كيف سيؤثّر "تشات جي بي تي" على موظّفي الأعمال المكتبيّة؟

لم يؤثّر أيّ اختراع تكنولوجيّ على وظائف الخرّيجين الجامعيّين حتّى الآن، فهل سيكون الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ هو الاستثناء؟

كيف سيؤثّر

(Getty)

لم يؤثّر أيّ اختراع تكنولوجيّ على وظائف خرّيجي الجامعات حتّى الآن، فهل سيكون الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ هو الاستثناء؟

«يشهد العالم اليوم ثورة تكنولوجيّة غير مسبوقة في مجال الذكاء الاصطناعيّ، ومن المتوقّع أن يؤثّر هذا التطوّر السريع على الوظائف في مختلف القطاعات والمجالات. وبالتّالي، فإنّ الخرّيجين الجامعيّين قد يواجهون تحدّيات كبيرة في العثور على وظائف تلبّي احتياجاتهم وتحقيق تطلّعاتهم المهنيّة في السنوات الخمسة القادمة.

قد تتأثّر بعض الصناعات مع استخدام الذكاء الاصطناعيّ لتحسين الإنتاجيّة وتقليل التكاليف بتقليل أعداد العمالة المطلوبة، وعليه يتوقّع أن يكون هناك تنافس شديد على الوظائف المتاحة، وهو ما يزيد من صعوبة العثور على وظيفة مناسبة بالنسبة للخرّيجين الجامعيّين. وعلاوة على ذلك، قد يؤدّي استخدام الذكاء الاصطناعيّ إلى زيادة الطلب على العمالة المتخصّصة في مجالات معيّنة، مثل الهندسة الكهربائيّة والبرمجة وعلوم البيانات، ممّا يعني أنّه سيتعيّن على الخرّيجين الجامعيّين اكتساب المهارات والمعرفة اللازمة للاستفادة من هذه الفرص المتاحة.

يمكن القول في النهاية إنّ الذكاء الاصطناعيّ سيؤثّر على وظائف الخرّيجين الجامعيّين خلال السنوات الخمسة القادمة، ومن المهمّ أن يتماشى الخرّيجون مع هذا التطوّر التكنولوجيّ من خلال تطوير مهاراتهم والتعلّم المستمرّ لتحقيق النجاح المهنيّ في هذا العالم المتغيّر باستمرار».

باختصار شديد: سيتمكّن تشات جي بي تي من تنفيذ مهامّ عملي وعملك، وهذا على حدّ تعبيره! أطلقت التطبيق شركة أوپن إيه آي Open AI قبل أشهر، أحد أهمّ مختبرات الذكاء الاصطناعيّ في الولايات المتّحدة، ويشير اختصار اسمه إلى «محوّل الدردشة التوليديّة المدرّب مسبقًا Chat Generative Pre-trained Transformer». الفقرة الأولى أعلاه ولدها التطبيق عندما طلبت منه «اكتب مقالة من 3 فقرات حول تأثير الذكاء الاصطناعيّ على وظائف الخرّيجين الجامعيّين خلال السنوات الخمسة القادمة».

وتشات جي بي تي ليس التطبيق التوليديّ الوحيد الّذي أطلق مؤخّرًا، حيث شهدنا انتشار تطبيقات توليد الصور ميدجيرني MidJourney وتطبيق DALL-E وتطبيق توليد الڤيديو سينثيسا Synthesia، ويمكن رؤية الجانب الإيجابيّ لهذه التقنيّات في أنّها ستنتج كمّيّات مهولة من المحتوى الرقميّ بسرعة وبأرخص سعر ممكن. بدأ الطلّاب باستخدام تشات جي بي تي في كتابة المقالات، كما راحت الشركات تستخدم التطبيق في كتابة محتويات تسويقيّة لمواقعها الإلكترونيّة وموادّها الترويجيّة وللتفاعل مع أسئلة خدمة العملاء، وأيضًا أخذ المحامون يستخدمون التطبيق في تجهيز المخلصات القانونيّة (اجتاز تشات جي بي تي قسم الأضرار والأدلّة في امتحان نقابة المحامين متعدّد الولايات)، واستخدم الأكاديميّون التطبيق في تجهيز الهوامش السفليّة لمقالاتهم وأبحاثهم.

(Getty)

توجد استخدامات جمّة للتطبيق، ولكن ماذا عن آثاره السلبيّة على سوق العمل؟ ماذا سيحصل حينما يستبدل تشات جي بي تي كتّاب المحتوى والصحفيّين وموظّفي خدمات العملاء والمساعدين القانونيّين والمبرمجين والمسوقين الرقميّين؟ حذّر العاملون في مجال الذكاء الاصطناعيّ على الدوام من أنّ قدرات هذه التطبيقات تهدّد وظائف الأعمال المكتبيّة، حيث أخذت هذه التطبيقات بالفعل تخترق وظائف كان يعتقد أنّها بعيدة عن الأتمتة. وفي واحدة من أكثر السناريوهات تطرّفًا، يعتقد المحلّلون بأنّ الذكاء الاصطناعيّ سيغيّر عالم الأعمال إلى الأبد، وقدّرت دراسة من جامعة أوكسفورد أنّ 47% من وظائف الولايات المتّحدة في خطر الزوال.

لم يؤثّر أيّ اختراع تكنولوجيّ على وظائف الخرّيجين الجامعيّين حتّى الآن، فهل سيكون الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ هو الاستثناء؟ لن يتمكّن أحد من الإجابة على هذا السؤال نظرًا لحداثة التكنولوجيّة، ونظرًا لبطء الوظائف في التأقلم مع التغيّرات التكنولوجيّة المفروضة عليه، إلّا أنّ الذكاء الاصطناعيّ ليس مثل التقنيّات المكتبيّة الأخرى، وأخبرني أحد علماء التكنولوجيا: كثير من الوظائف الّتي اعتقدنا أنّها عصيّة على الأتمتّة، صارت مؤتمتة. وقال ديفيد أوتور، البروفيسور في معهد إم آي تي، وأكثر العلماء خبرة في عالم الوظائف وتأثير التغيّرات التكنولوجيّة: «كانت تقدّمنا قبل هذا الاختراع خطّيًّا ويسهل توقّعه، أنت ترسم الخطوات للكومبيوتر، وهو يتبع تلك الخطوات. تتبّع الكومبيوتر الخطوات تتبّعًا أعمى، ولم يتعلّمها، ولم يرتجل عليها»، أمّا تشات جي بي تي، والتطبيقات المشابهة، فهي ترتجل، وصار واضحًا أنّها ستؤثّر على استقرار وظائف الأعمال المكتبيّة، بغضّ النظر عن سبل التأثير.

ما زال الأشخاص والشركات في طور تعلّم التكنولوجيا الجديدة، وتعلم إمكانيّاتها وكيفيّة استخدامها في وضع منتجات جديدة وتبسيط العمليّات التشغيليّة وزيادة كفاءة الموظّفين، ولكن ومن تجارب سابقة، قد تستغرق عمليّة تكييف الذكاء الاصطناعيّ وقتًا طويلًا، حيث اكتشف البشر الكهرباء، واخترعوا الدوائر والأضواء الكهربائيّة والمحرّكات الكهربيّة البدائيّة في أوائل القرن التاسع عشر، إلى أنّها استغرقت قرنًا كاملًا لتنتشر وتذيع بين الناس في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وتؤثّر على الناتج المحلّيّ الإجماليّ. وإذا نظرنا إلى مثال الكومبيوتر، فقد توفّر للاستهلاك التجاريّ في بداية الخمسينيّات من القرن الماضي، إلّا أنّها لم يدخل سوق العمل بقوى حتّى نهاية التسعينيّات.

تحسن بعض التطبيقات التكنولوجيّة من القدرة الإنتاجيّة، وتقلّل الحاجة إلى الأيدي العاملة. وتقلّل الآلات الصناعيّة، مثلًا، الحاجة إلى الموظّفين، وتزيد في الوقت نفسه من القدرة الإنتاجيّة وكفاءتها، وهو ما تفعله الكثير من الاختراعات التكنولوجيّة منذ بداية الثورة الصناعيّة. إلّا أنّ العديد من الاختراعات، حتّى المدهشة منها، تكون ذات تأثيرات صامتة. وكيف كان أثر الإنترنت؟ ألم يغيّر كافّة أشكال التواصل البشريّ خلال العقود الأربعة الأخيرة؟ وعلى الرغم من تغييره لطريقة تلاقينا واتّصالنا وحديثنا وقراءتنا ومشاهدنا وتصويتنا وإحساسنا وتسجيلنا لحياتنا اليوميّة والتأسيس لآلاف الشركات وخلق ملايين الفرص، إلّا أنّ الإنترنت «فشل في اختبار كونه اختراعًا عظيمًا» حسب كلمات الاقتصاديّ روبرت غوردون في 2000، لأنّه «يقدّم المعلومات والتسلية بشكل مريح وأرخص من قبل، إلّا إنّ العمل عليه الآن يتطلّب الكثير من التبديل بينه وبين الأوساط القديمة الأخرى»، والآن بعد مضيّ ربع قرن تقريبًا على تلك الكلمات، ما زال الإنترنت على حاله، ولم يؤدّ إلى ثورة إنتاجيّة، وكذلك الهواتف الذكيّة.

كيف ننظر للذكاء الاصطناعيّ؟ مثل هاتف ذكيّ؟ أم مثل ماكينة آليّة؟ هل سيتغيّر طبيعة تنفيذ الأعمال دون إلغائها؟ أم أنّه سيضيف سان فرانسيسكو إلى حزام الصدأ Rust Belt ؟

أشار أوتور أنّه ليس من السهل القول بقدرة التكنولوجيا على إزالة الوظائف أو توقّع ذلك، ولنتذكّر جميعًا ما حصل قبل سنوات عديدة حينما كان الحديث عن انتشار السيّارات ذاتيّة القيادة وبأنّها ستلغي وظيفة سائقي التاكسي. ولكن دعونا نحقّ الحقّ: الذكاء الاصطناعيّ أكثر مرونة من ملفّات إكسل وأكثر إبداعيّة من مستندات غوغل، والأهمّ من ذلك أنّه يحسّن من نفسه أوّلًا بأوّل، ويتحسّن كلّما استخدم أكثر، وكلّما تعرّض لقدر أكبر من البيانات، في حين يعاني المهندسون مشقّة بالغة في تحديث بعض البرامج المتعلّقة بعملهم.

(Getty)

حين يصير بمقدور الشركات استبدال البشر بالآلات، فستذهب إلى هذا الخيار بقوّة، وهذا ما حصل خلال الفترة الماضية. صار بإمكان الذكاء الاصطناعيّ القيام بأعمال المساعدين القانونيّين والكتّاب التسويقيّين ومنتجي المحتوى الرقميّ والمساعدين التنفيذيّين والمبرمجين المبتدئين، وأيضًا عمل بعض الصحفيّين، وهذا ما يعني حصول تغيير في هذه الوظائف، وفي وقت قريب. ولكن، حتّى لو تمكّن تشات جي بي تي من كتابة فقرة جيّدة باستخدام الذكاء الاصطناعيّ، إلّا أنّه لا يستطيع مقابلة خبراء الذكاء الاصطناعيّ وخبراء العمل، ولا يستطيع إيجاد الوثائق التاريخيّة ولا تقييم جودة الأبحاث عن التغيّر التكنولوجيّ وأثره على الوظائف. يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن ينشئ محتوى بناء على المحتوى المنشور على الإنترنت، بدون فهم أو إدارة ودون قدرة على تصحيح نفسه، ودون القدرة على الإتيان أو تحديد الأفكار الأصليّة الجيّدة، وهذا يعني أنّ الذكاء الاصطناعيّ قد يزيد من قيمة الصحافة، وأن يزيد من إنتاجيّة الصحافة الاستقصائيّة، وهذا إلى جانب كتابته لكمّيّة مهولة من المحتوى البسيط. قد يكون بإمكان الذكاء الاصطناعيّ إعداد قوائم وملخّصات للاجتماعات، ولكن سيكون بإمكان البشر كتابة قصص ذات أبعاد مختلفة. وشرح أوتور «سيساعد الذكاء الاصطناعيّ البشر على استغلال خبراتهم أكثر، وهذا يعني زيادة مستوى التخصّص لدينا».

وقد يزيد الذكاء الاصطناعيّ من كفاءة بعض الصناعات، وبتأثيرات صامتة على التوظيف. تعرّفت خلال الفترة الماضية على مات وامپلر، الشريك المؤسّس لشركة صغيرة قائمة على الذكاء الاصطناعيّ اسمها ClearCOGS، وأخبرني بأنّه طوال حياته المهنيّة كان يسمّى بـ «فتى المطعم» وأضاف بأنّ المطاعم ومحلّات البقّالة تربح بهوامش ضئيلة، إلّا أنّها ترمي قدرًا كبيرًا من الطعام. يطلب الناس السباغيتيّ أكثر من البرغر، وبالتّالي يتمّ التخلّص من خبز البرغر، «تتأخّر المطاعم في توظيف التكنولوجيا، فهي قائمة على البشر. بشر يقدّمون الطعام إلى بشر آخرين. بشر يديرون بشرًا، وفي هذه الصناعة المتمركزة حول العنصر البشريّ، يكون من الأفضل معالجة مشاكلها عبر البشر، وهنا نأتي نحن نقدّم لكم فل Phil».

تعمل شركة ClearCOGS على أخذ تاريخ طلبات الزبائن وتاريخ سلسلة الإمداد وبيانات العمل، وتستخدم نمذجة الذكاء الاصطناعيّ لتزيد من سهولة عمل المطاعم وجعلها أكثر ربحًا: في الوقت الّذي يزيد فيه طلب الناس على السباغيتيّ بدلًا من البرغر، سيخبر البرنامج الشيف المسؤول بأنّ عليه أن يشتري باستًا أكثر من الخبز. يشرح وامپلر «وضعنا هذه التقنيّة موضع التنفيذ في بعض محلّات ابن عمّي للساندويتشات، وحصلنا على إجابات بسيطة لبعض الأسئلة البسيطة. وواحد من هذه الأسئلة هو أنّه يوجد مدير مساعد للمناوبة الليليّة، وقبل موعد الإغلاق بساعتين، أراد أن يعرف ما إذا كان بحاجة إلى تجهيز طلبيّة خبز أخيرة أو لا، ونحن في شركتنا وفّرنا له الإجابة». لا يلغي تشات جي بي تي الوظائف البشريّ بالمعنى الحرفيّ للكلمة، ومحلّات الساندويتش الصغيرة لن توظّف شركة ماكنزي للاستشارات، ولكنّها قد تزيد من كفاءة قطاع الأغذية ككلّ.

وحتّى لو لم تعزّز تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ اقتصادنا، إلّا أنّها قادرة على تغيير طريقة عيشنا، وأن تبدّل سبل قضائنا لأوقاتنا، كما فعلت وسائل التواصل الاجتماعيّ قبلها. قد تصبح ألعاب الفيديو أكثر تكاملًا، وقد يصبح لدى المحلّات قدرات كتابيّة تسويقيّة وصور وتصميم أفضل. وقد تصبح الفيديوهات على اليوتيوب أكثر غرابة وإمتاعًا. قد نرى محتويات مقولبة أكثر من الطبيعيّ (وقد نرى إنتاجًا أكبر للمعلومات والأخبار الكاذبة والزائفة).

أوضح أوتور أنّ الخطر الأكبر الّذي يواجه العاملين هو أن تحدث تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ تغييرًا كبيرًا ومفاجئًا في نوع العمالة الّتي تحتاجها الشركات. قد تلغى تخصّصات بأكملها، تاركة وراءها آلاف موظّفي خدمات العملاء في مراكز الاتّصالات آلاف المسوّقين دون عمل، ولكنّه أكّد على مزايا وجود هذه التكنولوجيا بين أيدينا اليوم. لقد انخفضت إنتاجيّتنا لعقود طويلة وتأخّرنا في التقدّم، وقد تساعدنا التكنولوجيا في اللحاق بالركب.

التعليقات