الأمور غير شخصيّة: عن استبعاد فيلم الحاجّ من مهرجان بيروت

من فيلم أمور شخصيّة لمها الحاجّ (2016)

مجد كيّال

قد يكون استبعاد فيلم 'أمور شخصيّة' للمخرجة الفلسطينيّة مها الحاجّ من مهرجان بيروت للأفلام، قرارًا موجعًا على المستوى الشخصيّ، لكنّه صائب وضروريّ وعلى قدرٍ عالٍ من الأهمّيّة. ذلك مع ضرورة الانتباه إلى ما تتضمّنه هذه الخطوة، في بعض جوانبها، من اعتبارات ضيّقة للسياسة اللبنانيّة الداخليّة، وضرورة التمييز الحادّ والفصل بين الرقابة القمعيّة والمرفوضة التي تُمارس على مضامين فيلمي 'ليالي شارع زايندة' لمحسن مخملباف و'كأس العالم' للأخوين ملص من جهة، وبين استبعاد 'أمور شخصيّة' على خلفيّة 'جنسيّة الفيلم' وتمويل الفيلم من قبل جهة حكوميّة إسرائيليّة ('صندوق السينما الإسرائيليّ')، وذلك بصرف النظر عن هويّة الفلسطينيّين القائمين عليه.

'أنا فلسطينيّة، أمّا الفيلم فهو إسرائيلي.'(ynet, 14.4.2016) . بهذه الكلمات، وبصراحة، عبّرت المخرجة مها الحاجّ عن فيلمها الذي لم يُعرض في فلسطين حتّى الآن، وقد ظهر في مهرجان 'كان' باعتباره فيلمًا إسرائيليًّا.

معيار جنسيّة الفيلم معيار موضوعيّ، لا ينظر إلى هويّة الأشخاص المشاركين في الفيلم ولا يتدخّل في مضمونه. ليس معيارًا عنصريًّا يتعاطى مع الفلسطينيّ لمجرّد أنّه فلسطينيّ (والفلسطينيّ يمكنه أن يكون عميلًا، ويمكن لليهوديّ أن يكون معاديًا للصهيونيّة)، كما أنّه ليس تدخّلًا يحكم على جواز العمل أو منعه وفقًا لمضمون رسالته السياسيّة (كما في حالة الفيلمين الآخرين – وهذا مُستهجن ومرفوض). هنا، الأمور ليست شخصيّة...

لا بدّ من الإنصات العربيّ إلى أزمة الفنّانين الفلسطينيّين داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، وإلى شحّ الموارد المادّيّة لإنتاج أعمالهم الفنّيّة. لا بدّ من التفهّم العربيّ العميق لمسألة أنّ تلقّي هذا التمويل، في معظم الأحيان، يكون اضطّرارًا لا بدّ منه، وفي أحيان كثيرة هو قرار خاضع لمنطق المواطنة الإسرائيليّة التي فُرضت علينا – نحن الفلسطينيّين في أراضي 48 - كما فُرض علينا دفع الضرائب للاحتلال، وكما تحكّمت إسرائيل في مناحي حياتنا كافّة، من الطعام والعمل حتّى الفنون والتعليم. وبين تفهّم هذا الظرف واستقبال أفلام 'صندوق السينما الإسرائيليّة' في صالات العرض العربيّة، تفصل هوّة كبيرة وخطيرة.

إنّ فهم ظرف فلسطينيّي أراضي 48 ضرورة عربيّة، وله دور مهمّ في بناء تصوّر واقعيّ لحقيقة إسرائيل اليوم، وذلك بهدف مواجهتها سعيًا لإسقاط نظامها العنصريّ الاستعماريّ، وكذلك دعمًا لمجتمع لا زال يعاني الاستعمار. وتجسيد هذا الفهم يكون بفتح الإمكانيّات أمام فلسطينيّي أراضي 48، ودعم مشاريعهم الفنّيّة عربيًّا، والتعامل معها بنوع من 'الأولويّة' (وهذا متّبع اتّجاه مجموعات عانت الغبن التاريخيّ في أماكن عدّة حول العالم)، هذا كلّه شريطة الامتناع عن التعامل مع الجهات الإسرائيليّة بهدف المساهمة في رفض الاحتلال، والتواصل رغم الاحتلال وليس من خلال أدواته. وعلى هذا كلّه أن يهدف إلى التخلّص من وضعيّة الهيمنة الإسرائيليّة، والخروج من تحت بسطارها، والمساهمة في انفصال فلسطينيّي أراضي 48 عن مؤسّسات الكيان الصهيونيّ والتحرّر من سطوتها، وهذه وظيفة ثقافيّة بامتياز. لكن ليس، بأيّ شكل من الأشكال، بثمن أن يتحوّل التمويل الحكوميّ الإسرائيليّ إلى حالة طبيعيّة مقبولة ومُرحّب بها في بيروت والقاهرة والجزائر، ولا أن يتحوّل فلسطينيّو أراضي 48 إلى وسيط بين الوطن العربيّ وجهات تمويل وإنتاج وإخراج إسرائيليّة – هذا دور مُعيب ورجعيّ.

إنّ تقديم مخرجة فلسطينيّة لفيلمها الإسرائيليّ إلى مهرجانٍ في دولة عربيّة، هو النقيض التامّ لمفهوم التواصل. ليس التواصل استهلاكًا تلقائيًّا للإنتاجات، التواصل يعني المعرفة والشراكة المتبادلتين، ومراعاة الظرف السياسيّ للمكان، وإخضاع خطواتنا المهنيّة إلى بوصلة عربيّة تحرّرية، إنسانيّة ووطنيّة، سياسيّة وثقافيّة.

ومن جهة أخرى، فإنّ قبول إدارة 'مهرجان بيروت' عرض فيلم بتمويل حكوميّ إسرائيليّ هو ضيق نظر مرعب يعزل السينما والثقافة عن دورها في الفعلين السياسيّ والاجتماعيّ، ويحوّلها مهنةً حبيسة نفسها، ويحوّل الثقافة من هدفها التحرّريّ إلى هوسها الإنتاجيّ الذي لا يُبصر أبعد من أرنبة أنفه.

كان حريًّا بنا، منتجين ومشاهدين، أن نكون الطلائعيّين في منع تطبيع إسرائيل، وألّا نترك هذه الرسالة التحرّريّة والديمقراطيّة والنضاليّة لرحمة سلطات المحاصصة الطائفيّة، ورغم ذلك، فالأهمّ في هذا كلّه أن يستمرّ منع الأفلام الإسرائيليّة في الوطن العربيّ، على أمل منعها في العالم كلّه!