30/03/2017 - 09:34

نفي عزمي بشارة لمنفاه

في فلسطين، مارس عزمي بشارة رفضه ونقده، وفتح أبوابًا معرفية لمن أراد مقاربة الوضع الإسرائيلي وفهمه من خارج النظريات الرائجة، وهو إذ فعل ذلك، فلقناعة نضالية وسياسية بأنه لا بديل من خلق آليات عمل تؤطر النضال الفلسطيني.

نفي عزمي بشارة لمنفاه

حاور الكاتب صقر أبو فخر الدكتور عزمي بشارة، قدَّمه وأخذه إلى الأسئلة الأولى، ولعلَّه أغراه بالعودة ذات يوم إلى كتابة سيرة ذاتية فيها كل ما قاله سابقًا، وما أدلى به حاليًا، ولما سيكون عليه في قادم الأيام. ليكن ذلك طموحًا من الكاتب يشترك فيه مع طموح عزمي بشارة القلق المسكون بالأسئلة، والقلق من سيلان العمر الذي يخشى ألا يسعفه بمائه ونداه، حتى يكتمل في حديقة حياته تفتح ورود كل الأجوبة.

أحمد جابر

من السيرة العاصفة إلى العودة إلى ترشيحا، كتب صقر أبو فخر جزءًا من سيرة المناضل عزمي بشارة، فكان له وعن محاوره، كتاب «في نفي المنفى»، وهذا النفي يجيده صاحب المسيرة ويكثف معناه عندما يؤكد 'أن رفض الظلم ومظاهره، ورفض النفاق الاجتماعي غربة ومنفى في الأماكن التي تنتمي إليها. والممارسة الفكرية والعملية في رفض هذه الظواهر هي عملية شطب لهذه الغربة، ونفي لهذا المنفى يحتاج إليه كل شخص مثلي كالهواء كي يتنفَّس'. إذن، وعلى امتداد السيرة العاصفة، بدءًا من أسئلة البيت الأولى، ومن تلمس خطوات النضال الأولى في المدرسة وفي الشارع، ومرورًا بكل المحطات التي كان فيها عزمي بشارة نفسه الأولى، ثم صار إليها وهو عزمي بشارة، بقيمه الأولى وأخلاقه الأولى، وصولًا إلى واقع الشتات الذي صار واحدًا من 'مجتمعه'، عبر كل ذلك، كان عزمي بشارة ينفي منفاه، في فلسطين الأرض والهوية والتاريخ والإنسان والصمود والصراع والقضية، وفي بلاد العروبة التي من حقها أن تكون صاحبة طموح قومي يتوق إلى السيادة، ومرشحة لأن تلامس واقع الأمة التي تشكل المواطنة عروتها الوثقى.

وإذا كان لكل سيرة خيطها الناظم وأفكارها وقيمها المؤسِّسة، وإذا كان لكل حركة سياسية أو ظاهرة ثقافية أهدافها البعيدة، فإن ما انتظم حديث عزمي بشارة المرسل، وما كان دليله المرشد، هو 'نظام القيم والأخلاق' الذي جعله مرجعية قياسية لكل ممارسته الغنية المتنوعة الحافلة بالأحداث، والعامرة بالوضوح وبالصدق مع الذات ومع الآخرين. لقد قدم صقر أبو فخر كل العناوين اللازمة لصديقه الكاتب والمفكر والمناضل، ليقول ما عنده من 'نظام قيمي أخلاقي'، وليميِّز بين السياسة المتغيرة، والأهداف التي يمكن أن تتبدل، وبين المبادئ التي يتمسك بها عزمي بشارة، فتجعله بعيدًا من صفة السياسي الذي يجعل السياسة مهنة، وقريبًا جدًا من صفة المناضل الذي يحمل في داخله هاجس النقد وإرادة الرفض، وممارسة الشجاعة والإقدام.

في فلسطين، مارس عزمي بشارة رفضه ونقده، وفتح أبوابًا معرفية لمن أراد مقاربة الوضع الإسرائيلي وفهمه من خارج النظريات الرائجة، وهو إذ فعل ذلك، فلقناعة نضالية وسياسية بأنه لا بديل من خلق آليات عمل تؤطر النضال الفلسطيني وتكثفه في مواجهة الصهيونية، وتحشد الرأي العام حول عدالة قضية فلسطين وتفضح عنصرية إسرائيل. في هذا السياق كانت لعزمي بشارة أفكاره الملموسة التي اشتقها من الواقع الملموس، هو الذي طرح فكرة دولة المواطنين، وشعار الدولة لجميع مواطنيها، وهو الذي أعاد التذكير بالسكان الأصليين، ورمى بينهم شرارة كلمة الكبرياء، مما لم يكن متداولًا في الشارع الفلسطيني، ومما شكل ردًا على ممارسة الإذلال الصهيونية، مثلما شكل رد اعتبار إلى الهوية الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني، في مواجهة الهوية الإسرائيلية اليهودية، التي هي غير محايدة دينيًا ولا إثنيًا.

في لبنان، كان عزمي بشارة مع المقاومة كحق وواجب، ودافع عن حزب الله، خلال حرب العام 2006، وصار عرضة للضغط والملاحقة من قبل المؤسسة الإسرائيلية بسبب من مواقفه هذه، ولأنه كان مطلوبًا تصفية 'ظاهرة عزمي بشارة' التي نمت واشتدَّ عودها في فلسطين، فإن الموقف من المقاومة كان واحدًا من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى خروج عزمي بشارة من بلاده الغالية عنده حتى الرمق الأخير. مارس صاحب السيرة ما اعتبره واجبًا أخلاقيًا عندما دعم المقاومة وحقها في صد العدوان وفي تحرير أرضها، ومارس واجبه ورؤيته القيمية عندما انزاحت مقاومة حزب الله عن أهدافها بعد عام 2006، وعندما تورطت في الدفاع عن النظام السوري، وساندته في مواجهة شعبه، فكانت حليفًا للاستبداد، أي في الموقع الذي يتناقض مع موقعها الأخلاقي كمقاومة ضد الظلم، وبما يجعلها جزءًا من منظومة الاستبداد العامة التي قمعت شعوبها وأقفلت بوابات التقدم أمام بلدانها.

في امتداد الموقف المساند للمقاومة، كان دعم عزمي بشارة للثورات العربية، وقد ترجم ذلك الدعم من خلال كتاباته وأحاديثه ولقاءاته وندواته، وقد كلفه ذلك قطع علاقات كانت تبدو وثيقة مع الرئيس السوري بشار الأسد مثلًا، لكنه لم يتردد في الاختيار الذي ينسجم مع صدقه مع ذاته، فهو لا يستطيع أن يكون مساندًا للثورة الشبابية في تونس وفي مصر وفي ليبيا، ومناوئًا لثورة الشعب السوري، لأن علاقة ما تربطه برئيس بلد هذا الشعب. مرَّة أخرى، كان عزمي بشارة عرضة لخطاب التخوين الذي تتقنه الأدبيات السياسية العربية، لكنه لم يلتفت إلى ذلك، بل ترك لغيره أن يكون غير ذاته، ومضى متمسكًا بكل ما يعتبره تكوينيًا في ذاته الخاصة.

خارج السياسة المباشرة، ولنقل على صعيد فكري، أخذ الكاتب صقر أبو فخر محاوره إلى القومية والعروبة واليسار والماركسية والدين والعلمانية والمجتمع المدني، والديمقراطية والإسلام السياسي... وإذ يمكن القول أن محاورة عزمي بشارة من خلال ما كتبه، ومن قبل قارئيه ومتابعيه الكثيرين، تكون بالعودة إلى كل فكرة من أفكاره بشكل مستقل، لكن مما يظل في متناول الكتابة الموجزة، هو الاستمرار في متابعة خط القيم التي تأتي في طليعتها الحرية، ويشكل الإنسان موضوعها الرئيسي والأساسي، بل موضوعها الدنيوي، طالما أن مواضيع الآخرة لها بنيان آخر، وآمال مختلفة. في هذا السياق، كان لافتًا وسجاليًا جواب عزمي بشارة عن الماركسية التي انتقد فيها البعد الذي يخضع الأخلاق للمصالح، ويجعل الأخلاق نسبية والعلوم مطلقة، بينما العكس هو الصحيح، لأن الحكم الأخلاقي حر ومطلق وليس الحكم العلمي، كذلك اعتبر أن تطوير المادية الجدلية كفلسفة كان من شأنه تقويض الفلسفة في المنظومة الاشتراكية السابقة. جوابٌ لافت آخر، حول اليسار الذي غيَّر يساريته، فصار محافظًا ويمينيًا، خاصة لدى الأحزاب الشيوعية التي انتقلت إلى تبرير السائد لديها، والتي تخلَّت عن حرياتها الوطنية في اتخاذ القرار، واكتفت بما يأتيها من المركز السوفياتي، على غرار قبولها بقرار تقسيم فلسطين في العام 1947.

الإسلام السياسي ليس أفضل حالًا، لكن عزمي بشارة لم يرمه بالتهمة التعميمية التي تهمل السياق العام لنشوء ظاهرة هذا الإسلام، وهو يعتبر أن 'الإسلاميين لا يتميزون عن غيرهم في رفض الديمقراطية، فغيرهم يرفضها، لكن المشكلة مع هؤلاء تكمن في محاولتهم فرض نمط حياة محدد على الناس، وفي رفضهم بعض مكتسبات الحداثة. هكذا يعيد عزمي بشارة نقاش الموضوع إلى أصله الاجتماعي، ومن هنا يذهب إلى طرح سجالي يميز بين الدين والتدين، ويرفض المقابلة بين العلم والدين، ولا يجعل الديمقراطية والعلمانية في مواجهة الأديان، بل إنه يدلي بتعريفات حول الدين تفتح بابًا جعله أمرًا شخصيًا جدًا عندما يعتبره مثالًا إنسانيًا لم يتحقق، ومن ثم يحيله إلى الأمل. هكذا تفرز الأسئلة ولا تتداخل، ولا يجري اختراع مقولات متعارضة كمثل الديمقراطية والإسلام، وكمثل الدين وعيٌّ زائف، وكثل استعصاء البلاد العربية على الحداثة بسبب من طبيعة أديانها.

قال عزمي بشارة في حديثه المسهب الكثير، والحاجة ملحة إلى قول على قول... لكن ننتظر مع الكاتب العودة إلى ترشيحا، ليكون لنا معه هناك حديث حبٍّ طويل.

* عن موقع المدن

التعليقات