شخصنة الأمور: عن فيلم "أمور شخصيّة"

من فيلم "أمور شخصيّة" لمها الحاجّ (2016)

عامر حليحل، أحد ممثّلي 'أمور شخصيّة'

عندما خرجنا من العرض الثاني لفيلم 'أمور شخصيّة' في مهرجان 'كان' الفرنسيّ، توجّه إلينا مدير مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ، يوسف شريف رزق الله، وأبدى إعجابه بالفيلم، فنّيًّا وسياسيًّا، وأثنى مطوّلًا على الطاقم، وتحدّث عن أنّ كلّ ما في الفيلم يحكي قصّة فلسطينيّة، ثمّ أَسِفَ لأنّه لن يستطيع عرض الفيلم في مهرجانه 'لسبب تعرفونه جيّدًا،' كما قال، وكان يقصد فخّ التطبيع مع إسرائيل. فالفيلم مموّل من 'صندوق السينما الإسرائيليّ.' حينها، قال له كلّ من كان حاضرًا من طاقم الفيلم إنّنا نتفهّم ونفهم. وقلنا أيضًا إنّنا كنّا نودّ أن يكون الفيلم بأموال غير إسرائيليّة، لكن كلّ الصناديق العربيّة لم تنظر في طلب الفيلم لأنّ القائمين عليه من فلسطينيّي الداخل.

أكتب هذا لكي أقول إنّنا نتفهّم منع عرض الفيلم في مهرجان الأفلام ببيروت، لبنان، فلا أحد منّا يريد أن يزجّ بالعالم العربيّ في خانة التطبيع مع إسرائيل، ولا أحد منّا يحبّ أن تكون كلمة 'إسرائيل' طبيعيّة في محافلنا العربيّة ومناسباتنا.

النقطة التي يجب توضيحها هي أنّ إدارة الفيلم ومخرجته مها الحاجّ لم تقدّما طلب مشاركة في مهرجان بيروت، بل أنّ مهرجان بيروت هو من تواصل مع موزِّع الفيلم الفرنسيّ لشراء حقوق العرض، وأنّ هويّة الفيلم كما ظهرت في إعلانات المهرجان كانت وفقًا للاتّفاقيّة التي وُقِّعَتْ بين الموزّع الفرنسيّ وإدارة المهرجان، ولم تكن المخرجة أو طاقم الفيلم شركاء في ذلك.

لن أدافع عن حقّنا في استرجاع أموال الضريبة التي ندفعها لجهاز الدولة الإسرائيليّ كمواطنين، فهو في رأيي حقّ ما دام غير مشروط بمضامينه، كما هو حقّ عندما نسترجعه في مدارسنا التي ما زالت تُدار بأيدي الشاباك (جهاز المخابرات الإسرائيليّ)، وفي عياداتنا، ومراكزنا الشبابيّة، ودور المُسنّين، والصرف الصحّيّ، وتعبيد الشوارع، ومخصّصات التأمين الوطنيّ، والمنح والقروض للمصالح التجاريّة، والتعليم العالي، وغيرها الكثير من الأمور التي نستخدم بها كأقليّة فلسطينيّة الأموال الإسرائيليّة الرسميّة، كي نتدبّر أمورنا اليوميّة والمعيشيّة داخل نطاق الخط الأخضر. هذا لا يغيّر شيئًا من معركتنا مع إسرائيل كدولة محتلّة ودولة أبَرتهايد، ولا يغيّر شيئًا من رأينا بإسرائيل ونظرتنا لها، وقد أثبتنا هذا منذ عشرات السنين في عروضنا ومعارضنا وكتبنا التي مُوِّلَتْ بأموال دافعي الضرائب، وأنتجت مادّة ثقافيّة فلسطينيّة بحتة، ساهمت في رفع منسوب وعي الشارع الفلسطينيّ في الداخل لهويّته وتاريخه ورابطه مع أرضه وبلده. ولعلّ الهجوم الأخير على مسرح الميدان في حيفا أكبر إثبات بأنّ مستحقّاتنا من الدولة كمواطنين لا تعني أنّنا ننتمي إليها وجدانيًّا، ولا نرفع رايتها وروايتها أبدًا.

طاقم فيلم 'أمور شخصيّة' في مهرجان "كان" | © Thomas Leibreich / FDC

سيقول البعض: نحن نتعامل مع إسرائيل فقط في الأمور الضروريّة كالصحّة والتعليم وما إلى ذلك، لكنّنا لا نريد أن نتعامل معها في الفنّ والثقافة، لأنّ الفنّ والثقافة ليسا من أولويّاتنا الحارقة كما يدّعي بعض المثقّفين.

لا، الفنّ والثقافة بأهمّيّة التعليم، وأنا أريد لابنتي أن تشاهد المسرح والسينما وأن تتثقّف عن طريق أدب جيّد ومسرح جيّد وموسيقى جيّدة؛ أنا لا أريدها متعلّمة مع شهادة جامعيّة ولكن فارغة ثقافيًّا وغير واعية لدورها كإنسان اتّجاه مجتمعها ومحيطها.

ثمّ لماذا لا يثير إنجاز فرد طبيب أو عالم فلسطينيّ الأصل في مؤسّسات إسرائيليّة أي ضجّة؟ ولماذا يمرّ مرّ الكرام نجاح وفوز رجل أعمال بصفقات إسرائيليّة، بينما يُعتبر فيلم نجح بنفس الطريقة فيلمًا خارجًا عن الصفّ الوطنيّ؟ هل لأنّ الفنّانين ضعفاء لا سلطة لهم؟ أم لأنّهم لقمة سائغة يعتقد حتّى المثقّفون أنّهم من كماليّات حياتنا، ولن يضرّ أحدًا لو أنّهم اختفوا واختفى إرثهم وعملهم؟

اقرأ/ ي أيضًا: الأمور غير شخصيّة - عن استبعاد فيلم الحاجّ من مهرجان بيروت.

اقرأ/ ي أيضًا: أمور شخصيّة وحلول فرديّة.

نحن ننجز ثقافة وفنًّا من أجل شعبنا، ونستعمل كلّ الطرق المؤدّية إلى ذلك، وكمّ الأعمال الثقافيّة المستقلّة التي سبق وقمنا بها لا يمكن لأحد إنكاره، ودورنا في بناء حركة فنّيّة ثقافيّة فلسطينيّة حرّة لا يمكن لأحد أن يسلبنا إيّاه! لكن هناك ضرورات في حياتنا، هناك ما لا يمكننا الإفلات من قبضته: كيف سنعرض بمدارس تحكمها إسرائيل من دون التعامل معها؟ كيف سنعرض منتوجاتنا الثقافيّة في قاعات مستقلّة عن إسرائيل ولا أعرف عن وجود مثل هذه القاعات سوى قاعة واحدة في حيفا؟ سيقول البعض: اِخلقوا البديل، وسأقول: شمِّروا عن أذرعكم واتركوا لوحة المفاتيح واخلقوا أنتم البديل معنا... نحن جاهزون منذ زمن بعيد. من يتساءل عن صندوق لدعم الثقافة الفلسطينيّة فليبدأ ببنائه هو بنفسه ونحن سنلحق به. أكاد أجزم أنّ معظم من تطاولوا على طاقم الفيلم، سيخترعون ألف حجّة وعذر كي لا يضعوا فلسًا واحدًا لو طُلب منهم دعم صندوق للسينما الفلسطينيّة.

هناك حلّ لفيلم 'أمور شخصيّة' لمن أراد للفيلم أن يكون فلسطينيًّا بحتًا: افتحوا جيوبكم وجمّعوا المال الذي دفعته إسرائيل في الفيلم لنرجعه لها، ونسحب اسمها عنه. هذا حلّ واقعيّ ويمكن أن يحدث لو أردتم. هكذا تثبتون 'بطولاتكم' اتّجاه ثقافتكم! هذا ما كان عليكم فعله عندما تورّطت سهى عرّاف في أزمتها الأخيرة عندما طولبت بإرجاع أموال الإنتاج الإسرائيليّة، لا أن تقفوا وتشتموا وتخوّنوا.

مرّة أخرى، لا مشكلة لديّ في عدم عرض الفيلم تحت اسم إسرائيل في بيروت، على العكس تمامًا؛ لكن أن يقوم بعض الكتبة بتخويننا وإصدار الأحكام بحقّنا فهو أمر مرفوض لن نسمح به. لن ندافع عن أنفسنا، وعليهم هم أن يدافعوا عن أنفسهم عندما نسألهم: ما هو دوركم اتّجاه فلسطين وشعبها؟ هل يتلخّص في مهاجمة أبناء أقلّيّة فلسطينيّة كاملة، تلاحقهم إسرائيل من جهة وتضيّق عليهم، فيما يقوم عالم عربيّ بغالبيّته الكبيرة بتهميشهم والتشكيك فيهم طيلة الوقت؟ أما آن لكم أن تتوقّفوا عن كسب انتصارات متخيّلة في صفحات التواصل الاجتماعيّ، والبحث عن حلول واقعيّة مجدية تنقلنا لمرحلة أفضل؟ كنّا نتوقّع أن تكونوا المدافع عنّا أمام السلطات وأصحاب النفوذ، وإذ بكم تقفون مع مَن يحقّق بتخويننا مصالحَ ضيّقة تفيده في إدارة معاركه الخاصّة. نحن نستغرب فعلًا صمتهم أمام منع فيلمين آخرين، إيرانيّ وسوريّ، في المهرجان ذاته، ألا تهمّهم مسألة كهذه ولا تثير تحفّظاتهم؟ وكيف يمتهن كلّ 'عشّاق فلسطين' على شاكلتهم شتم الفلسطينيّين والتحريض عليهم في كلّ مناسبة؟

تُنشر هذه المقالة بالتّزامن مع موقع رصيف 22.