ردًّا على عامر حليحل: ترتيب النقاش حول فيلم "أمور شخصيّة"

من فيلم "أمور شخصيّة" لمها الحاجّ (2016)

مجد كيّال

لنبتعد كلّيًّا عن كلّ ما هو شخصيّ في مقال الصديق عامر حليحل (شخصنة الأمور: عن فيلم أمور شخصيّة)، هذا ليس موضوعنا. ولنتحدّث بموضوعيّة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة خالصة عن قضيّة فيلم 'أمور شخصيّة'. والأهمّ، لنُخضع كلّ الادّعاءات المطروحة إلى حدّ معقول من الفحص المنطقيّ. ولعلّ أهم ما في الأمر أن نشخّص موضوع هذا النقاش، وننطلق من النقاط التي نتّفق عليها.

موضوع النقاش هو عرض الفيلم المموّل إسرائيليًّا في بيروت. كلّ المقالات التي نُشرت تأييدًا لاستبعاد الفيلم ذكرت حرفيًّا وبوضوح أنّ موضوعها هو عرض فيلم تعرّفه مخرجته 'إسرائيليًّا' ومموّل من إسرائيل في بيروت. لم تدخل أيّ مادّة منشورة لا في قاعات العرض في حيفا، ولا في تفضيل الصحّة على الثقافة كما جاء في مقال حليحل. العكس هو الصحيح؛ الجميع، بلهجات متفاوتة، أكّد على خصوصيّة فلسطينيّي أراضي 48 بما يتعلّق بالتمويل. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، وأسوأ ما يمكن أن يحصل لنقاش هو أن يفقد موضوعه ومفاده، لذلك فلنرجع للتأكيد على الموضوع المطروح، وعليه نتناقش: منع الفيلم في لبنان.

الارتكاز إلى منطلقات مشتركة

لنبدأ نقاشنا ممّا نتّفق عليه: الممثّل عامر حليحل، وهو صاحب دور رئيسيّ في الفيلم، يتفهّم و'ليس لديه مشكلة' مع خطوة المنع اللبنانيّة، إنّما 'على العكس تمامًا.' وقد أعادت الصفحة الرسميّة للفيلم نشر هذا المقال بمقولته هذه، كما فعل عدد من الأشخاص المركزيّين في طاقم الفيلم. واهتمام الطاقم بالإشارة إلى أنّ المخرجة لم تطلب عرض فيلمها ضمن المهرجان يدلّ على فهم الوضعيّة والالتزام بها نوعًا ما. وهذا على الرغم من أنّ مخرجة الفيلم اختارت، في مقابلة نُشِرَتِ اليوم (13.10.2016) في موقع قدّيتا، أن تتجاهل كلّيًّا هذا النقاش الواسع والمهمّ. هذا الأسلوب (أي التجاهل) ناجح بالفعل كأسلوب مناكفة نزقة، لكنّه (ومن دون أن ندخل بالشخصيّ) غير بنّاء وغير جدّيّ.  

 لنعود إلى موقف عامر حليحل الذي يوافق على منع الفيلم في بيروت. ولنجعل هذه نقطة ارتكاز نتّفق عليها، على أمل ألّا نعود إليه مجدّدًا: أنّنا نفهم ونتّفق على أنّ المشاريع الفنّيّة التي تموّلها إسرائيل يجب ألّا تُعرض في الوطن العربيّ. هذه نقطة انطلاق.

أمّا الفلسطينيّ الذي لا يتّفق على هذا، ويريد عرض الفيلم إسرائيليًّا في بيروت، فيبدو أنّه لا يستطيع أن يتفهّم لماذا يُرفض اسم 'إسرائيل' في مدينة امّحت عن بكرة أبيها وهي تقاتل إسرائيل. ولا يستطيع حسّه الفنّيّ أن يصغي إلى صوت عشرات الآلاف ممّن فقدوا أحبّتهم في قتال الصهيونيّة، وليس هنا متّسع لنقاش هؤلاء.

في طبيعة المساواة بين المسرح والمستشفى

بناءً على الموقف الذي تقدّم، وانطلاقًا منه، يمكننا أن نستمرّ في نقاش قضيّة التمويل الإسرائيليّ للثقافة الفلسطينيّة داخل أراضي 1948، كنقاش داخليّ حدوده فلسطين. ولنبدأ النقاش من جملة كتبها عامر حليحل في مقاله. يجدر، في رأيي، التوقّف عندها:

'لن أدافع عن حقّنا في استرجاع أموال الضريبة التي ندفعها لجهاز الدولة الإسرائيليّ كمواطنين، فهو برأيي حقّ ما دام غير مشروط بمضامينه، كما هو حقّ عندما نسترجعه في مدارسنا التي ما زالت تُدار بأيدي الشاباك...'

تحتوي هذه الجملة على تناقضٍ مطلق، وهي تستحقّ أن نحدّق بها مطوّلًا؛ 'حقّ غير مشروط بمضامينه' كما هو 'في مدارسنا التي يُديرها الشاباك.' لكن من باب أنّنا لا نسعى هنا إلى كسب نقاش، إنّما لبنائه، سنتجاهل هذا الربط، وسنعترف، من أجل أن نتأسّس على تشخيص صحيح للواقع، أنّ التدخّل الإسرائيليّ في الثقافة لا يزال أقلّ عنفًا ممّا هو عليه في سلك التعليم. لكنّ الجملة تحمل تناقضًا آخر على ضوء مساواة الكاتب (في فقرة أخرى) بين التعليم المدرسيّ والإنتاج الثقافيّ: فإذا كانت أهميّة التعليم المدرسيّ تمامًا كأهمّيّة السينما كما يقول، لماذا لا نقبل السينما مشروطة المضامين كما نقبل التعليم مشروط المضامين؟ وهل نقبل تدخّل 'الشاباك' في المسرح كما نقبل تدخّله في المدارس؟

اقرأ/ ي أيضًا: الأمور غير شخصيّة - عن استبعاد فيلم الحاجّ من مهرجان بيروت.

اقرأي/ ي أيضًا: أمور شخصيّة وحلول فرديّة.

لا طبعًا. ربّما يستطيع هذا السؤال البسيط أن يُقنع الكاتب بأنّ المساواة بين التعليم المدرسيّ، وجهاز الصحّة، وتعبيد الشوارع، والثقافة، من حيث الأهمّيّة، هي معادلة لا يمكنها أن تكون أكثر من شعار نلعب به إلى ما لا نهاية. فيُمكن أن نقول، مثلًا، إنّ الصحّة أهمّ من الثقافة، لأنّ حياة الإنسان أهمّ من كلّ شيء. يمكن أن أقول إنّ الثقافة أهمّ من التعليم المدرسيّ، لأنّ ما يمكن أن يتعلّمه الطفل من رواية واحدة يقرؤها، يصقل عقله أكثر من عشرين حصّة في السجون المسمّاة مدارس. ويمكن كذلك أن ندّعي أنّ المواصلات في قرية فلسطينيّة صغيرة، التي تسمح للنساء بأن يخرجن إلى سوق العمل فتوفّر لهنّ استقلالًا مادّيًّا، أهمّ لهذا المجتمع من عشرة مسارح لا تستطيع النساء أن تغنّي فيها. ويمكن أن أقول إنّ المساواة بين هذه المجالات تامّة، وأنّنا يجب أن نقبل تمويل السينما حتّى لو تدخّل 'الشاباك' بها. هذا نقاش عبثيّ، فكلّ شيء في حياة الناس مهمّ. هذه قيمة عليا. وأهمّيّة هذه المجالات تختلف بمضمونها وبطريقتها وبالوظيفة التي تؤدّيها. وبالتالي، تختلف بالتعامل معها وبالتنازلات التي تُقَدَّمُ في إطارها، وفي إمكانيّة المناورة بها. لذلك، دعونا نتجاوز هذا الموضوع.

ثمّ لا داعي للتهويل، فلا أحد يقول، لا أحد إطلاقًا، إنّ اختفاء الفنّانين الفلسطينيّين من العالم لن يضرّ أحدًا. صلّوا على النبيّ. من تصدّروا هذا الموقف المناهض للتطبيع هذه المرّة بالذات هم إمّا محرّرو مواقع إخباريّة أو أصحاب دور نشر من الأهمّ في الوطن العربيّ، ولجنة مناهضة التطبيع في لبنان مؤلّفة بأغلبيّتها (وهذا ليس مدحًا) من فنّانين وأدباء وأكاديميّين. وأعتقد أنّ من لا يمتهنون الثقافة ويرفعون موقف المقاطعة لهم الحقّ المتساوي مثل الجميع في قول 'ما هي الثقافة' بالنسبة لهم. وهؤلاء، جميعهم، قد يختلفون في جوهريّة السياسيّ بالثقافة، وأخشى أنّنا لا نستطيع أن نتّهمهم بأنّهم لا يأبهون لاندثار الفنّانين. هذا تهويل وتفزيع، ويشي باحتكار لمفهوم الثقافة، ومحاكمة من نوع 'من هو مثقّف أكثر ممّن.' وهذا، مرّة أخرى، لا يبني شيئًا.

عن فكرة التمويل غير المشروط

ندخل هنا في سؤال آخر يتعلّق بالـ 'تمويل غير المشروط': هل يقصد الكاتب أنّ التمويل الثقافيّ في إسرائيل غير مشروط فعلًا؟ نضع جانبًا أنّ مها الحاجّ فُرِضَ عليها نعت فيلمها بالإسرائيليّ (وهذا شرط، فلا أعتقد أنّها ترغب بذلك)، ونضع جانبًا حقيقة أنّه ليس هناك، في الكون كلّه، تمويل غير مشروط من حيث المضمون والرسائل. ولنتركّز في جوهر الموضوع: في القانون يُستخدم مصطلح 'Chilling Effect'، ومعناه وجود عوامل (قانونيّة غالبًا) تمنع الناس من ممارسة حقوقهم خوفًا من العقوبات. بكلمات أخرى، يلائم الإنسان مضامينه تبعًا لتوقّعاته من النظام. لا يتدخّل 'الصندوق الإسرائيليّ' بالمضمون لأنّه، وببساطة، يتّخذ قرار التمويل بناءً على سيناريو مقترح، وبالتالي يستطيع أن يرفضه منذ البداية. هذا يقودنا، كمجتمع، إلى وضعٍ أسوأ من التدخّل المباشر بالمضامين، وهو التدخّل العميق بالتوجّهات الثقافيّة للمجتمع ككلّ، التمويل الذي يوجّه الثقافة من أجله. وللتذكير فقط، لقد كادت مسرحيّة عن أسير فلسطينيّ أن تتسبّب بإغلاق أكبر مسرح فلسطينيّ في أراضي 48. لم يُغلق المسرح، لكن إن لم يكن ذلك تهديدًا لنا في حال تطرّقنا لقضيّة الأسرى، مثلًا، فما هو التدخّل؟!

هنا، أسمح لنفسي أن أبتعد عن النقاش الموضوعيّ للحظة، وأن أسدي نصيحة رفاقيّة، أو لعلّه طلب. حتّى إذا أخذنا التمويل، لا تدافعوا عنه أبدًا بقولكم إنّه غير مشروط. أوّلًا لأنّ هذا غير صحيح، وثانيًا لأنّ العالم يقرأ ويُترجم، ولا أظنّ أيًّا منّا يريد أن يدافع عن حرّيّات إسرائيل ودعمها غير المشروط للثقافة!

عالمان مختلفان

على أيّ حال، فإنّ قضيّة التمويل لا يمكن نقاشها كوحدة واحدة، فهي تنقسم إلى عالمين مختلفين، لا أساس للخلط بينهما إلّا بدافع تشتيت النقاش. عالم يقول إنّ حصولنا، كدافعي ضرائب، على التمويل الحكوميّ للثقافة هو حقّ لنا ويجب ألّا نتنازل عنه. عالم آخر يقول إنّ حصولنا على التمويل الإسرائيليّ للثقافة اضطّرار وضرر لا بدّ منه بسبب تعذّر البدائل. لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال حمل هذين الادّعاءين في كفّةٍ واحدة.

هذا تباين مركزيّ. كلّ واحد من هذين الموقفين عالم سياسيّ مختلف، منطق مختلف لرؤية المستقبل، وبالتالي تترتّب على كلّ واحد منهما مطالب سياسيّة مختلفة. إذا أردنا أن نتمسّك بـ 'حقّ' التمويل الإسرائيليّ على كلّ الأحوال، فنحن نتحدّث بمنطق الاندماج في المواطنة، ومطلبنا أن توفّر لنا 'الدولة' كلّ ما نحتاجه وألّا نضطّرّ للبحث أصلًا عن بديل. أمّا إذا تحدّثنا بمنطق الاضطّرار، فإنّنا نحكي من منطق الخضوع القسريّ للمواطنة الإسرائيليّة، وبالتالي نؤكّد على حاجتنا للتحرّر منها. (لا أحد في الحياة يحبّ أن يكون مضطّرًّا لشيء). ويكون مطلبنا عندها أن تتوفّر بدائل غير إسرائيليّة، بل ربّما أكثر من ذلك؛ أن نتحوّل شعبًا قادرًا على تلبية حاجاته بقدراته الذاتيّة.

من يعيش في العالم الأوّل، ويعتقد أنّ مجتمعنا يمكنه أن يندمج بالدولة الإسرائيليّة، لا يلتفت مترًا واحدًا للوراء ليحدّق بجوهريّة عنف هذه الدولة وعنصريّتها، ولا يبصر مترًا ليرى أيّ جريمة قادمة بحقّنا. ومن لا يعرف أهمّيّة التمسّك بفلسطين واحدة، لا يمكنه أن يعرف لا معنى دمشق ولا بغداد ولا بيروت، ومكانه تل أبيب وليس الجزائر. ونزعته للانصهار بالدولة، وإسقاطات هذه النزعة السياسيّة، أخطر على مستقبل ثقافتنا بكثير من منع مئة فيلم.

أمّا من يتّفق على ضرورة التحرّر من قبضة التمويل والمؤسّسات الإسرائيليّة، وعلى أنّ إنتاجنا ينتمي إلى الفلسطينيّين وإلى الوطن العربيّ وإلى العالم، وعلى أنّنا لا نحبّ أن نكون مضطّرين لشيء، فإنّنا نتناقش معًا داخل سؤال: 'ما العمل؟' – وفي نقطة الصفر التي ننطلق منها، هذه، يختلف الناس، ويفكّرون ويبدعون ويجرّبون ويتحايلون، ينجحون أحيانًا، ويفشلون أحيانًا. وتكون السقطات فيها مثل أيّ حالة في العالم.

ثمّة من يبادر، وثمّة من يتقاعس، وثمّة من يعطي المال، وثمّة من يبخل، وثمّة من ينتهز الفرصة للربح، وثمّة كلّ شيء. هذا هو المنطق الذي يمكن أن نتقدّم من خلاله. وعلى هذه الأسس الفكريّة المشتركة، فقط، يمكن أن يجري حوار حقيقيّ حول التحرّر من قبضة إسرائيل الماليّة على الثقافة.