محمّد خان؛ المجتمع دون تجميل

محمّد خان (1942 - 2016)

كادت أن تنتهي أحلام محمّد خان السّينمائيّة إلى افتتاح محلّ ساندويشات فول وفلافل في لندن، يشاركه فيه المخرج صلاح أبو سيف، وقد اتّفقا على تسميته بـ "أسطة حسن"، إلّا أنّ دعوته إلى القاهرة لإنتاج أحد الأفلام حالت دون افتتاح المحلّ، لتنطلق سيرة سينمائيّة كبيرة، سيرة إنتاج جعلته من أهمّ مخرجي الوطن العربيّ.

القاهرة. لندن. بيروت

كانت لندن مرحلة مهمّة لتفتّح ذهنيّة خان السّينمائيّة، فقد سافر إليها عام 1956 لدراسة الهندسة المعماريّة، وهناك التقى بشابّ سويسريّ يدرس السّينما وأصبحا صديقين، فصمّم خان على ترك دراسة الهندسة، والتحق بمعهد السّينما في لندن، وقد أفادته فترة معيشته هناك، والّتي امتدّت سبع سنوات، في التّعرّف على مختلف التّيّارات السّينمائيّة السّائدة في أوروبا وقتها.

عقب عودته إلى مصر عام 1963، عمل في شركة فيلمنتاج (الشّركة العامّة للإنتاج السّينمائيّ العربيّ، تحت إدارة المخرج صلاح أبو سيف، في قسم "قراءة السّيناريو"، لكنّه لم يستطع الاستمرار أكثر من عام، حيث سافر إلى لبنان ليعمل مساعد مخرج مع العديد من المخرجين اللّبنانيّن، مثل؛ يوسف معلوف، وديع فارس، كوستا، فاروق عجرمة، لكنّ نكسة 1967 جعلته يسافر إلى لندن مجدّدًا.

خان في البدايات

 

عام 1977 عاد إلى مصر وأخرج فيلمًا قصيرًا، ليبدأ بعدها مشواره السّينمائيّ بفيلم "ضربة شمس" عام 1978، وهو أوّل تجاربه الرّوائيّة الطّويلة، والّذي أعجب نور الشّريف لدى قراءة السّيناريو، فقرّر أن ينتجه. 

لم تبعد السّينما محمّد خان عن الكتابة، فحرص على أن تظلّ موهبته متوازية مع عمله، ليشارك في كتابة 12 سيناريو من ضمن 21 فيلمًا أخرجها، كما أنشأ دار نشر وأصدر كتابين؛ الأوّل عن "السّينما المصريّة"، والثّاني عن "السّينما التّشكيليّة"، بالإضافة إلى مقالاته عن السّينما الّتي قدّمها في كتاب "مخرج على الطّريق"، الصّادر عام 2015.

البدايات

"ضربة شمس" (1978) مع نور الشّريف كان البداية، وقد ظهرت فيه قدرات المخرج الشّابّ، إذ اختار أسلوب الأفلام البوليسيّة الجاذبة للجمهور. رغم إخفاق خان في تقديم شخصيّات الفيلم ضمن سياق يحمل دلالات دراميّة، إلّا أنّه نجح في صناعة فيلم ذي تقنيّات جديدة على السّينما المصريّة. في فيلم "الرّغبة" (1979)، يظهر خان أكثر وعيًا ونضجًا من حيث التّعمّق في البناء الدّراميّ، والعناية بتفاصيل الشّخصيّات، والالتزام بالقضايا الاجتماعيّة، مع أنّ خان عدّ هذا الفيلم "تمرينًا سينمائيًّا مفيدًا".

نور الشّريف ونورا في "ضربة شمس" (1978)

في فيلم "طائر على الطّريق" (1981)، يشعر خان أنّه بدأ يتعمّق أكثر في شخصيّاته السّينمائيّة، وهو على عكس النّمط السّائد في السّينما المصريّة، يصرّ أن يمنح الصّورة أفضليّة في الفعل السّينمائيّ؛ فالصّورة عند خان ستختزل الحوارات المطوّلة الّتي لا تكترث كثيرًا إلى الصّورة وماهيّتها.

المسحوقون

في فيلم" موعد على العشاء" (1981)، بطولة سعاد حسني وحسين فهمي وأحمد زكي، يقدّم خان فيلمًا ذا لغة سينمائيّة أكثر تعقيدًا، مسلّطًا الضّوء من خلالها على المساحات الضّيّقة المتاحة لحركة المرأة الجسديّة ولتعابيرها النّفسيّة. كما يصوّر الطّبقة البرجوازيّة المتحكّمة بالمرأة، والّتي تمعن في تطويعها. لقد منح خان شخصيّات فيلمه مساحات للعيش مع ذاتها، وفرصة لمحاورة المشاهد من خلال تفاصيل تصويريّة دقيقة.

مع عادل إمام وفردوس عبد الحميد في "الحرّيف" (1983)، يخوض خان تجربة جديدة في كسر نمطيّة الفيلم السّينمائيّ المصريّ، المعتمد غالبًا على "الحدّوتة". يتعمّق في تفاصيل الشّخصيّات النّفسيّة، ويتناول الاضطّرابات الّتي تحاصر الإنسان. يتوجّه إلى المناطق المهمّشة، إلى الحواري والأزقّة، ليلتقي مع مكوّنات هذا العالم. يظهر جليًّا التزامه بقضايا الطّبقات المسحوقة، ويرصد الإحباطات النّفسيّة والاجتماعيّة.

في "الحرّيف"، تتوغّل كاميرا خان في رصد الهزيمة، الإحباط والذّلّ. المشهد السّينمائيّ متكامل، تفصيليّ ودقيق. لقد سجّل خان في هذا الفيلم نجاحًا فنّيًّا مهمًّا في صياغة عمل سينمائيّ لحياة القاع وشخصيّاتها الّتي تحاول التّمسّك بمقاهي الحارات، وتلك الّتي تضيع في المدينة الكبيرة.

دون تجميل

في فيلم "أحلام هند وكاميليا" (1988)، يواصل خان طرح مقولاته الاجتماعيّة دون ابتذال أو تكرار مملّ؛ فيحكي قصّة خادمتين، تؤدّيان دوراهما نجلاء فتحي وعايدة رياض، ويظهر موقفًا مبدئيًّا متضامنًا مع هذه الطّبقة المسحوقة. يقول خان إنّ فكرة الفيلم وُلِدَتْ من تجربة حقيقيّة، تجربة هند علي خضر من المنوفيّة، الّتي عملت خادمة لدى أهله وتحوّلت إلى شبه مربّية له مدّة عشر سنوات. من هند الحقيقة وكميليا الخيال، يقدّم خان هذه الطّبقة، لاسعًا المدينة الكبيرة لسعًا موجعًا لتحطيمها وتشتيتها الأفراد. يدخل في أعماق تلك الشّخصيّات، يفكّكها ويقدّمها عبر عمل سينمائيّ جادّ، يعكس التزام المخرج تجاه القضايا الاجتماعيّة المغيّبة بوعي فنّيّ وبحرفة وتقنيّة عالية. إنّه يقدّم مجتمع القاهرة الحقيقيّ دون تجميل ودون إخفاء ضعفائه.

في "عودة مواطن" (1986)، بطولة يحيى الفخرانيّ وميرفت أمين، يوجّه خان سهامه السّينمائيّة نحو الطّبقة الوسطى المصريّة، إذ يدين المثقّفين والمتعلّمين لشللهم أمام التّحوّلات الاجتماعيّة الكبيرة بعد سياسة "الانفتاح" الاقتصاديّ السّاداتيّة، والّتي أحدثت شرخًا اجتماعيًّا في مصر، وشرذمة في مبنى العائلة والتّوجّهات الفرديّة.

نجلاء فتحي وعايدة رياض في "أحلام هند وكاميليا" (1988)

هذه القضايا الاجتماعيّة الشّائكة تأتي ضمن تتبّع دراميّ محكم للشّخصيّات والنّفسيات والتّفاصيل، الّتي تمنح العمل السّينمائيّ جدّيّة تظهر بشكل تصاعديّ من فيلم إلى آخر، حيث عدم الاستخفاف بالأدوات والتّقنّيات السّينمائيّة شرطًا للإنتاج، فلغة الكلام والحوار لا تستبدل لغة الكاميرا المركزيّة.

ملاحقة "الرّجل المهمّ"

يعدّ "زوجة رجل مهمّ" (1987) من أهمّ أفلام خان، وقد أدّى بطولته كلّ من ميرڤت أمين وأحمد زكي. تكمن خصوصيّة هذا الفيلم في أنّه يعالج، وبرياديّة وعمق، العلاقة المعقّدة بين الفرد والسّلطة، إذ نجد أنّ غالبيّة الأفلام الّتي تناولت هذه العلاقة توجّهت إلى عرض الإشكاليّات بمباشرة وسطحيّة، متجنّبة إحداث خدوش حقيقيّة وعميقة في شكل هذه العلاقة، وسبب ذلك، على الأغلب، خوف المخرجين وشركات الإنتاج من قبضة النّظام السّياسيّ، إلّا أنّ خان يتحدّى النّظام ورقابته، ويصرّ على ملاحقة الشّخصيّة الفاشيّة مسلّطًا الضّوء على أثر تسلّطها في مختلف المستويات الاجتماعيّة. يصوّر هذا الفيلم دوائر الخوف، ودوائر الهيمنة والإقصاء داخل المجتمع والنّظام السّياسيّ، ويعرض داخل هذه الدّوائر التّناقضات بين الشّخصيّات، ومراكز القوّة وفقدانها الّذي يسبّب الهستيريا لـ "الرّجل المهمّ".

هذا التّميّز والخصوصيّة في تسليط الضّوء على جوانب خاصّة من شخصيّات أزلام النّظام السّياسيّ، أظهرت جانبًا مهمًّا من فكر ورؤيا خان، إلّا أنّه أخفق في فيلم "أيّام السّادات"، إذ عرض سيرة ذاتيّة لشخصيّة سياسيّة إشكاليّة، ضمن إنتاج سينمائيّ ضخم، متوخّيًا الحذر من نبش إشكاليّاتها، وابتعد عن موضعتها في مواجهة صريحة مع شخصيّات أفلامه السّابقة من الأزقّة المهمّشة والأحياء الشّعبيّة، ضحايا سياسات السّادات، لا سيّما الاقتصاديّة.

الصّورة

يوجّه خان نقده للسّائد في السّينما المصريّة، فيقول: "الطّلاق على الطّريقة السّينمائيّة: على الرّغم من كونه أبغض الحلال، إلّا أنّ السّينما المصريّة كانت تجده دائمًا أنسب الحلول ميلودراميًّا، فبينما تتصاعد الموسيقى التّصويريّة أثناء مواجهة الأبطال، الزّوج والزّوجة، كانت المواجهة تصل إلى ذروتها مع قسم الطّلاق: روحي إنت طالقة. وما بالك إذا كانت ’روحي إنت طالقة بالتّلاتة‘ ثمّ تعود الأوتار ترافق الدّموع."

أحمد زكي ونور الشّريف ومحمّد خان

لقد غرّد خان خارج سرب السّينما المصريّة، إذ أراد خلق لغة خاصّة به قادرة على الالتقاء بالجمهور؛ لذا ابتعد عن الحوارات الطّويلة المباشرة نحو قراءة وتحليل لنفسيّات شخصيّات أفلامه. وبدلًا من التّركيز على مضمون الحوار لغةً سينمائيّة، دفع بالصّورة السّينمائيّة إلى المقدّمة، وقد آمن في أنّ تطوّر السّينما المصريّة مشروط بتطوّر الوعي السّينمائيّ حول أهميّة الصّورة.

جمهور مثقّف

في بحثه عن الجمهور المثقّف، أنتج خان أفلامًا تتناول القضايا الاجتماعيّة الحقيقيّة الّتي تشغل البسطاء وتحاكي همومهم، وابتعد عن "الموضات" السّينمائيّة الّتي كانت ستلقى رواجًا وأرباحًا أكثر، فرؤيته تقول إنّ رفع سقف الوعي السّينمائيّ لدى المخرجين والمنتجين سيؤدّي إلى تغيير في ثقافة الاستهلاك السّينمائيّ من الكمّ الخفيف إلى الكيف الثّقيل، وهو مقتنع بأنّ عليه ممارسته حرّيّته الفكريّة بالإنتاج، وأنّ التّحدّي يكمن في استفزاز المشاهد الكسول. من المنطلقات ذاتها، رفض خان تقديم حلولًا جاهزة للمشاهد ترضي رغباته، فقد آمن أنّ على الجمهور التّفكير بالحلّ، رؤية السّلبيات والتّفكير في كيفيّة الخروج منها.

"فتاة المصنع" (2014)

رحل محمّد خان تاركًا بصماته على السّينما المصريّة، رحل كاسرًا محظورات السّينما الأخلاقيّة، كما فعل في فيلم "بنات وسط البلد" (2005)، أو فيلم " فتاة المصنع" (2014)، حيث عاد بأسلوب جديد لنقد القرف الاجتماعيّ وعرض التّشويه الّذي تتعرّض له الشّرائح الاجتماعيّة المستعبدة. رحل مطلقًا الفيلم الـ 25 في مشواره السّينمائيّ، "قبل زحمة الصّيف"، ليثير جدلًا اجتماعًّيا مع القوى الرّجعيّة حول القضايا الجنسانيّة ومكانة المرأة، وليشكّل حالة سينمائيّة نقيضة لأفلام "الهلس"، كما أسماها، والّتي تلعب على الحواسّ دون ملامسة القضايا الشّائكة.