عن الملصق الأخير لمهرجان "كان" السّينمائيّ، وما سبقه

للمهرجانات السّينمائيّة في العالم ملصقات سنويّة، ولأهميّة الملصق في الصّناعة السّينمائيّة، كواحد من الإشارات الأوليّة لهويّة الفيلم، كواحد من محفّزات الانطباع الأوّليّ له، اعتمدت المهرجانات ملصقات خاصّة لكل دورة منها، لكن الأبرز من بينها والأكثر ترقّبًا، كان ملصق مهرجان "كان" السّينمائيّ، قد يكون ذلك لأهميّة المهرجان، لكن الأكيد أنّ الملصق الكانيّ، جماليًا، تميّز عن غيره، أخيرًا تحديدًا، ليصير إعلان المهرجان عن ملصقه وإطلاقه له خبرًا صحافيًا.

ملصق مهرجان "كان" السّينمائيّ 2007

ولأنّ الموضوع برأينا أهم من مجرّد خبر ينحصر في الملصق الأخير، وقد أطلقت إدارة المهرجان قبل أيّام ملصق دورته الـ 69 المنعقدة ما بين 11 و 22 أيّار (مايو)، سنجدها فرصة للحديث، سريعًا، عن مجمل ملصقات المهرجان.

لكن قبل ذلك، لا بد من التّوقّف عند الملصق الأخير، لما فيه من دلالات تُعتبر جديدة بالمقارنة مع ما سبقه، وجريئة ومعيدة الاعتبار لنوع محدّد من السّينما، وذلك للفيلم الذي أُخذت منه لقطةً لتتحوّل إلى الملصق، ولمخرج الفيلم تحديدًا، وللقطة ذاتها. والحديث هنا عن فيلم Le Mépris "احتقار" وعن الفرنسيّ جان لوك غودار الذي كتب الفيلم وأخرجه، وأطلقه عام 1963.

ملصق مهرجان "كان" السّينمائيّ 2014

"كلّه هنا" يقدّم المهرجان للملصق، "الدّرج والبحر والأفق، صعود رجل إلى الحلم، في حرارة ضوء البحر المتوسّط، المتحوّلة إلى ذهب. رؤية تذكّر بما افتتح به فيلم Le Mépris: "السّينما تحل في نظرنا محلّ عالم متوافق مع رغباتنا." يكمل التّقديم: "اختيار رمزي، كون الفيلم هنا عن تصوير فيلم، ويعتبر الكثير Le Mépris واحدًا من أجمل الأفلام التي تم إخراجها بعدسة السينيسكوب (حيث الشّاشة عريضة)، ما دمغ تاريخ السّينما والسينيفيليا… باختيار ملصق مما يرمز له الفيلم، يجدّد المهرجان التزامه الأوّليّ: تكريم المبدعين، الاحتفاء بتاريخ السّينما، واحتضان أساليب جديدة لرؤية العالم، بصورة الصّعود على درجات على شكل ارتقاء نحو أفق غير منته لشاشة عرض."

ملصق مهرجان "كان" السّينمائيّ 2013

أمّا Le Mépris، فيتناول عمليّة صناعة فيلم، مظهرًا بوضوح التّناقض بين المنتِج الأميركيّ الهوليووديّ الذي يريد من الفيلم أن يكون منتَجًا ناجحًا تجاريًا، والكاتب الذي يسعى لأن يكون الفيلم نتاجًا فنّيًا. لذلك لم يكن اختيار هذا الفيلم لملصق هذا العام احتفاءً عامًّا بالسينما، تاريخًا وجماليّات، فحسب، كما في الأعوام السّابقة، بل احتفاء باستقلاليتها وفنّيتها.

ولا يمكن ألا يُعتبر ذلك تكريمًا لغودار، أحد أهم المخرجين على قيد الحياة، برأينا أهمّهم، وأكثرهم تجريبيّة ورياديّة وفنّية والتزامًا، جماليًا وسياسيًا، وهو من بين المؤسسين لـ "الموجة الجديدة" في السّينما الفرنسيّة، في ستينيات القرن الماضي، والتي أثْرت السّينما العالمية إلى يومنا، وأثّرت بها.

ملصق مهرجان كان هو الأكثر ترقّبًا، هو وأفلامه، من بين المهرجانات السّينمائيّة (وإن قيل بأنّ مهرجان برلين هو الأكبر)، ولعلّ ذلك يصحّ أكثر في السّنوات الأخيرة حيث طرأ تغيير واضح على صناعة الملصق الكانيّ.

ملصق مهرجان "كان" السّينمائيّ 2012

منذ دورته الأولى عام 1946، ولأعوام لاحقة، اعتنى المهرجان بملصقه، محاولًا أن يجمع فيه بين مواضيع ثلاثة: السّينما والعالميّة والبحر، فكانت، أكثر، تعريفيّة بالمهرجان الوليد، وكانت جميعها لوحات مرسومة، بعضها بأشكال هندسيّة وبعضها سرياليّة وبعضها رمزيّة وبعضها اسكتشات. بدأت الصّور الفوتوغرافيّة تدخل على الملصقات في دورة عام 1972، لكن وخلال السّنوات اللاحقة ظلّت الرسومات هي الغالبة عليها. في عام 1992 تمّ إدراج أوّل صورة للممثلة مارلين ديترك، ولحقه ملصق 1993، وكانت لقطة من فيلم Notorious لألفرد هيتشكوك، فيه كاري غرانت وإنغريد بيرغمان يقبّلان بعضيهما، لتعود بعدها الرّسومات إلى الملصقات.

باستثناء ذلك، كانت الملصقات إلى حينه عن الأفلام وليس منها، كانت تصوّرًا لمصمّم عمّا يمكن أن يكون عليه ملصق لمهرجان سينمائيّ (لجميع الملصقات مصمّمون لن يفيد ذكرهم هنا)، لكن الملصقات بدأت تستقر على صور من الأفلام وليس عنها عام 2006، وكانت صورة من فيلم In the Mood for Love للمخرج ونغ كار واي. في العام التالي كان المهرجان في دورته السّتين، ومن حينه اتّخذ خطًّا فنيًا وموضوعيًا واحدًا لملصقاته. هنا صارت الملصقات مقترنة بالأفلام، إما لقطات منها أو صور سينمائيّة لممثّلات، أي أنها خارجة من الصّناعة السّينمائيّة ذاتها وليست انعكاسًا فنّيًا عنها.

ملصق مهرجان "كان" السّينمائيّ 2006

ملصق الدّورة السّتّين، عام 2007، كانت بمجموعة من الأسماء السّينمائيّة العالميّة تقفز معًا أمام كاميرا التقطت صورة الملصق: بيدرو ألمودوڤار وجولييت بينوش وجين كامبيون وسليمان سيسي وبينيلوب كروز وجيرار ديبارديو وسامويل إل جاكسون وبروس ويليس وونغ كار واي.

في العام التّالي تم تصميم الملصق من صورة لديڤيد لينش، فوتوغرافيّة وليس لقطة من فيلم، وإن لم تبد غير سينمائيّة، بعدها بدأت الملصقات تميل أكثر للقطات الأفلام. في 2009 كان الملصق لقطة من فيلم l’Avventura لمايكلأنجلو أنطونيوني، فيلم رائع لواحد من أفضل السّينمائيّين. في 201، صورة فوتوغرافيّة حديثة لجولييت بينوش، بالأبيض والأسود، مكرّمًا المهرجان ثانيةً الحضور النّسائيّ في السّينما. في 2011، صورة سبعينيّة لفاي دوناواي. في 2012، دائمًا نساء ودائمًا بالأبيض والأسود ودائمًا استعادة لزمن سابق، كانت صورة لمارلين مونرو. في 2013، صورة لجوان وودوورد وبول نيومان يقبّلان بعضيهما، مأخوذة من تصوير الفيلم السّتيني A New Kind of Love. في 2014، صورة لمارتشيلّو ماستروياني، من فيلم 8½ لفديريكو فلّيني. في السّنة الماضية، كانت إنغريد بيرغمان على الملصق.

ملصق مهرجان "كان" السّينمائيّ 1992

في ملصق هذا العام يكمل المهرجان احتفاءه بسينما السّتينيات والسّبعينيات، وقد صارت كلاسيكيّات حديثة، احتفاءٌ بملصقات لصور من السّينما ذاتها وليس عنها، ليكون كذلك احتفاءً بأسماء بعينها، أفلام ومخرجين وممثلين، واحتفاء، هذه السّنة تحديدًا، بالسينما المستقلّة والفنّية (والعنيدة كما غودار) ما تشبه أفلام المهرجان صاحب شعار السّعفة الذي إن طُبع على ملصق فيلم ما، كمُشارك بالمهرجان أو فائز بإحدى جوائزه، صار للفيلم علامة جودته.

ملصق مهرجان "كان" السّينمائيّ 2009