النهضة المعاقة (15): العمالة والوشاية

غالبًا ما يحاول أفراد وقوى متخلّفة اجتماعيّا كسب إعجاب القوى الحاكمة بالتظاهر بالتقدم والتنور فقط بواسطة الوشاية بالقوى الأخرى على أنها متطرفة أو قومجية أو شوفينية.

النهضة المعاقة (15): العمالة والوشاية

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب48" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.

___________________________________________________________________________________

العمالة والوشاية

 

ليست العمالة مجرد وشاية، بل هي انتقال إلى صفوف المستعمِر والعمل ضد المقاومة الوطنية والحركة الوطنية وأهدافها في خدمة المستعمِر، لأهداف شخصية، أو لمصلحة، أو بسبب ضعف شخصي تم استغلاله من قبل صاحب السلطة والسطوة، المستعمر الأجنبي. وحتى لو كان العميل ضحية الظروف الشخصية، وضحية المستعمِر ذاته والظرف الإستعماري، فإن المجتمع، ممثلًا بالحركة الوطنية، لا يبدي تفهمًا للعمالة والعملاء، كما لا يبدي تفهمًا للسارق والقاتل رغم ظروفه التي صنعته، لأن العمالة تمثل مسًا صارخًا، بل قاتلًا، بالصالح العام بمفهوم تحرر العام من سيطرة المستعمِر، أي بأبسط حالات الصالح العام وأكثرها تجريدًا في مرحلة النضال ضد الاستعمار، مثلما يعتبر القتل وتعتبر السرقة مسًا بالصالح العام في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع.

لكن المجتمع يشعر بالمسؤولية عن أبنائه بعد الاستقلال. أي حين تصبح لديه مؤسسات مجتمعية قادرة على الإعلان عن مرحلة جديدة وتجسيد هذه المرحلة. هنا يستطيع المجتمع أن يحدد السياق التاريخي الذي بدأت العمالة فيه وانتهت كجريرة ذات معنى. فبقدرة المجتمع عبر سيادة القانون أن يفرز العمالة بذاتها عن العمالة التي أدت إلى قتل أو أذى لحق بأفراد عينيين من المجتمع، وأن يفرز العملاء عن أفراد عائلاتهم، وأن لا يعاقب جماعيًا كما كانت الحركة الوطنية تفعل، في ماعدا حالة تبرؤ العائلة من العميل ونبذه علنًا. هذه المؤسسات تجسد المجتمع في مرحلة جديدة يملك فيها القدرة على تحمل المسؤولية عنهم كأبنائه حتى لو "ضلوا" الطريق نحو الاستقلال.

إعادة تأهيل عائلات العملاء في ظروف اجتماعية منفتحة أمامهم هي مسؤولية المجتمع المنظم في دولة بعد التحرير أو الاستقلال. والتخلي عن هذه المهمة يترك جرح مرحلة ما قبل الاستقلال نازفًا ويشد بالمجتمع إلى صراعات ما أسهل أن تتخذ طابعًا قبليًا، أو أن تقصي العناصر المطلوب تأهيلها لتصبح مرتعًا اجتماعيًا للجريمة والفساد، ويصبح هذا وسيلتها القسرية للانتقام من المجتمع المنظم. إن إعادة تأهيل عائلات العملاء، هي مصلحة اجتماعية وطنية من الدرجة الأولى، ولا يمكن ترك العائلات أسرى التمزق والمنافي القسرية المفروضة عليها كما كانت القبائل تفرض الهجرة (الهجيج) على عائلة القاتل.

لكن نقمة العمالة الحقيقية المعوقة تكمن في طبعها الخلافات الاجتماعية والفكرية بلوثتها في مراحل لا تمت للنضال ضد الاستعمار الأجنبي بصلة. فبعد انتهاء سياق العمالة الاستعماري أو الاحتلالي يسهل، بحكم العادة، أو بحكم سوء النية، اتّهام المخالف بالرأي سياسيًا أو أيديولوجيًا، أو الخصم أو المنافس، بالعمالة من أجل نزع الشرعية عنه، ونزع الشرعية عن مواقفه، أو عن مصالحه باعتبارها تخدم العدو، أو الخصم التاريخي، أو الدولة الاستعمارية سابقًا. وغالبًا ما تحتفظ هذه الدولة بعلاقات حسنة مع نفس النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة التي توجه تهمة العمالة لنفس الدولة ضد خصومها.

إطلاق صفة العمالة هنا هو عملية نزع شرعية عن الخصم أو المنافس في سياق لا علاقة له إطلاقًا بالمستعمِر ونتيجة لعلاقة أفرزتها التناقضات الاجتماعية الراهنة لا القديمة. ومن نافل القول أن هذه التهمة غير قائمة في المجتمعات الحديثة، وأن هذه المجتمعات بعد نهضتها تعتبر مرحلة الاتهام بالعمالة نكسة وتراجعًا ووصمة عار في تاريخها الوطني. ليس اتهام الخصم بالعمالة مقصورًا على العرب أو المجتمعات العربية. لكن من قال أن معوقات النهضة هي معوقات عربية، الطابع، أو ناجمة عن خصوصيتنا؟  لقد جرى في الغرب، وبقسوة لا تقاس بما تم عند العرب، استخدام مقولة العمالة للعدو الخارجي في غير سياق الاستعمار أو الاحتلال عبر ابتكار صورة العدو الداخلي وتوحيد المجتمع واستنفاره لصالح السياسات العدوانية المنتهجة خارجيًا. كما استخدمت بشكل محسوب من أجل القضاء على منافسين سياسيين داخليين عبر تأليب مشاعر الشارع الوطنية ضدهم.

إنها وسيلة قاسية ورخيصة للمس بالخصم وتوجيه ضربة له. لكنها تعيق تطور المجتمع ككل، وتترك ندوبًا وجروحًا على العلاقات الاجتماعية بين النخب والأحزاب يسهل نكؤها عند كل منعطف. ولا يمكن توحيد المجتمع المدني الأميركي من دون بذل جهد مضاعف للتغلب على ذكريات المكارثية وتهم العمالة للشيوعية العالمية التي وزعت في تلك المرحلة وسقط ضحيتها كتاب ومثقفون. ولا يمكن توحيد المجتمع والدولة في ألمانيا من دون بذل جهد مضاعف للتغلب على ذكريات النازية التي حولت كافة القوى اليسارية والديموقراطية والوطنية غير النازية، ورجال الدين غير المنضوين تحت رايتها، إلى عملاء لأعداء الشعب الخارجيين. وفي الاتحاد السوفياتي كان كل مطالب بالديموقراطية أو الإصلاح أو حقوق الإنسان يعامل كأنه عميل للإمبريالية أو الاستعمار أو لجهاز مخابرات معين.

لكن تهمة العمالة في المجتمعات العربية قد تعني العمالة لدولة صديقة للنظام القائم، أو لدولة يخطب النظام ودها عادة في كافة السياقات الأخرى. المقصود بالعمالة هنا ليس التجسس، وهي تهمة قد تصح أيضصا في ما يتعلق بدول صديقة، فقد حاكمت الولايات المتحدة جاسوسًا لإسرائيل في البنتاغون، لأن هنالك أسرارًا يعتبر إفشاؤها، حتى للأصدقاء والحلفاء، مسًا بالأمن القومي. ما العمالة إذن لدولة يعتبرها النظام صديقة إذا لم تكن تجسسًا بالمعنى الحرفي للكلمة؟  ليس لها معنى. إنها عمالة مجردة قد تكون فارغة من المعنى، وبالتالي قابلة للإلصاق بأي معنى وبأي شخص. وبهذا المعنى الجزافي تصل هذه التهمة إلى الشارع، وهكذا تستخدم أيضًا، تارة بمعنى "العمالة" للأفكار المستوردة، أو للإمبريالية ومؤامراتها، أو للاستعمار بعد أن انتهى سياقها التاريخي.

ولا يقتصر هذا النهج على استخدام تهمة العمالة. فغالبًا ما تستخدم أنظمة تفتقر إلى الشرعية خطاب مرحلة التحرر الوطني بعد نهاية مرحلة التحرر الوطني. ويخدم خطاب مرحلة التحرر الوطني النظام القائم لعدة أسباب من ضمنها: أن خطاب التحرر الوطني لا يتحمل التعددية إلا في الإطار المعرف ضد الآخر الأجنبي، وأنه خطاب يؤجل القضايا الداخلية، وأنه خطاب يحمل مسؤولية المصائب الاجتماعية والاقتصادية للاستعمار، وأنه يفرز ويقصي "عملاء" باستمرار إلى خارج إطار الشرعية.

تشجع المعارضة الراديكالية العربية الأنظمة الحاكمة على استخدام مفهوم العمالة ضد أطراف أخرى من المعارضة، ولا تتضامن مع المتهمين بالعمالة لأميركا من قبل الأنظمة الصديقة لأميركا ذاتها. لأن تهمة العمالة توهم المعارضة الراديكالية بأن النظام ما زال يحافظ على الحد الأدنى من الثوابت، وأنها، وهي "المعادية للغرب"، تكسب شرعية في هذه المراحل التي يستخدم فيها النظام لغتها، لغة حركة التحرر الوطني. إنها، نتيجة لضعفها، تبحث عن أي قاسم مشترك مع النظام بدلًا من مواجهته. ويبدو أن الثقافة السياسية العربية السائدة ترى الموقف اللحظي وتبني موقفها بناء عليه. فهذا تصريح لهذا الزعيم منفصل عن سياسته بشكل عام. وهذه تهمة سياسية يوجهها النظام ضد خصومه بالعمالة منفصلة عن السياق السياسي العام. ويتم التعامل مع كل هذا كلحظات منفصلة لا كجزء من عملية شاملة. بهذا المعنى ينتقل الموقف من النظام من تطرف إلى آخر بموجب تصريحاته خارج السياق السياسي. وهكذا أيضًا كانت تُقيَّم في الماضي مثلًا عمليات المقاومة منفصلة لا كصيرورة، أو سياق، أو تراكم، أو خيار شامل.

ولأنه ليس لدى المعارضة شرعية لطرح القضايا الداخلية فإنها تعوض عن ذلك بتصعيد اللهجة ضد العدو الأجنبي. وبهذا المعنى فإن تصعيد لهجة القوى الوطنية في قضايا القومية هو ملجأ من النظام الذي لا يجرؤ بسهولة على قمع المعارضة "في خدمة قوى أجنبية". كما أن المسجد وتصعيد الخطاب الديني بالضبط هو ملجأ القوى الدينية التي تُكثر في هذه الحالات من استخدام الاقتباسات الدينية. فالنظام فاقد الشرعية لا يجرؤ على تحدي المراجع الدينية.

وعندما يتهم النظام معارضًا بالكفر تحسب هذه القوى أن النظام باستخدامه لغتها يزيد من شرعية وهيمنة هذه اللغة، وبالتالي فإنها لا تعترض على ملاحقة الدولة معارضًا بتهم تقارب الزندقة. كما لا تعترض القوى الوطنية على ملاحقة النظام لمعارض بتهمة العمالة، وكأن إرادتها قد شلت وألسنتها قد يبست أو التصقت بحلوقها. والمفروض أن تقوم قوى المعارضة، إذا كانت نهضوية الطابع، بفضح سياسة النظام الذي يفرغ نقمة الشعب في عدو داخلي. كما أن من واجب هذه القوى، المفترض أنها تحمل مسؤولية النهوض بالمجتمع العربي، أن تظهر أن النظام لا يسمي تعامله الودي وتحالفاته هو مع الدول الأجنبية عمالة، وأنه في الواقع يريد احتكار العلاقة مع "الغرب" بحيث تمر عبره فقط. والنظام القائم يعرف ضعف هذه القوى النهضوية المشلولة الإرادة ويقوم باستغلال ذلك. لكن استخدام تهمة العمالة لا يقتصر على النظام بل غالبًا ما تستخدم هذه في الشارع كنوع من الحرمان الاجتماعي أو "التكفير" بين المعارضات والأفراد، وقد أشرنا إلى ذلك.

ويذكرني هذا بالحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي سُمح له وحده بالعمل في أوساط المواطنين العرب في الدولة العبرية حتى الثمانينيات. وكان يسعى للتعامل مع الدولة كوزارات وكأحزاب لتمثيل شؤون الأقلية العربية والمطالبة بحقوقها. لكنه كان يتهم بالعمالة كل محاولة جماعية أو فردية للتعامل مع السلطة الحاكمة إذا لم تمر العلاقة من خلاله، حتى لو تم تبني نفس المطالب التي يمثلها ضمن هذه العلاقة وضمن اعتبار ذاته في حينه منتميًا إلى الوطنية الإسرائيلية ومشاركًا في "حرب الإستقلال" الإسرائيلية وغير ذلك. فالقوة قد تكون نابعة من احتكار العلاقة مع سلطة ما وتحديد طبيعتها وشكل الاستفادة منها.

ويصب ادعاء المعارضات، الوطنية والقومية واليسارية، في الدول العربية المستقلة: بـ"إننا لم نفرغ من مهمات التحرر الوطني" بسبب وجود الاستعمار الجديد، والارتباط بمصالح الدول الأجنبية وبعجلة الاقتصاد الرأسمالي العالمي بشكل يكرس التخلف، يصب هذا الادعاء الماء في طواحين ديماغوجيا الأنظمة التي تتبنى هذا الخطاب ضد "عدو خارجي" عندما يحلو لها ذلك، أي عندما تحتاج إلى الالتفاف الشعبي. ولا شك أن تحديث المجتمع والنهوض به يتطلبان تنفيذ مهام ذات طابع تحرري نحو الخارج أيضًا، لكن هذا لا يعني أن مرحلة التحرر الوطني مستمرة. فعلى القوى القادرة على النهوض بالمجتمع العربي أن تضع خطًا يفصل بين مرحلة التحرر الوطني ومرحلة النضال الاجتماعي ذي الطابع الوطني والقومي، وهذا الخط هو الاستقلال السياسي. وأي تجاهل، أي طمسٍ، لهذا الحد الفاصل بين الاستقلال وما قبله يساعد الأنظمة على التملص من مهامها كدولة واللجوء إلى الديماغوجيا الوطنية كأنها قيادة حركة تحرر وطني.

ويذكر كل من كان متتبعًا مخلصًا لأخبار الحرب الأهلية في لبنان كيف كانت القوى المختلفة تصدر بيانات بعد الاغتيال أو الانفجار تحمّل فيها المسؤولية لـ"الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية وعملائها"، الأمر الذي يعني أن لا أحد سيكلف نفسه عناء البحث عن القاتل المسؤول، ولو كان مأجورًا لقوة أجنبية. وكان تورط قوى أجنبية واردًا فعلًا في لبنان بالذات، وسوف يتبين بالتأكيد لو تم اكتشافه إنه ليس عميلًا لـ"كليشيه" مؤلف من هذه العناصر كلها: الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية. فالقاتل ولو كان مأجورًا يبقى، هو والقوة التي استأجرته، أكثر عينية من ذلك.

وتُوجّه المعارضات العربية غير المنظمة تهمًا بالعمالة لأنظمة بكاملها. وهذا يعني أن الزعيم القائد هو، كفرد، عميل يقبض مالًا مباشرة من الدولة ذات النفوذ في البلد وذات التأثير على سياساته، أو أن أفراد النظام مجتمعين هم عملاء لهذا النظام أو ذاك. وغالبًا ما كانت القوى الأكثر أيديولوجية، مثل الأحزاب اليسارية، تتحدث بواقعية أكبر عن تحالف وتبعية مصالح وعمالة أيديولوجية وهكذا. لكن الإشاعات الصادرة عنها وعن غيرها ظلت تقسم أركان النظام إلى عميل أميركي، وآخر بريطاني، وثالث فرنسي، ناهيك عن عملاء الـ"كي.جي.بي.". وإذا تزوج أحد المسؤولين من أجنبية فعند ذلك تثبت تهمة العمالة. أما إذا كان أحد أقارب الزوجة يهودي الأصل فقد ينتهى الموضوع ولا يعود يحتاج لا إلى إثبات ولا حتى إلى نقاش بنظر المشهّرين.

إن اعتبار الأنظمة عميلة يعني أن مشكلتها هي اقترابها أو ابتعادها عن شر خارجي. ويعني هذا النهج في التفكير أيضًا أنه إما أن تكون الأنظمة شرًا أخلاقيًا، بمعنى أنها خيانية بطبيعتها، أو أنها مجرد ضحية غير مسؤولة عن أفعالها في لعبة الكبار ومؤامراتهم، وأن المطلوب هو إنقاذها من براثن الدول الإمبريالية. لكن الحقيقة أن الصورة أعقد بكثير، وهي تشمل عناصر كثيرة من ضمنها الصفات الشخصية للقادة وخيارات النظام الاقتصادية وبنيته وطبيعة القوى الاجتماعية والعلاقة الناجمة عن ذلك كله مع الدول الأخرى. ومفهوم العمالة قاصر عن أن يغطي المجال المطلوب بحثه لفهم علاقات النظام السياسي الخارجية، ومن ضمنها تلك التي تمس الاستقلال الوطني والتواصل العربي، وهي أخطر وأعقد من أن يفسرها مفهوم العمالة.

أما الوشاية فقائمة كظاهرة وثقافة حتى في غير سياق العمالة. ومن المفيد في هذا المجال الاستفادة من تجربة المجتمع العربي داخل الخط الأخضر في سياقها. وتجربته معقدة لكنها تجمع بين عناصر النضال الوطني وإطار المواطنة القائمة ضمن دولة لا ترى نفسها دولة المواطنين. واضح أن ظاهرة الوشاية بشكل مباشر للسلطة الإسرائيلية كانت قائمة في مرحلة الحكم العسكري، إما سعيًا لكسب الرضى، أو نتيجة للخوف، أو غيره. وكان الواشي في العديد من الحالات يتبرع بالوشاية حتى من دون أن تُطلب منه، بهدف إثبات الولاء والاستفادة بتصريح عمل للأقارب، أو بتعيين معلم مدرسة في مجتمع فقد الفلاحة وأخذ أبناؤه يبحثون عن الوظيفة والعمل المأجور.

لكن الوشاية في مرحلة ما بعد الحكم العسكري هي تعبير أكثر تركيبًا بكثير من الوشاية للحكم العسكري في مجتمع قائم وحديث وفيه قوى تتنافس وتستخدم السلطة الحاكمة كما تستخدمها. ويؤدي التنافس إلى الاستعانة بالدولة الصهيونية ضد الخصم رغم التشدق بالوطنية. وتتم الوشاية بالخصم الداخلي باعتباره خطيرًا ومتطرفًا وراديكاليًا، وأن خطورته تكمن في أنه يفرض على القوى الأخرى تبني الموقف الوطني لأنها لا تستطيع أن تترك له الساحة الوطنية. يبدو الأمر في هذا السياق وكأنه تحليل تتبرع به هذه القوى للرأي العام، لكنه في الواقع وشاية ودعوة لضرب هذا التيار.

وغالبًا ما يحاول أفراد وقوى متخلّفة اجتماعيّا كسب إعجاب القوى الحاكمة بالتظاهر بالتقدم والتنور فقط بواسطة الوشاية بالقوى الأخرى على أنها متطرفة أو قومجية أو شوفينية، رغم أن هذه القوى قد تكون أكثر تقدمية وتنورًا منها، لكنها أكثر احترامًا للذات في العلاقة مع الآخر المستعمِر. هنا يطرح الفرق بين الاعتدال والتطرف من دون علاقة بالموقف الاجتماعي والسياسي المتنور. فالأكثر قربًا من الغرب، أو من إسرائيل في حالتنا، من حيث المواقف المهادنة، هو "المعتدل"، في حين أن "المتطرف" هو الأقل مهادنة في ما يتعلق بحقوق شعبه، رغم أنه المعتدل في كافة القضايا الاجتماعية وغيرها.

ومن هنا لا يوجد قاع لثقافة الوشاية، أي الاستقواء بالقوى الخارجية على المنافسين الداخليين، أو بالدولة ضد قوى منافسة في الإطار المجتمعي. فمن الممكن أن تتم الوشاية بجمعية أو مؤسسة تعمل لصالح المجتمع لكن عملها للصالح العام يقويها جماهيريًا كقوة منافسة. وتكون الوشاية هنا بهدف حل هذه المؤسسة وتقييد عملها لأنه يصب في صالح القوى المنافسة. ولا وجود لمصلحة وطنية أو اجتماعية بنظر الوشاة. بهذا المعنى، أي بمعنى التنكر للصالح العام، فإن شخصية الواشي هي الشبيه التاريخي بشخصية العميل في سياقات تاريخية أخرى.

التعليقات