بل هو حالة ذهنية ثقافية اجتماعية قادرة على تصور الصالح العام، أو على فرضه قانونيًا من أجل ردع الاستثناءات غير القادرة على تصوره أو التعامل معه أو احترامه. ويلزم من أجل ذلك مرحلة من التطور التاريخي بدأت فيها عملية فرز بين الحيز الخاص والحيز العام في المؤسسات وفي الوعي.

وإذا تم إدراك الحيز العام بالوعي الجنائي وحده، بمعنى الخوف من التورط مع الدولة أو مع الصالح العام الممثل بالمدعي العام، وإذا تمت صياغة الحيز العام بالقانون وحده، فإنه لا يكون قائمًا في الوعي الاجتماعي. وهذا يعني أن الحيز العام غير قائم من دون دولة، أي غير قائم خارج علاقات القسر. كما يعني أيضًا عدم توفر كيان اجتماعي عام خارج قسر الدولة وخارج العائلة أو العشيرة أو القبيلة. أي بقاء العلاقة بين الخاص والعام ملتبسة تحددها عمومًا آليات القسر وآليات التهرب منها بنفس الدرجة. وإذا كانت الدولة هي العنصر الأساسي في إنتاج الحيز العام والدفاع عنه من تجاوز الخاص، فقد يتحول الحيز الخاص إلى ضحية تجاوزاتها. أما إذا كان وضع الدولة رثًّا بالمجمل فإنها تطبع الحيز العام بهذا الطابع، فتبدو البلاد خارج بيوت المواطنين وقصور المسؤولين متروكة مهملة كأن لا صاحب لها.

إن أي فرز للحيز العام والحيز الخاص لا ينجم عن الجدلية بينهما، التي تشمل في ما تشمل عملية تشكل الوعي، هو فرز قسري يجازف بأن يشكل بحد ذاته عائقًا أمام النهضة. وليس الاستبداد الناشئ هنا استبدادًا متنورًا دائماً. فقد يتحول إلى حالة بربرية كما حصل في الاتحاد السوفياتي في عصر ستالين بشكل خاص، مشكّلًا عائقًا كبيرًا أمام النهوض بالمجتمع ككل لفترة تاريخية طويلة. إن فرض الحيز العام بالقسر بواسطة الدولة قد يؤدي إلى اختراق الخاص من قبل الدولة إلى درجة التحكم بسلوك الفرد وذوقه، مع محاولة بائسة ومدمرة لإعادة صياغة ضميره، لا بد أن يؤدي كوارث على مستوى الأخلاق الاجتماعية والفردية.

لكن من الزاوية المعاكسة لهذه العملية يبدو الأمر كاختراق للعام من قبل الخاص حد تحويل العام إلى ملكية خاصة للبيروقراطية، تُعمل فيه الفساد والسرقة محوّلة مرافق البلد إلى ساحات بيوتها الخلفية، مغلقة الشوارع متى شاءت ولأي سبب حتى لمجرد مرور مواكبها، محولة المسارح إلى صالونات خاصة لحفلات الاستقبال التي تقيمها. لذلك أيضًا يبدو أن أول ما تفعله الثورات الشعبية، أو ذات الخطاب الشعبي على الأقل، هو تحويل القصور الخاصة إلى متاحف عامة، والحدائق الملكية إلى منتزهات جماهيرية، وهكذا. لأن من مغازي الثورة الشعبية، أو الإصلاح بواسطة النظام الديموقراطي، تثبيت الحيز العام وكأنه ثورة المصالح العامة على مصالح الحكام الخاصة.

ومن تعبيرات اختلاط الخاص بالعام أن تصبح ميزانية الدولة في بعض الدول هي ذاتها ميزانية حكامها. وفي بلدان لا تقوم ميزانيتها على الضرائب، وهي الترجمة الملموسة لوجود قطاع عام، وتعيش على بيع ثرواتها الطبيعية، وعلى المساعدات المالية الأجنبية التي يستطيع الحاكم أن يجندها بديناميكية علاقاته وشطارته مع "الأجانب"، كما يبدو الأمر للجمهور على الأقل، تصبح سمة الحاكم الأولى أن يكون "كسّابًا وهابًا".

في هذا النمط من المجتمعات التي ينتج حكامها الحيز العام يكرمهم (والأدق مكرماتهم) تتحول أيضًا حياة الحكام الخاصة وعلاقاتهم الخاصة فتتخذ وزنًا رسميًا، ويصبح ذوو المسؤولين مسؤولين أيضًا.

التعليقات