02/04/2017 - 12:33

"الاستثنائية العربية": مداخلة في بيان بشارة الديمقراطي العربي

يعتقد بشارة أن المشروع الديمقراطي يحتاج إلى نخبة ديمقراطية تؤمن به وتناضل من أجله، وأن هذا الانتقال والإصلاح لا يتم من خلال النظام السلطوي أو البنى الاجتماعية التقليدية، وكأنه يقول لا تعولوا على الإصلاح السياسي

"الاستثنائية العربية": مداخلة في بيان بشارة الديمقراطي العربي

نص المداخلة التي قدمها د. مهند مصطفى في اليوم الدراسي الذي عقده التجمع الوطني الديمقراطي يوم ١.٤.٢٠١٧ في مدينة الناصرة، بمرور عشر سنوات على خروج د. عزمي بشارة للمنفى القسري.


يُشكل الإنتاج البحثي والفكري للدكتور عزمي بشارة، اليوم، مساهمة معرفيّة، سياسية وأخلاقية وتاريخية هامة في الفكر العربي المعاصر حول الثورة والإصلاح، الديمقراطية والمواطنة، الدين والدولة، التراث والحداثة وغيرها، ولا يمكن للباحث الجاد تجاوزها، قراءة، بحثا أو نقدا، ليس كمقولات فكرية وبحثية تسعى إلى فهم ومقاربة المرحلة الحالية، بل كمقولات ساهمت في التأثير على صيرورتها أيضا.

وكلما عدت إلى مقالات بشارة القديمة، مثلا، في 'مجلة الدراسات الفلسطينية' ، ذلك المقال الصادرة عام 1992، بعنوان 'الأقلية الفلسطينية في إسرائيل: مشروع رؤية جديدة'، أو مقال 'العربي الإسرائيلي: قراءة في الخطاب السياسي المبتور'، الصادر عام 1995. نرى كيف أنها أسست لبداية تبلور سيسيولوجيا فلسطينية جديدة. هذه نماذج لمقالات لا يمكن تجاوزها في دراسة مكانة وتطور الفلسطينيين في إسرائيل، وسؤال المواطنة في الدولة اليهودية، وذلك على الرغم مرور أكثر من عقدين عليها، فهي لا تتكلس وهذا ما يميز كتابات بشارة كلما عدنا إليها تجدد لنا، فهي ليست مقالات أكاديمي الوظيفة (وهي تسمية لبشارة طبعا) التي ينتهي مفعولها الأكاديمي ولا سيما دورها المعرفي حين يتم نشرها.

أحببت أن ابدأ مداخلتي، بالذات، بالتطرق إلى إنتاجين ثقافيين وسياسيين لبشارة حول الواقع العربي الفلسطيني في إسرائيل. الأول، 'الخطاب السياسي المبتور ودراسات أخرى' الذي صدر عام 1998؛ والثاني، 'طروحات عن النهضة المعاقة' الذي صدر عام 2003.

يشكل 'الخطاب السياسي المبتور' دراسة بحثية وسجالا فكريا نقديا للخطاب السياسي المبتور الذي ظهر وتطور في صفوف الفلسطينيين في إسرائيل، علاوة على أنه يتضمن مقولات نقدية هامة للبحث الإسرائيلي، شكلت لاحقا ذخائر للنقد الفلسطيني المعرفي لهذا البحث الاستعماري، وفي كلتا الحالتين أسس الكتاب لمقولات نقدية لا تزال ترافقنا في البحث العلمي حتى الآن.

أما كتاب 'طروحات في النهضة المعاقة'، فهو نقد للبنية الاجتماعية والثقافية العربية، رغم أن الاجتماعي - الثقافي في النهضة المعاقة لا ينفصل عن السياسيّ، كما ظهر في كتاب 'الخطاب السياسي المبتور'، مثلما لا يغيب الاجتماعي والثقافي بدوره عن طروحات بشارة في الخطاب السياسي. فكلاهما متلازمان في الكتابين رغم سلطان النقد السياسي على كتاب 'الخطاب السياسي المبتور'، وهيمنة النقد الاجتماعي الثقافي على كتاب 'طروحات النهضة المعاقة'.

لماذا تطرقت إلى هذين الإنتاجين؟ لأنه من الصعب، باعتقادي، فصل بشارة في 'الخطاب السياسي المبتور' و'النهضة المعاقة' عن بشارة اليوم، إنتاجا وعملا، إذ أرى الكثير من تشابه النسق الفكري بين هذه الطروحات عن المثقفين والعلوم الاجتماعية وبين إصدار لبشارة في الأعوام الأخيرة حول 'المثقف والثورة'. ففي كتاب 'الطروحات المعاقة' ليس صدفة أن يبدأ بشارة كتابه بنقد مفهوم المثقف، فيقول: 'يكون النقد أرقى تجليات الثقافة إذا كان مؤسسا على معرفة، وعلى الربط بين الفكر والواقع' (ص. 17)، مقولة ملحة بالذات الآن مع استسهال إبداء الرأي في المجال العام بعد ثورة شبكات التواصل الاجتماعي. ويخصص بشارة مبحثا في 'النهضة المعاقة' حول الحيز العام والحيز الخاص، يلخص الكثير من المعيقات التي لا تزال تعتري المجتمع الفلسطيني في الداخل، وهي ناتجة عن غياب الوعي بالحيز العام والمصلحة العامة.

كل ذلك يتشابك مع مشروع بشارة الذي أعتبره نهضويا في العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية كشرط للنهضة الثقافية والسياسية في المرحلة الراهنة، وذلك من خلال المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. فالأخير هو خروج من 'النهضة المعاقة' و'الخطاب المبتور' على مستوى العلوم الاجتماعية العربية، إذ يهدف المركز إلى تطوير علوم اجتماعية عربية جادة وأكاديمية وعلمية، ولكنها منحازة لمشروع سياسيّ، لا يخفيه بشارة في كل كتبه الصادرة في السنوات الأخيرة، وهو المشروع الديمقراطي العربي وفي جوهره المواطنة المتساوية المتجاوزة للقبيلة والطائفة والمذهب والإثنية والجهوية.

ينجح 'الخطاب السياسيّ المبتور' في تفكيك مفاهيم مُؤسسة ودارجة في الخطاب السياسي الفلسطيني في إسرائيل، وظواهر اجتماعية وسياسية أخرى. المساواة، المواطنة والحقوق الجماعية، الثقافة والهوية القومية، تنظيم الأقلية العربية، المسألة الطائفية، العائلية، الشراكة العربية - اليهودية، اليسار، الإسلام السياسي، الطبقية والمجتمع الاستهلاكي. الكثير من هذه المفاهيم يعيد بشارة قراءتها بشكل متميز في السياق العربي - الإسلامي الواسع، وخصوصًا في كتابه 'المسألة العربية – مقدمة لبيان ديمقراطي عربي'، حيث يناقش بشارة، القبيلة، الطائفية، الإسلام والإسلام السياسيّ، الثقافة والهوية القومية والاقتصاد، وذلك في سياق التحول الديمقراطي في العالم العربي.

ما يميز فكر بشارة، ابن الشعب العربي الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1948، أن فكره تجاوز حدود وطنه فلسطين إلى رحاب الأمة العربية. يظل بشارة فلسطينيا، ولكن فكره عربياً قومياً... يبقى بشارة فلسطينيا لكن إنتاجه الفكري والبحثي اخترق حدود الوطنية للتأثير على الفكرة القومية، التي يراها بشارة التنظيم السياسي الحديث للأمه العربية، للنهوض والتنوير، ولكن باشتباكها مع المشروع الديمقراطي والمواطنة، ودون إحداث أي قطيعة أو عداء مع التراث الإسلامي، فتعامله مع التراث تعامل الناقد العارف له وليس المعادي له.

بشارة وطني فلسطيني ولكن انتماءه احتضن كل المدن والعواصم العربية. فقد حلق فكره فوق هذه العواصم والمدن، وتلقفته هي بدورها ليشكل منارة فكرية في المشروع القومي العربي. لا يرى بشارة تناقضا أو تراتبية في وطنيته وقوميته وانتماءه للحضارة العربية الإسلامية، لذلك فإن مشروعه الديمقراطي والمواطنة كان مشروعا قوميا عربيا. فالمشروع الديمقراطي وفي جوهره المواطنة، كان مشروعه السياسي في نضاله في الداخل ضد الصهيونية ولحياة كريمة للإنسان، وليس فقط للفلسطيني، وكان مشروعه السياسي للأمة العربية، وللشعوب العربية، لا سيما بعد الثورات العربية، التي بشرت ببداية مرحلة ديمقراطية نظّر لها بشارة وساهم في تطويرها فكريا وسياسيا قبل الثورات وخلالها وبعدها. استمر بشارة خلال السنوات الأخيرة بالدفاع عن المشروع الديمقراطي معرفيا وسياسيا، ولم ترهقه الثورات المضادة وتعثر الثورات الديمقراطية عن التنظير والمساهمة الفكرية والسياسية في طرح خيار المشروع الديمقراطي والمواطنة. فمن جهة، مشروع مواطنة يواجه فكرة المواطنة الإسرائيلية التي تنتمي فكريا إلى القرون الوسطى كما يصفها بشارة، ومن جهة أخرى مشروع مواطنة يواجه الاستبداد والطائفية في العالم العربي.

'في المسألة العربية'...

شكلت الثورات العربية بالنسبة لبشارة، لحظة تاريخية فارقة ولكن أيضا لحظة تاريخية معرفية هامة، فإلى جانب عبء اللحظة التاريخية التي تتطلب من المثقف أن يكون إلى جانب الثورة الديمقراطية، وقعت على بشارة مهمة معرفية ليست سهلة في التنظير للثورة الديمقراطية من قلب اللحظة التاريخية، فهو مشغول ومنشغل فيهما، كمثقف ومفكر منحاز للديمقراطية. فالثورة تحتاج إلى المفكر التي ينظر لها في نهاية الأمر، ويمكن الجزم بلا ريب أو شك أن بشارة كان مفكر ومنظر الثورات العربية، وكان يملك شجاعة القائد والمفكر في لحظات صعبة خلال الثورات، بأن يخرج ضد مؤيدي الثورة الذي انحرفوا عن المشروع الديمقراطي والمواطنة، في حدة لا تقل عن حدة وقوفه ضد الاستبداد والثورة المضادة.

في هذه اللحظات التاريخية، كان بشارة متسلحا بمشروع ديمقراطي وبخطاب المواطنة، ساهما في تطوير الفكر القومي العربي، فبشارة هو منظر للفكر القومي العربي وحلقة فكرية هامة في صيرورة تطوره من خلال مقاربته ديمقراطيا.  فمشروع المواطنة لمن لا يعرف أو يتجاهل، ليس مشروعا وطنيا فلسطينيا بالنسبة لبشارة بل هو مشروع قومي عربي.

قام بشارة بمقاربة الثورة العربية ديمقراطيا، من خلال انحيازه إلى المشروع الديمقراطي والمواطنة. مقاربة الثورة العربية ديمقراطيا ليس إسقاطا أيديولوجيا على الواقع العربي الراهن، بل هو إطار مفاهيميّ لتحليله واتخاذ موقف معرفي وأخلاقي منه يتجاوز الأيديولوجيا.

في ظل سؤال النهضة حضر أيضا سؤال الديمقراطية إلى جانب أسئلة كثيرة. وكما سأل شكيب أرسلان سؤاله المشهور في الثلاثينات: 'لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟'، وجعل سؤاله عنوانا لكتاب عالج هذا الإشكال. عاد العرب وأعادوا إنتاج هذا السؤال منذ الثمانينات ولكن بصيغة جديدة، 'لماذا انتقل الآخرون إلى الديمقراطية وتأخر غيرهم؟'.

لا يسأل بشارة على هذا الاشكال بهذه الصيغة الأيديولوجية، ويعتبر الكتاب أن طرح المسألة الديمقراطية بصيغة 'لماذا انتقل الآخرون إلى الديمقراطية وتأخر العرب؟' فيها الكثير من الخلط بين البحث العلمي الرصين والمواقف السياسية، وهي تعبر عن آماني تؤدي بصاحبها إلى التكاسل السياسي والمعرفي، لا إلى الفعل وإمعان العقل.

المقولة الأساسية لبشارة كما تظهر في أدبياته هو وجود استثنائية عربية، وهذه الاستثنائية هي المعيقة للتحول الديمقراطي. ويمكن القول على هامش هذه الاستثنائية، إنه بقدر خصوصية الاستثنائية العربية جاءت خصوصية الاستثنائية الثورية العربية مؤخرا. ينفي بشارة وجود استثنائية إسلامية تعيق الديمقراطية، كما يحلو طرحها في بعض الأدبيات الاستشراقية والاجتماعية الغربية والإسرائيلية.

في المقابل، يفكك بشارة ويحلل هذه الاستثنائية (العربية) بطريقة رائعة، بدءًا بسؤال المواطنة، ثم بمسألة الدولة الريعية وانتشارها عبر نماذج وقوالب مختلفة تجاوزت الدول النفطية، مرورا بعائق الثقافة متناولا قضية القومية والهوية الدينية، وحضور القبيلة وارتباطها في تشكل المبنى السياسي والفعل الاجتماعي والاقتصادي، وانتهاءً بخصوصية الإصلاح عربيا. إن بحث هذه المعيقات (الريع، الثقافة، القبيلة، الطائفة، الهوية والمواطنة) من دون إطار فهم الاستثنائية العربية، سيجعل البحث عقيما والفعل السياسي كسولا.

مقولة الاستثنائية العربية وتمييزها عن الإسلامية وهي مقولة نظرية هامة، حيث استنزف البحث العلمي والفكر السياسي العربي والإسلامي في العقود الثلاثة الأخيرة بإنشغاله بدراسة ومقاربة العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وكأن الإسلام هو المعيق للديمقراطية. فالإسلام ليس معيقا للديمقراطية ولا هو الدافع لها. لذلك كان لا بد من الانشغال أكثر وبشكل أكثر عمقا في العلاقة بين الحركات الإسلامية والديمقراطية، وحتى هذا الانشغال يقع ضمن الاستثنائية العربية، استثنائية الحركات الإسلامية العربية وخصوصيتها مقارنة مع الحركات الاسلامية غير العربية، فهذه الخصوصية الإسلامية الحركية نابعة من الاستثنائية العربية كما طرحها بشارة وليس من الاستثنائية الإسلامية.

نقول إلى جانب مقولة الاستثنائية، هناك الإضافة السياسية لبيان بشارة الديمقراطي العربي (أو 'المسألة العربية') إلى جانب الإضافة المعرفية الهامة، فهو يحاول تجديد الفكر القومي، من خلال مقاربة قومية للديمقراطية من جهة، وحلا ديمقراطيا للمسألة القومية من جهة أخرى، فهو يعتقد أن الفصل إلى درجة القطيعة، التي تمت بوعي ومن دون وعي، بين الفكرة القومية والديمقراطية أضرت بالمسألة القومية والديمقراطية معاً.

يعتقد بشارة أن المشروع الديمقراطي يحتاج إلى نخبة ديمقراطية تؤمن به وتناضل من أجله، وأن هذا الانتقال والإصلاح لا يتم من خلال النظام السلطوي أو البنى الاجتماعية التقليدية، وكأنه يقول لا تعولوا على الإصلاح السياسي من خلال النظام السلطوي القائم أو البنى الاجتماعية القائمة، لأن الاستثنائية العربية سوف تهدم حتى أركان هذا الإصلاح.

'في المسألة العربية' هو بيان ديمقراطي وقومي، ومساهمته في إنتاج العلاقة بين الفكرة القومية والديمقراطية والمواطنة المتساوية هي المساهمة الهامة التي يقدمها بشارة في بيانه منذ العام 2007، إضافة إلى المساهمة المعرفية لبحث الديمقراطية ومعيقاتها في الحالة العربية. وأعتقد أن بشارة أعاد تأسيس هذه العلاقة من خلال مشروع التجمع الوطني الديمقراطي في الداخل قبل أن يؤسسها تنظيرا، وإعادة تجديد الفكر القومي واخراجه من حالته الأيديولوجية المتكلسة إلى حالته السياسية المنفتحة.

بيانات ودراسات بشارة حول المسألة القومية، المواطنة والديمقراطية تعتبر تجديدا فكريا وقوميا هاما في سيرورة الفكر السياسي العربي والحركة القومية العربية، وله أهمية حتى في التداول الفكري والسياسي في واقع مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، فحتى تلك التنظيرات التي كتبها بشارة بعد المنفى حول مقاربة الحالة العربية ديمقراطيا، لا تخلو من صلات مع واقعنا الفلسطيني عموما.

واسمحوا لي أن أنهي مداخلتي باقتباس بشارة حول مفهوم الانتماء والوطنية الفلسطينية، من خلال الربط بين الوطني والقومي، الوطنية عند بشارة ليست الدولة الفلسطينية: 'الوطنية في ظروفنا هي أولا موقف، ولكنها ليست موقفا فحسب... نحن نرى أن الوطنية كقضية سياسية هي قضية موقف. ولكنه ليس موقف اللحظة فحسب، بل يتعدى ذلك ليسند الموقف السياسي الصحيح بالذاكرة التاريخية، والانتماء لهذا الوطن ولهذا الشعب، الشعب العربي الفلسطيني. نحن نرى في الأقلية العربية القومية في إسرائيل، كما نرى في لاجئي لبنان وسورية وغيرها من مناطق النزوح والشتات جزءا من الشعب العربي الفلسطيني...'.

ويتابع بشارة في مكان آخر ويقول: 'الانتماء الفلسطيني ليس مجرد انتماء لقرية قائمة أو مهدومة، كما أنه ليس انتماء لفلكلور، كما أن الثقافة الفلسطينية ليس جامعا قوميا إلا بقدر ما هي ثقافة عربية، وكل خصوصية ثقافية فلسطينية تتعدى الجامع الثقافي العربي إنما هي نابعة عن الارتباط بالخصوصية السياسية لفلسطين... ولا يوجد تناقض بين قوة الحركة الوطنية الفلسطينية والفكرة السياسية الفلسطينية وبين الحركة القومية العربية'.

التعليقات