"أمور شخصيّة" وحلول فرديّة

من فيلم أمور شخصيّة (2016)

رامي منصور

'سينما كلّ شيء سينما.' قال محمود درويش في تأبين إميل حبيبي، وبما أنّ 'كلّ شيء سينما،' فلا بدّ من تخصيص مكانة خاصّة ومرموقة لهذا الفنّ، لما له من أهمّيّة في توثيق حياة الشعوب ونقلها إلى الخارج. 

ليست السينما عملًا روائًّيا أو شعريًّا يُكْتَبُ ويُقْرَأُ فرديًّا، على الأغلب، بل هي ممارسة ومشاهدة جماعيّة بكلّ ما تعنيه الكلمة؛ لذا فإنّ سؤال تمويل صناعة السينما يُعَدُّ أساسيًّا، لأنّه سؤال عن هويّة صاحب المصلحة في توثيق حياتنا وكيفيّة تصويرها، بغضّ النظر عن مضمون هذه الحياة.

سؤال التمويل

سؤال التمويل أُثير مؤخّرًا، بعد قرار مهرجان بيروت السينمائيّ رفض عرض فيلم 'أمور شخصيّة' (2016) للفلسطينيّة مها الحاجّ، بسبب حصوله على تمويل إسرائيليّ، ولأنّ المخرجة أصرّت على تعريفه بأنّه 'إنتاج إسرائيليّ' في مهرجان كان الدوليّ، واعتبرت أنّ سؤال التمويل غير مهمّ (موقع 'يديعوت أحرونوت'، 1442016).

قد يكون سؤال التمويل غير مهمّ بالنسبة للمخرجة التي نال فيلمها إشادة كبيرة، لكنّه مهمّ بالنسبة لنا، لأنّنا في حالة صراع مفتوح على هويّتنا وكياننا وروايتنا التاريخيّة، وهو مهمّ أيضًا للناشطين في الحقل الثقافيّ بالوطن العربيّ، الذين يهمّهم عدم الوقوع في جُرم التطبيع.

واجه قرار مقاطعة الفيلم انتقادات من ناشطين وفنّانين في الداخل، وهو انتقاد مبرّر، إذ يستند إلى الادّعاء المعهود بأنّ واقع الفلسطينيّين في أراضي 48 مركّب وشائك، فهم يعيشون تناقضًا دائمًا بين هويّتهم القوميّة ومواطنتهم الإسرائيليّة. هذا التناقض يمكن تفهّمه والتسويغ لقبوله في حال كان 'شرًّا لا بدّ منه،' لكن ليس مُطْلَقًا، إذ إنّ الادّعاء أعلاه كان مقبولًا في الستّينات والسبعينات، عندما كانت الثقافة الفلسطينيّة في أراضي 48 محاصرة، ونجت بمعجزة من النكبة والأسرلة. لكنّ ضرورات وتبريرات ذلك الوقت لا يمكن اجترارها اليوم؛ فما كان يسري على محمود درويش وإميل حبيبي وحنّا أبو حنّا، مثلًا، لا يمكن أن يسري اليوم، لأنّ 'حالة الحصار' الثقافيّ لم تعد قائمة بفضل التقدّم التقنيّ و'العالم الصغير' ومعاهدات السلام، كما أنّ مصادر التمويل أصبحت أكثر وأوسع.

خصوصيّة الآخرين

 ليس من حقّنا مطالبة المؤسّسات الثقافيّة العربيّة 'بتفهّم خصوصيّتنا' و'واقعنا المركّب والمعقّد' في إسرائيل بأيّ ثمن ومن طرف واحد، أي دون أن نحترم بدورنا خصوصيّة دولة مثل لبنان، فيها قانون يجرّم التطبيع، وألّا نقدّر، بالتالي، إصرار الإخوة هناك على الالتزام به، ورؤيتهم أنّ التعامل مع أيّ منتج ثقافيّ بتمويل إسرائيل هو تطبيع، بغضّ النظر عن هويّة صاحب المنتج أو مضامينه، حتّى لو كانت وطنيّة مئة في المئة.

لا يمكننا ادّعاء تفهّم 'خصوصيّتنا' دون أن نتفهّم خصوصيّة الآخرين، ففي هذا عدم لباقة في أدنى حدود التعبير. من حقّ اللبنانيّين، وغيرهم، مقاطعة الفيلم لأنّه إنتاج إسرائيليّ، على الرغم من أنّ الممثّلين فلسطينيّون ومواقفهم الوطنيّة معروفة، ولا أعتقد أنّ القائمين على المهرجانات السينمائيّة العربيّة سيقاطعون المخرجة أو الممثّلين بشكل شخصيّ، بل قد يحتفون بأعمال أخرى لهم طالما لا توقعهم فيما يرونه محظورًا عليهم في الوطن العربيّ.

إنّ الدعوة إلى التمييز بين هويّة المموّل وهويّة صاحب العمل الفنّيّ هي دعوة لإقامة محاكم تفتيش. من لديه الصلاحيّة أو الدقّة أو الشرعيّة لهذا الفرز؟! أليس هذا دخول في مسلك خطير، فيه الخطّ الفاصل بين المحظور والمشروع دقيق جدًّا؟!

علينا التخلّص من عقدة وحجّة 'واقعنا المركّب' و'التشاؤليّة' المستمرّة، بل من واجبنا أن نثني على من يصرّون على التمسّك بتجريم التطبيع في وطننا العربيّ. لنتخلّص من خطاب "العربسرائيليّة." أمّا انعدام صناديق تمويل غير إسرائيليّة، فهذه معضلة أخرى، من أسبابها سهولة البحث عن حلول فرديّة.

بلا قيم

البحث عن حلول فرديّة هو الصفة الأبرز لـ 'البقيّة الباقية في وطنها،' وهذا أمر شديد الخطورة، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ومن المتوقّع من الحركات السياسيّة والمؤسّسات والفاعلين الثقافيّين مواجهة هذا النمط من 'صراع البقاء.' يُسمّى هذا النمط في السياسة 'انتهازيّة سياسيّة،' أمّا في الثقافة، فهو تعبير عن أزمة وعن أنانية.

أزمة الثقافة من أزمة السياسة، لكنّها أخطر، وأنانيّة المثقّف لا تقلّ عن انتهازيّة السياسيّ، لكنّ دور الأوّل التقليديّ من المفترض أن يكون 'نفض الواقع،' أمّا الثاني فهدفه، عادة، 'استقرار الواقع'.

إنّ البحث عن حلول فرديّة في الثقافة، هو إعادة إنتاج للأزمة. من حقّ الفرد أن يبحث عن حلول فرديّة لمشاكله، لكن لا يصحّ ذلك في الحيّز العامّ، لأنّ البحث عن حلول فرديّة ثقافيّة أو سياسيّة هو حلّ مؤقّت وينفي قِيَمِيَّةَ أيّ عمل فنّيّ أو سياسيّ، فيصبح 'الفنّ من أجل الفنّن،' بلا رسالة اجتماعيّة أو سياسيّة، أي يصبح منتوجًا استهلاكيًّا وليس منتجًا ثقافيًّا، كما يرى عبد الرحمن منيف وفيصل درّاج.

حلول جماعيّة

أزمة تمويل السينما الفلسطينيّة في أراضي 48 أزمة حقيقيّة، أحد أسبابها يكمن في الّذين يعانون من هذه الأزمة، تحديدًا المخرجون، الذين يستسهلون البحث عن حلول فرديّة لمشاريعهم، في إسرائيل أو الخارج، قد تصل بهم إلى مهرجانات دوليّة مرموقة، لكنّ ذلك لا يصنع إنتاجًا ثقافيًّا وفنّيًّا مؤسّساتيًّا لشعب، حتّى وإن صنع مخرجًا نجمًا.

أمر آخر؛ من يبرّر في العالم العربيّ شرعيّة عرض أفلام ذات تمويل إسرائيليّ على أنّها من أموال الضرائب التي ندفعها، فهو في الحقيقة يريد توريط الآخرين في وطننا العربي بـ 'إشكاليّات واقعنا المركّب والمعقّد،' وعلينا أن نسأله: هل نعلن عصيانًا مدنيًّا ونتوقّف عن دفع الضرائب؟

تكمن أزمة عملنا السياسيّ والثقافي في أنّ الناس المقهورة تستسهل البحث عن حلول فرديّة وسريعة لمشاكلها، لكن لا يُتَوَقّع من 'أهل السياسة' و'أهل الثقافة' الهروب إلى هذا السلوك المريح بعيدًا عن المسؤوليّات الجماعيّة. قد يكون هذا الأمر مبرّرًا في السابق، لكن هذا التبرير لا يمكن تكراره طول الحياة، لذا على المعنيّين أن يخصّصوا جزءًا من طاقتهم ووقتهم لتأسيس صندوق وطنيّ لدعما السينما، وتجنيد الأموال له من مؤازرين للشعب الفلسطينيّ ولحقوق الجماعات الأصلانيّة، وهم كثر في العالم، بالإضافة إلى تأسيس مؤسّسات إنتاج سينمائيّة ونقابات، ودون ذلك من مبادرات، تجيب على سؤال التمويل الإسرائيليّ، وتوفّر على العربيّ تورّطه فيما نحن متورّطون فيه.

لنبحث عن حلول جماعيّة.