«200 متر»... هل ينتهي الكابوس؟

مصطفى (الممثّل علي سليمان) | علاء العبدالله

 

"تشعل سيجارتك في فرعون وتُطفئها في الطيّبة"، هكذا افتتح أمين نايفة عرض فيلم «200 متر» في «جمعيّة تشرين» في الطيّبة، موضحًا أنّها "المسافة بيننا وبين قرية فرعون؛ ولذلك الطيّبة كانت الحاضر الغائب في طيّات الفيلم". مسافة 200 متر بين شقَّي الوطن المحتلّ، رقمٌ فتّتها الاحتلال إلى كسور، فتشرذمت العائلة الفلسطينيّة وحُرِمَت من العيش حياة كريمة طبيعيّة خالية من الذلّ.

 

معاناة الطّفولة

كان أمين نايفة شاهدًا على معاناة يوميّة لآلاف الفلسطينيّين، في علاقتهم بجدار الفصل العنصريّ والحواجز، وهو أيضًا واجه تجربة مريرة في طفولته، لا تزال أوجاعها محفورة في ذاكرته، عبّر عنها بكلّ صدق في فيلمه الّذي  عاش معه على مدى سبع سنوات؛ فنايفة ابن لأب فلسطينيّ كان يقيم في الأردنّ، وأمّ من عرعرة تنازلت عن الجنسيّة الإسرائيليّة لتلتحق بزوجها، لتعود العائلة بعد ذلك إلى فلسطين، طولكرم تحديدًا، بعد «اتّفاقيّة أوسلو» عام 1999، وقبل الانتفاضة الثانية بسنة.

 

 

عاش نايفة سنوات الانتفاضة الثانية بكلّ تفاصيلها؛ كبر على وقع الاجتياحات، والاعتقالات، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل؛ «تفعفل» بتراب الوطن و«تمرمط» على المعابر، يقول: "لست أمين الضفّاويّ ولا الغزّاويّ ولا من عرب 48، فأنا الفلسطينيّ الّذي حملت ذكريات طفولتي الجميلة عند بيت جدّي وأقارب أمّي في عرعرة. هذا الفيلم حلمي الخاصّ الّذي استوحيته من تجربة مريرة، عشتها وعاشتها والدتي، ولا تزال أوجاعها محفورة في ذاكرتنا".

 

لمّ شمل

مصطفى (الفنّان علي سليمان) يجاهد ويتحمّل، يبقى متماسكًا، لا يستسلم لألم أو وجع، أب حنون وزوج شهم، وقد تجسّدت مسافة الـ 200 متر بنسمة ريح، تفصل بينه في الضفّة الغربيّة، وزوجته سلوى، وأبنائه نورة ومريم  ومجد في الأراضي المحتلّة عام 1948. واقع يجسّد معاناة العائلات الفلسطينيّة بسبب القوانين العنصريّة الّتي تمنع لمّ الشمل.

يرفض مصطفى أن يخضع لقوانين الاحتلال، والدخول في الإجراءات التمييزيّة المعقّدة بلمّ الشمل مرّتين: المرّة الأولى عن طريق والدته، والمرّة الثانية عن طريق زوجته، الّتي في نهاية المطاف، وفي أحسن الأحوال، تمنحه إقامة مؤقّتة «مع وقف التنفيذ». مقابل ذلك، يتحمّل مصطفى أعباء رحلة شاقّة وطويلة شبه يوميّة، نحو الحاجز الإسرائيليّ، حيث يقطن زوجته وأبناؤه على الجانب الآخر. تقول سلوى، في حوار متشنّج مع زوجها في أحد مشاهد الفيلم: "الحقّ عليك إنت لأنّه كان عندك فرصة إنّك تطلّع هويّة إسرائيليّة لكنّك رفضت"؛ ليجيبها بكلّ غضب "ما بدّيش الهويّة"!

أكثر من 22 ألف عائلة فلسطينيّة مزّقتها القوانين الإسرائيليّة اللاإنسانيّة، تمنع الأولاد من رؤية الأب أو الأمّ، تحرمهم من لمّ الشمل، وتحديدًا في ظلّ قانون «القوميّة» الّذي يؤكّد يهوديّة دولة إسرائيل...

سلوى (الممثّلة رنا زريق)، ربّة بيت وأمّ وعاملة، عبّرت عن الدور النضاليّ للمرأة الفلسطينيّة القويّة الشامخة المحبّة العطوف، الّتي تناضل من أجل تماسك أسرتها، تجمع بين تربية الأبناء والسّهر على احتياجاتهم ومتطلّبات الحياة، بالإضافة إلى أعمال منزليّة لبيتين، أحدهما هنا والآخر هناك، خلف ذلك الجدار، على مسافة 200 متر. في أحد المشاهد، تصدّ سلوى شهوات زوجها، يقول لها "إنت حلالي"، لكن يبدو أنّ التعبير عن الحبّ والعاطفة والشهوة في ظلّ احتلال، يتأثّر من الحواجز والجدران الوهميّة، حيث لا مكان للحبّ، للدلع والغنج، لا وقت لذلك.

أكثر من 22 ألف عائلة فلسطينيّة مزّقتها القوانين الإسرائيليّة اللاإنسانيّة، تمنع الأولاد من رؤية الأب أو الأمّ، تحرمهم من لمّ الشمل، وتحديدًا في ظلّ قانون «القوميّة» الّذي يؤكّد يهوديّة دولة إسرائيل، حيث يكون تفضيل اليهوديّ على أيّ مواطن فلسطينيّ من أصحاب الأرض.

 

رحلة الـ 200 كيلومتر

يناقش الفيلم الفرق في الامتيازات بين وثائق الاحتلال المختلفة: «هويّة زرقاء» و«خضراء» و«إقامة»، وما يترتّب على هذا الواقع القانونيّ من نهش للنسيج الاجتماعيّ الفلسطينيّ، لتعيش كلّ مجموعة تحمل وثيقة من نوع ما معاناتها، ولكلّ معاناة حجم وقدرة مختلفة على التحمّل.

كما يناقش الفيلم قضيّة التصاريح الّتي يتزاحم عليها الآلاف يوميًّا؛ في سبيل لقمة عيش يذرف الفلسطينيّ من أجلها كرامته مع العرق والذلّ، مع كلّ إشراقة شمس؛ حياة يوميّة ظالمة لآلاف العمّال الفلسطينيّين. محظوظ مَنْ يفي بشروط الحصول على تصريح عمل، وثمّة مَنْ لديه «منع أمنيّ»، أو غير متزوّج، أو مَنْ فاته موعد تجديد الهويّة الممغنطة، كما حصل مع مصطفى، ليكون مصيره رحلة الـ 200 كيلومتر!

رحلة الـ 200 كيلومتر بدأت عندما عرف مصطفى أنّ ابنه مجد خبطته سيّارة، وسيدخل المستشفى لإجراء عمليّة مستعجلة في مستشفى في الخضيرة في أراضي 48. تبدأ رحلة التهريب في مناطق «ج» المحاذية لطولكرم؛ رحلة جهنّميّة مريرة، بما فيها من وحشيّة المستوطنين، حيث سرقة الأرض والماء والهواء عنوة، تحت الحماية الإسرائيليّة، بالإضافة إلى استغلال من «السماسرة» الفلسطينيّين، الّذين يزجّون بالعابرين كالخراف في صندوق سيّارة إسرائيليّة، فيتهاوى الفلسطينيّ بين مطرقة الاستغلال وسندان الحواجز. رائحة الموت ونقص الأكسجين يذكّراننا برواية غسّان كنفاني «رجال في الشمس»، حيث السّؤال: "لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان"؛ إذ مصطفى وآخرون في الصندوق الخلفيّ في سيّارة التهريب.

محظوظ مَنْ يفي بشروط الحصول على تصريح عمل، وثمّة مَنْ لديه «منع أمنيّ»، أو غير متزوّج، أو مَنْ فاته موعد تجديد الهويّة الممغنطة، كما حصل مع مصطفى، ليكون مصيره رحلة الـ 200 كيلومتر!

الرحلة تنطلق بعدها إلى منطقة القدس، حيث جزء منخفض من الجدار، لم ينجحوا في تسلّقه، وصولًا إلى إصابة رفيق درب مصطفى في رحلة التهريب، رامي، ونومه في المستشفى، وبدل أن يكون مصطفى مع ابنه في المستشفى، كان بجانب رامي، ما يزيد من قسوة الحبكة. بعد ذلك يكون التهريب عبر معبر مخصّص للإسرائيليّين والمستوطنين فقط، وأنت وحظّك.

تجسّد المشهد بسياقة سيّارة إسرائيليّة من قِبَل الممثّلة آنا، أجنبيّة شقراء غير معروفة الجنسيّة والأصول، تخوض مغامرة تصوير فيلم عن المعاناة الفلسطينيّة؛ صورة رماديّة لليسار الإسرائيليّ الّذي يختبر أفراده لبس الثوب الفلسطينيّ، ثوب ليس من قياسهم ولا ذوقهم، كي يجرّبوا المعاناة الّتي تتطلّب منهم أحيانًا أن يعيشوا بعض المغامرات، محاولين فهم الصراع.

فيلم متقَن، يبدع ممثّلوه في تجسيد الشخصيّات وجعلنا نعيش بكثافة تفاصيل حياة نعيشها يوميًّا، وهو ينتهي بفرح وأمل، ليشبه الفلسطينيّ في ذلك، حيث يختلق سببًا دائمًا للعيش، كما تغنّي الفنّانة جوليا بطرس: "بكرة بخلص الكابوس وبدل الشمس بتضوّي شموس، على أرض الوطن المحروس، رح نتلاقى يومًا ما!".

 

 

رناد مصلح جبارة

 

 

 

مديرة «جمعيّة تشرين» في الطيّبة. مختصّة في العمل في مؤسّسات المجتمع المدنيّ ومنظّمات حقوق الإنسان.