النهضة المعاقة (8): الغيب في السياسة

السياسة مشحونة، إذن، بالأماني والعقائد، بالمخاوف والتطلعات، بالحب والكره، بالأمل والإحباط. إنها مجال للممارسة البشرية بهدف معلن هو تغيير المصائر، كما كانت طقوس طرد الأرواح ذات مرة، وكما كانت طقوس استرضاء الآلهة.

النهضة المعاقة (8): الغيب في السياسة

** كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" للمفكر العربي عزمي بشارة صدر عام 2003، ونُشر كسلسلة مقالات في صحيفة "فصل المقال"، يجمعها همّ عرض وتحليل المعوقات التي تقف في وجه النهوض بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني نحو التحديث، ويلتقي فيها البعد النظري بالاجتماعي والسياسي. نُعيد في موقع "عرب4 8" نشْرَ هذه المقالات لأهميّتها وراهنيّتها.

__________________________________________________

 

توثقت عرى علاقة لا تنفصم بين الجهد المبذول لتحييد الغيب والسحر والقوى الخفية عن التأمل في مجالات الحياة الدنيا الطبيعية والاجتماعية وبين النهضة والتنوير. ونقول النهضة والتنوير، لأنه رغم الفارق التاريخي الكبير بين الحركتين والمرحلتين التاريخيتين في أوروبا، فإنهما متلازمتان في حالتنا. فمن العبث التمييز بين نهضة عربية يعقبها تنوير بعد قرنين مثلًا، كما كان الحال في أوروبا. لم يعد بالإمكان أخذ عناصر من النهضة من دون التنوير، تمامًا كما ليس ممكنًا أن تؤخذ الديموقراطية من دون حقوق ليبرالية، رغم أن الظاهرتين منفصلتان تاريخيًا. ومسميات النهضة والتنوير مسميات محددة لظواهر تاريخية محددة في أوروبا. وبالإمكان استخدام تسميات أخرى، كما فعل جورج أنطونيوس عندما استخدم لفظ "اليقظة العربية". وكان بإمكاتنا أن نعنون هذا الكتاب "اليقظة المعاقة"، وقد سبقنا غيرنا من الباحثين العرب لمعالجة هذا الموضوع بشكل مستفيض.

مقولة "نزع السحر" التي يستخدمها ماكس فيبر لتصوير السياق الثقافي لعملية التحديث بشكل عام، مقولة تغني من منظوره السوسيولوجي عن مصطلحات مثل النهضة والتنوير. وقد تعني من منظور الرومانسيين نزع الشاعرية من الدنيا، أو نزع معنى الأشياء وغايتها برأي المتدينين، وبالنسبة للأوائل تنظم الدنيا شعرًا وموسيقى، وتتدرج قيمة الأشياء بين المنحط والرديء والمرذول وبين العادي والمتسامي والجمالي بدرجة شاعرية الأشياء وجماليتها ومخاطبتها لمشاعر وعاطفة الإنسان، في حين تُسبح الأشياء خالقها وتكتسب معناها من قربها إليه أو بعدها عنه من منظور بعض أصناف التدين.

الدنيا قبل عملية نزع السحر مسكونة بالأرواح والمعاني والمغازي والقداسة والنجاسة. والإنسان، بفكره وعقله وروحه وكيانه، غير مفصول عن هذا العالم بل له مكان وموضع فيه. إنه ينساب معه انسيابًا، أو يتموج معه من الزاوية الرومانسية، أو أنه مدفون فيه بضروراته وحاجاته المادية ودناءته في نظر بعض الديانات، فهو من التراب وإلى التراب يعود، إلى أن يتخلص من التراب ومن المادة بالترفع عليها بالإيمان، الذي هو بداية الخلاص أو القيامة الأبدية وتخلص الروح من المادة.

ولا تكون النهضة إلا إذا انفصل العالمان في الثقافة. أي إذا أبعد عالم الروح والفكر والسحر والمعاني والمغازي عن عالم الظواهر، ولو بثمن فقدان شاعريتها، بحيث ينظم الناس الشعر بدل أن تنظمه الأشياء. ولا يغير التدين أو عدمه في حالة الفصل هذه بين الشيء والمعنى، وبين المادة والفكر، بين الروابط السببية والسحر، بين الرسم والمنظر، وبين الفن والطبيعة. فالتدين يحافظ على ذاته ووجوده في هذه الحالة وفي إطار مثل هذه الثقافة التي تفصل بين السحر والأشياء، لكنه لا يمر في هذه الحالة من خلال الظواهر والمادة وإنما يتحول إلى علاقة مباشرة بين الإنسان والروح، الغيب، والماورائي. هذا السياق الحداثي تحديدًا قد يجعل الدين برأي بعض المتدينين أنقى وأطهر وأقرب من جوهر الوحدانية التي تفصل الله عن العالم المادي تمامًا، مثلما يعتبر بعض المتدينين العلمانية تحريرًا لجوهر الدين وحرية العقيدة من سيطرة الدولة، وبالتالي فهي تقربه من ذاته.

وأعند الظواهر أمام نزع السحر هي الظواهر الاجتماعية وعلى رأسها السياسة. والسياسة أيضًا هي الأخطر من بين أوجه النشاط الإجتماعي لأنها الأعظم تأثيرًا على المجتمع ككل. إن آخر معاقل الغيب هو أيضًا أكثرها تأثيرًا. ولا بد أن تكون السياسة آخر المعاقل لما فيها من فعل للأيديولوجيا والعقيدة والتعبئة والتحزب وفكر التمني، ولأن الناس تسقط على السياسة في العصر الحديث ما كانت تسقطه على الكهنة والسحرة والمنجمين في العصور القديمة من قدرة أو صلاحية أو سلطة لتغيير مصائر البشر في عملية صنع القرار.

السياسة مشحونة، إذن، بالأماني والعقائد، بالمخاوف والتطلعات، بالحب والكره، بالأمل والإحباط. إنها مجال للممارسة البشرية بهدف معلن هو تغيير المصائر،  كما كانت طقوس طرد الأرواح ذات مرة، وكما كانت طقوس استرضاء الآلهة. وما زالت هذه الأطوار تتنازع الإنسان في أي مجتمع. لكن أدوات التعبير عنها وإنتاجها في الحيز العام قد اختلفت، وسياق هذا التطور الاجتماعي هو الأمر الأهم.

وتحاول كافة القوى الحديثة في المجتمع الحديث أن تحوّل السياسة أيضًا إلى فن وعلم في حساب القوى ومصالحها والتوازنات القائمة بينها. وتسخّر السياسة في خدمتها علومًا اجتماعية عديدة، لا تدرك في كثير من الأحيان مدى تسيسها، ومن ضمنها الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم الاتصالات، وحتى علم التاريخ. لكن السياسة ليست علمًا، وهذه المحاولات لا تكفي لتحويلها إلى علم. ولو كانت السياسة علمًا لما اختلف عليه البشر إلى هذا الحد. فالناس لا يتصارعون على الفيزياء والرياضيات ولا حتى على العلوم الاجتماعية ونظرياتها، ولا يقتل أحدهم الآخر في النقاش على تفسير تجربة كيماوية، ولا تشن دولة الحرب على دولة أخرى لسبب كهذا. ليست السياسة علمًا إذًا، بل تسخر في خدمتها علومًا: السياسة (politics) لعبة القوى السياسية وبرامجها وأيديولوجياتها ومصالحها ونضالها وصراعها في محاولة للسيطرة على عملية صنع القرار السياسي ونظام الحكم والتأثير عليه. والسياسة (policies) أي السياسات المتبعة، المصاغة أو غير المصاغة، في أي مؤسسة بدءًا بالحكومة وانتهاءً بأي مؤسسة غير حكومية، والسياسة انعكاس لمصالح متضاربة وتطلعات مختلفة قد تكون غير عقلانية ولا ترتبط بمصالح لتنظيم المجتمع بأشكال مختلفة.

وعلامة النهضة والتنوير ليست التخلص من الأماني والقيم التي يعمل السياسي من أجلها، تظاهرًا بالعملية والبراغماتية، وغيرها من الترهات التي يعتز بها المتظاهرون بالعملية في غير مكانها، وإنما الفصل بين هذه الدوافع والغايات، التي، بخلاف ما يعتقد، يزيد التنوير من وزنها في العمل السياسي، وبين التعاطي العقلاني مع الحقائق بغض النظر عن الأمنيات والدوافع، ومن دون حساب للمعجزات.

ولأن البعض لا يفصل بين الأمرين فإنه قد يقع في خطأ اعتبار تحليل الظاهرة تبريرًا لها. فقد يعتبر أن وصف جرائم المضطهِد كما هي، أي من دون مبالغة، أمر يخفف من إدانته، وأن المبالغة تعبير عن موقف يؤكد هذه الإدانة، حتى ولو كان الثمن التضحية بالدقة وولوج دائرة فقدان المصداقية في وصف الحقيقة. كما قد يعتبر التفاؤل المزروع في الأحداث زرعًا، والمسقط على عملية صنع القرار، موقفًا إيجابيًا، في حين ترى أن اتخاذ المتحفظ لموقف تحليلي معاكس يحبط النضال ويثبط الهمم، وبالتالي يخدم العدو "من حيث يدري أو لا يدري"، (ولا يمكن أن يُقصَد بهذه العبارة غير الإرهاب الفكري والإدانة). هذا التفكير تعبير عن غيبية في السياسة. قد يضل التقييم "المتشائم" ويجانب الصواب كما قد يكون التقييم المتفائل مخطئًا، لكن هذه موضوعات للنقاش العقلاني وليس للإدانات المتبادلة، طالما انطلق التقييمان من نفس الهدف أو هدفًا إلى نفس الغاية.

وفي الواقع لا بد من أجل الحصول على التأييد لموقف ما أن يقوم السياسيون بعملية تعبئة وتحشيد وتحميس، لكن هنالك فرق بين الحاجة لنشر جو من التفاؤل بعد اتخاذ الموقف بغرض إنجاحه وحشد التأييد له، وبين نشر جو من القلق تحسبًا من تطور قد يحصل بهدف يحذير الناس من ممارسات معينة. هنالك فرق بين استخدام الأمل والتخوفات لإنجاح النضال من أجل هدف معين، وبين تدخل هذه الأفكار في عملية تحليل الواقع وحساب الأدوات المستخدمة في التأثير على هذا الواقع .

تتم في السياسة بكثافة عملية صنع صورة الآخر. ومن الأجدى أن تكون هذه الصورة دقيقة قدر الإمكان ليكون الموقف منها مبنيًا على حقائق. لكن صناعة صورة الآخر بغرض تشويهها، حتى لو كان بقصد محسوب عقليًا، تؤدي إلى نشر الغيب في السياسة، وتؤدي بالسياسي إلى اتخاذ مواقف غيبية ضد الشر المستطير أو الغرابة، أو الخير التام الذي يمثله الآخر في حالة تجسيده لموقف أيديولوجي محبذ، كما كان نظام طالبان في نظر بعض الإسلاميين المتطرفين ونظام الاتحاد السوفياتي في نظر الشيوعيين المتعصبين. هذه الطريقة في صنع الآخر هي عائق أمام النهضة في المجتمعات الغربية المتطورة أيضًا، وليس في المجتمع العربي وحده.

لكن الغيبية في السياسة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تتجاوز ذلك إلى افتراض قوى سياسية فاعلة على أرض الواقع تزرعها الأيديولوجيا في المجتمع، أو تسقطها عليه. هكذا تتخيل الغيبية الخير والشر قوى قائمة فاعلة في الواقع. إنها "قوى الخير والشر" التي تقسم العالم حتى أدق التفاصيل فيما بينها، مثلها مثل قوى الظلم والتحرر، وهكذا.

تمنع الغيبية من رؤية الخير والشر كموقف أخلاقي يقسم الممارسة والسلوك الإنساني بموجب معايير، ولذلك فإنها في السياسة تؤدي إلى ثنائيات "إما.. أو..": قداسة أو نجاسة، خير أو شر، حلال أو حرام وهكذا. وتمنع هذه الثنائيات الإقصائية من تحليل المجتمع والدنيا كما هي ومن اتخاذ موقف بشأن النظام الاجتماعي والسياسي القائم. كما يؤدي بالممارسة إلى الانقسام بين الحماسة والمقاطعة، التهور والتطير، وبين الإدانة الكاملة والتعصب الأعمى. ولا شك أن هذه الثنائيات، التي يعود أصلها إلى عقلية القداسة والنجاسة والحلال والحرام، هي من أكبر القيود أمام تحرر الممارسة النهضوية العربية في عملية تغيير المجتمع. هذا السياق واضح في حالة ولوج الدين إلى السياسة، عبر تسييس الدين وتديين (تقديس أو تنجيس) السياسة. وقد تحولت هذه الظاهرة في حالاتها المتطرفة المغالية في تطرفها من عائق أمام النهضة إلى كارثة حقيقية تهدد ليس فقط كل إمكانية لعقلانية سياسية في إدارة قضايا المجتمع والدولة، بل أيضًا تعادي قيماً تنويرية أساسية مثل حق الإنسان في البحث عن السعادة وتحقيق ذاته، وتعادي قيمًا جمالية وأخلاقية متمدنة، وتعتبر المدنية ذاتها شرًا.

التعليقات