ديجراديه؛ كيف تبدو غزّة من صالون التّجميل؟!

هنا في قطاع غزّة، حيث ما من صالة سينما واحدة تأخذ المتفرّجين معها خارج القطاع لتلهيهم عن مآسيه، إذ لم يبقَ منها سوى ما يشير إلى أماكن وجودها سابقًا. 'ديجراديه' (Dégradé)، أو قصّة الشّعر المتدرّجة، اسم فيلم فلسطينيّ من إخراج أحمد ومحمّد أبو ناصر، وإنتاج فلسطينيّ فرنسيّ، يُعرض هذه الفترة في بعض المدن الفرنسيّة بعد أن لاقى ترحابًا كبيرًا خلال مشاركته في تظاهرة النّقّاد، حيث تنافس مع مجموعة أفلام عالميّة على جائزة الكاميرا الذّهبيّة في مهرجان 'كان' العام الماضي، وهو أوّل تجربة فيلم روائيّ طويل للمُخْرِجَيْن، أرادا من خلاله اقتحام خصوصيّة المكان المنهك، حيث تتشابه الأيّام ويخنقها حصارها الطّويل.

13 امرأة

تتلاقى ثلاث عشرة امرأة مختلفة الطّباع والآراء والخلفيّات الاجتماعيّة في صالون تجميل، يتحدّثن، يتجاوبن، يتشاجرن، كلٌّ على طريقتها؛ من العروس الّتي تتحضّر ليوم زفافها، إلى المطلّقة الّتي تتحضّر لقضاء ليلة أُنس، وثالثة تتجمّل لتتغلّب على مشاكلها الزّوجيّة، وأخرى تريد أن تكون جميلة قبل الولادة، وثمّة واحدة تعمل في الصّالون وتنشغل طوال الوقت بمشاكلها مع حبيبها، وأخريات مرافقات متفرّجات ومؤثّرات في سير الحكاية.

لا تنوّع ولا جِدّة في الأحاديث المطروحة وأسباب طرحها، فبالنّهاية كلّها تصبّ في الهموم اليوميّة للنّساء المحاصرات، واللّواتي لم يجدن إلّا صالون التّجميل مكانًا للثّرثرة والتّشابه، جئن إليه يطلبن من صاحبته الرّوسيّة المتزوّجة من فلسطينيّ، والّتي اعتادت الحياة في القطاع، وتبدو أكثرهنّ تقبّلًا لكلّ ما يجري فيه وتأقلمًا معه، يطلبن منها لفّ شعرهنّ وتزيين وجوههنّ وأجسادهنّ ليكنّ أجمل، ولكي يحظين بلحظات سعادة أنثويّة أضاعتها الحرب وبدّدها التّعب، وهي بدورها تردّ على كلّ التّأفّف بلغة عربيّة ضعيفة، وبكلّ هدوء وتروٍّ، لتخفّف من حدّة طباع النّسوة واستعجالهنّ.

حصار في الحصار

في صالون التّجميل يظهر حصار آخر أكثر ثقلًا من الحصار الجغرافيّ، هناك حيث الآراء السّياسيّة المتشكّلة بالفطرة، تزيد عليها سيطرة السّائد، لتجرّ وراءها قائمة ممنوعات غير منتهية.

لا هدوء دائم في غزّة، كما لا تغيير واضح في مسار الأحداث العامّة للفيلم، لذلك تبدو الخطط المرسومة للنّهار جزءًا من الفوضى الّتي تسمّى الحياة اليوميّة، وقد تدخّلت فيها النّسوة، إذ لم تستطع أيّ واحدة إنجاز ما تريد. كلّ الأفعال عالقة وغير منتهية، تصل معها الشّخصيّات لفراغ تدور فيه على نفسها، فتفلت من الخطّة الإخراجيّة لتلك اليوميّات الّتي أصبحت بعد نصف ساعة من مدّة الفيلم أشبه بالمتراكمة على أنقاض بعضها، إذا أردتَ تركيبها خارج إطار القليل ممّا لا يقال هنا من مأساة أهل هذا القطاع.

صراع في الملجأ!

حصار، كهرباء، سلاح، ضجر، سجن كبير. كلمات تدخل عنوةً إلى الحيّز المفترض بأنّه أنثويّ لتكون محاولة تكثيف تلوي الحكاية وتشدّها رغمًا عنها، حتّى تصبح الأحاديث كلّها بلا هدف، في اتّفاق ضمنيّ بين الممثّلات والْمُخْرِجَيْن على تمرير الوقت ريثما تأتي لحظة مناسبة يتشابك بها هذا الانفلات. وهذا ما بدا جليًّا في صالون التّجميل الّذي كان مجالّا رحبًا لصراع من نوع آخر، فالغيرة البادية من الأكبر سنًّا تجاه الشّابّة، تبدو كأنّها حسرة على ما فات وضاع من أيّام الصّبا، فيتضمّن هذا التّناحر اللّفظيّ بُعدًا كيديًّا عند كلّ أنثى اتّجاه الأخرى، يبدأ من جمال الوجه وغضاضة الجسد، وينتهي بمن لديها أيّام أكثر في هذه الحياة لتتمتّع بها.

تضطّرّ النّساء للمكوث داخل المكان ساعات طويلة، حيث تحوّل الانتظار في الدّور إلى بقاء اضطّراريّ عقب حدوث شجار مسلّح في الشّارع المقابل للصّالون، بين مجوعة مسلّحة وبعض الشّبّان في إحدى أحياء المدينة، إثر اختطاف أسد من حديقة الحيوان. يلقي هذا الحصار بثقله على الأجواء فتزداد عنفًا بين المحتجزات، ويتحوّل صالون التّجميل من فضاء أنثويّ تملؤه الثّرثرة والمشاكل الشّخصيّة إلى ملجأ مؤقّت؛ لكنّ النّساء يُفْقِدْنَهُ هذه الخاصّيّة مع نشوء شجار وعراك بالأيدي بين اثنتين، تدافع كلٌّ منهما عن حرّيّة لسانها.

حضور الذّكر

في تضاعيف ذلك الجمال المتعب، والّذي تحاول النساء رسمه ليستطعن خلق دَريئَةٍ به، تمنع تشوّه النّفس الّتي أنهكها الحصار، يقتحم البعد الذّكوريّ العالم المغلق لينهي حالة تنافره الشّديدة. يحصل ذلك بدخول أحد الشّباب إلى الصّالون للاختباء فيه، ما يؤدّي إلى اقتحام المكان لإخراجه. إلى جانب ذلك، تغيب منطقيّة حدود المكان في كاميرا المُخْرِجَين ليظهر في بعض اللّقطات نصف رأس امرأة وأقدام أخرى، ويضطّروا لإظهار تفاصيل على حساب تفاصيل أخرى، فتتكوّن صورة متهتّكة وغير مكتملة.

يرتبط عالم النّساء المصغّر هذا مباشرة بأمرين، أوّلهما موضوع الرّجل الّذي لم يتوقّف حضوره على الاشتباكات الدّائرة في الخارج فقط، بل بدا مكثّفًا في أكثر الأماكن أنثويّة من خلال أحاديث صغيرة نسجت حوارات الفيلم، حول هموم النّساء المتوقّفة على جذب الآخر ولفت أنظاره، وأخرى تشير إلى الحيّز الصّغير الّذي تشغله النّساء من اليوميّات الغزّيّة في ذلك الحصار، حتّى في آرائهنّ السّياسيّة والتّصوّرات المستقبليّة، وكلّ ذلك يمرّر بوسيلة تقليديّة، هي الهاتف النّقّال، الّذي ساهم في التّعريف بشخصيّات الفيلم ومشاكلها، فتدخّل ربّما ليُظْهِرَ ما فشل السّيناريو في إظهاره، وكان بديلًا تعويضيًّا للهروب من مآزق دراميّة لا تعرف الشّخصيّة الخروج منها إلّا باستلام الهاتف وحلّ المعضلة.

صورة نمطيّة

كما تبدو مهمّة بعض النّساء لا معنى لها، كالمرأة الحامل الّتي لا تفيد إلّا زيادة توتّر الحاضرين بتعرّضها لألم ما قبل الولادة أثناء اشتداد الاشتباك في الخارج، والمرأة الّتي تنتظر العروس وتبدو مستاءة من كلّ شيء، فينتهي الفيلم ولا نعرف لها ضرورة. وتبدأ الأخريات بالدّوران في فلك الأحاديث الاعتياديّة، والّتي لم تميّز الفيلم الغزّيّة بشيء، إلاّ بثرثرة الهاتف، ودعابات لا يتفاعلن معها، وتكهّنات ونعرات كيديّة، وما إلى هنالك من أسباب تجعل البقاء في المكان مزعجًا أكثر من الاشتباك المسلّح نفسه.

لقد خلق الفيلم بذلك، صورًا نمطيّة عن المرأة العربيّة، كالفتاة العاشقة والمرأة المطلّقة وأمّ الزّوج والعروس، ولم يبحر أكثر في البحث عن خصوصيّة ما قد يحتويه مكان مليء بالتّفاصيل الأنثويّة، كصالون التّجميل.

في حقيقة الأمر، ولضرورة إنتاج صور دراميّة عن تلك التّجارب المهملة، يبدو أنّ فيلم الأخوين أبو ناصر، لم ينهل جيّدًا من صور الواقع الغزّيّة الغنيّ في هذا القطاع المحكوم إسرائيليًّا وحمساويًّا، حين تُرك مخنوقًا ومحرومًا من الخيال، كما الفيلم الّذي لم يستطع أن يغني واقع السّينما الفلسطينيّة.