بابلو إسكوبار: القصّة الكولومبيّة والإخراج الأمريكيّ

بابلو إسكوبار | لقطة من مسلسلة Narcos الأمريكيّ

خليل غرّة

من روبن هود 'ميديلين'، إلى مهرّب مخدّارت، فأغنى رجال العالم، وصولًا إلى الاختلال العقليّ. هكذا وصفه الشعب الكولومبيّ وأجهزته الإعلاميّة خلال فترات حياته المختلفة. حارب من أجل الطبقة العاملة، ومن ثمّ انطلق في عالم طهو الكوكايين وتهريبه حتّى ملأ الشوارع بالدماء.

من الحيّ الفقير في ميدلين

'ناركو ترافيكانتي'، أي مهرّب المخدّرات باللغة الإسبانيّة المستعملة في دول جنوب أميركا، وهي تطلق على عمليّات التهريب التي كانت تمرّ من دول أميركا اللاتينيّة إلى الولايات المتحدة. امتهنها الكولومبيّ بابلو إيميلو إيسكوبار غافيريا (1949-1993) في مقتبل شبابه، وتقدّم في مجال التهريب حتّى سيطر على مجمل سوق تجارة الكوكايّين في العالم. كان حلم بابلو أن يخرج هو وعائلته من الحيّ الفقير في مدينة ميديلين الكولومبيّة، وكان يعتقد أنّ الأثرياء في مسقط رأسه، فقراء! بدأ هو وابن عمّه جونزالو غافيريا كمهرّبين للسجائر، لينطلقا بعدها بفترة وجيزة إلى عالم شراء الكوكايّين الخام من بوليفيا والبيرو، وطبخه ليتحوّل إلى بلّورات كوكايين كريستاليّة، ومن ثمّ تصديره. انضمّ قسم من العائلة، لاحقًا، للعمل معهما.

'الذهب الأبيض'، هكذا وصف بابلو الكوكاكيين. لم يكن ربحه أو نجاحه في تجارته، فقط، ما دفع كتّاب السيناريوهات والمخرجين والقنوات الإخباريّة وغيرهم إلى إنتاج أفلام دراميّة ووثائقيّة حوله، بالإضافة إلى إنتاج مسلسلات، بل تمركز الدافع في ما دار حول هذه الشخصيّة من قصص وأخبار، والثمن الدمويّ الذي دفعه الكولومبيّون على طريق ثرائه؛ أين ذهبت مئات المليارات وعلى ماذا صُرفت؟ وكيف نُقلت من قارّة إلى أخرى؟  بالإضافة إلى التضادّ بين قوّتين، الحكومة والمهرّبين الذين أُطْلِقَ عليهم لاحقًا اسم 'المعارضون للتسليم'، وفقًا لمعاهدة تسليم المجرمين بين كولومبيا وأميركا، وكذلك الفساد في صفوف الجيش الذي صنعه فقر الشعب الكولومبيّ وأموال بابلو التي أغرقت البنادق الوطنيّة، وفوق ذلك أعمال العنف والإجرام بحقّ المواطنين، والقضاة، والإعلاميّين وعائلاتهم وممتلكاتهم، والمكاتب الحكوميّة، ودور النشر، والمراكز العامّة التي نُسِفَتْ بأطنان المتفجّرات، الديناميت، 'سلاح الفقراء'، كما سمّاه بابلو.

 

مسلسلان

سأحاول في هذه المادّة المقارنة بين مسلسل 'Narcos' الأمريكيّ، للمخرج خوسيه باديلا، من إنتاج شركةNetflix  عام 2014، ومسلسل 'Pablo Escopar: El Patron Del Mal' للمخرجين كاميليو كانو وجوانا أورياب، من إنتاج Caracol TV عام 2012.

يقدّم المسلسل الأمريكيّ رواية هشّة عن حقيقة بابلو شخصيّته، فالمسلسل محشوّ بالإثارة والدراما، لكنّه يفتقد إلى خصال القصّة الحقيقيّة، بل يسعى إلى خلق بطولة أمريكيّة كما غالبيّة إنتاجات Netflix. بينما المسلسل الكولومبيّ يقدّم لنا مشهدًا قريبًا جدًّا من وقائع التاريخ. نتأكّد من ذلك عند مقارنة المسلسلين بمسلسلات وبرامج وثائقيّة وأفلام أخرى، مثل 'Los Tempos’ de Papblo Escobar' (2012)، و'Escobar : Lost Paradise ' (2014).

بطولة أمريكيّة

يتكوّن مسلسل 'Narcos' الأمريكيّ من جزأين، يحتوي كلّ منهما على عشر حلقات، وقد أعلنت الشركة المنتجة له عن بدء تصوير جزئه الثالث.

تنطلق أحداث المسلسل من خلال الراوي الأمريكيّ (الممثّل بويد هولبورك)، والذي يؤدّي دور ضابط في وحدة مكافحة المخدّرات الأمريكيّة في ميامي، الذي يشقّ طريقه بحثًا عن مصدر تلويث المدينة بالسموم، إذ إنّها وغيرها من المدن قد غرقت بالسموم بعد أن اكتشف بابلو طرق تهريب الكوكايّين إلى أميركا. يتوصّل الضابط إلى العنوان في كولومبيا، وينطلق هو وفريق تحقيق إلى هناك لمساعدة الشرطة الكولومبيّة في الإمساك ببابلو.

بابلو معتقلًا

 نحن إذن، أمام مسلسل يتناول قصّة مواطن كولومبيّ تُسرد أمريكيًّا، من قلب مكتب مكافحة المخدرات، أي أنّ استعراض البطولة الأمريكيّة هو العنوان من اللحظة الأولى، لا سيّما أنّه يُنتج ضمن ما يُسمّى بثورة 'التلفاز السينمائيّ' الذي تسوّقه Netflix، وهو بذلك يختلف عن المسلسل الكولومبيّ الذي عُرِضَ على مدار سنوات (تيلينوفيلّا)، من حيث طول الحلقات وبنيتها الدراميّة والسينمائيّة.

تفاصيل دقيقة

يتكوّن المسلسل الكولومبيّ 'Pablo Escopar: El Patron Del Mal' من 74 حلقة توثّق حياة بابلو منذ ولادته حتّى اغتياله. وهو من إنتاج قناة 'كراكول' الكولومبيّة المحلّيّة. اعتمد المسلسل على روايات شفويّة لشخوص عايشوا بابلو، بالإضافة إلى رواية 'لا برابولا دي بابلو' للكاتب ألونسو سالزار، وهي عبارة عن عمل توثيقيّ وأرشيفيّ لحياة بابلو، وعائلته، وتجارته، وخصومه من العصابات، ومنازله التي يفوق عددها الـ 500 منزل في مناطق مختلفة من كولومبي. كما أنّها توثّق الرسائل والأحداث والعمليّات التفجيريّة والمناسابات وأعياد الميلاد والحفلات الخاصّة ببابلو، بتواريخها.

بالاعتماد على هذه الرواية والشهادات الشخصيّة لمعتقلين كانوا في صفوف بابلو، يُعَدّ المسلسل الكولومبيّ أقرب توصيف للحقيقة ولقصّة فرح وألم الشعب الكولومبيّ على مدار عقود، وقد نجح المسلسل، في غالبيّة مشاهده، في جعل مشاهديه يعيشون أجواء الفترة المتناولة ويرون أدقّ تفاصيلها المملّة، حتّى الملابس وألوانها.

 

فارق لغويّ

بين الإخراجين الأمريكيّ والكولومبيّ فارق لغويّ مهمّ لن يميّزه غير المتحدّثين بالإسبانيّة. تميّز المسلسل الكولومبيّ بكون فريق الممثّلين فيه يتقنون جميعهم اللغة الإسبانيّة واللهجة الكولومبيّة، أمّا الممثّلون في المسلسل الأمريكيّ فغالبيتهم لم يتقنوا اللغة الإسبانيّة، وعلى رأسهم الممثّل البرازيليّ فاجنير مورا، الذي مثّل دور بابلو. لكن في الجزء الثاني من المسلسل الأمريكيّ، استعان المخرج بممثّلين مثّلوا في المسلسل الكولومبيّ، فبدت اللغة أفضل. وهو على ما يبدو تصحيح لخلل اللغة واللهجة في الجزء الأوّل، إذ إنّ هشاشة اللغة كان عنوان الانتقادات الرئيسيّ له؛ مسلسل أمريكيّ يحكي قصّة كولومبيّة بلغة هشّة!

ينتهي الجزء الأوّل من المسلسل الأمريكيّ، في الحلقة العاشرة، لدى نقطة أحداث هروب بابلو من سجن 'الكاتيدرال'، بعد فضّ الحكومة للاتّفاقيّة معه واقتحام سجنه الخاصّ الذي يقضي فيه مدّة سنة. بينما في التسلسل الزمنيّ للمسلسل الكولمومبيّ، نكون قد وصلنا الحلقة رقم 55 عندما يهرب بابلو من 'الكاتيدرال'.

ثمّة أحداث ضخمة ومهمّة يعيشها بابلو في مجمل حياته، وخلال تشكيل العصابة وتطويرها، واختلال موازين القوى بينه وبين الحكومة لصالحه وتطوّره في عالم التهريب، لم يتطرّق إليها المسلسل الأمريكيّ بجزئيه.

نهايات متناقضة

يلاحظ في المسلسل الأمريكيّ تقديم نهايات مختلفة للأحداث، ولشخصيّات قريبة جدًّا من بابلو. ما يدفع إلى طرح سؤال: من يقدّم الرواية الحقيقيّة ومن يقدّم عملًا دراميًّا بعيدًا عن الموضوعيّة؟

بابلو وزوجته

جونزالو غافيريا، مثلًا، وهو الشخص الأقرب إلى بابلو، والمدير التنفيذيّ والعقل المدبّر لعمليّات تهريب الكوكايين والمسؤول الأوّل عن المطابخ وعمليّات نقل النقود، يُظهر المسلسل الأمريكيّ أنّ وحدة من الجيش الكولمبيّ والأمريكيّ اختطفته، وأنّه عُذِّبَ في بناية مهجورة ليعطي معلومات عن مكان بابلو، وأنّ مواطنين كولومبيّين جمعهم الضابط المسؤول يضربونه حتّى مقتله، إذ قيل له إنّ هؤلاء المواطنين فقدوا أقرباءهم بسبب أفعاله، وها هم ينتقمون منه. أمّا المسلسل الكولمبيّ، فيُظْهِرُ مقتل جونزالو على يد الشرطة الكولومبيّة في إحدى عمليّات المداهمة بحثًا عن بابلو.

يكمن مركز التناقض بين المسلسلين في كون المسلسل الأمريكيّ يُظهر أنّ بطله، الضابط الأمريكيّ من مكتب مكافحة المخدرات، هو الذي يطلق الرصاص على بابلو لينهي حياته، بينما نرى في المسلسل الكولومبيّ إصرار الشرطة والجيش على الإقدام لإيقاع بابلو ونصب الكمائن له، وتأكيدهم الدائم على أنّ الشرطيّ الذي سيلقي القبض على بابلو أو يقتله، يجب أن يكون كولومبيًّا، ويُظْهِرُ أنّ الشرطيّ 'أجيري' هو مَنْ يُطلق النار عليه، ويلتقط هو والفريق صورة مع الجثّة.

تخلو الصورة من وجود الضابط الأمريكي، إلّا أنّه يظهر في المسلسل الأمريكيّ حاضرًا في ذات المشهد، مطلقًا النار على بابلو، وهذا غير صحيح وفق عدّة مصادر.

1 سنة = 42 سنة

يشوّق المسلسل الأمريكيّ مشاهده لمعرفة المزيد عن حياة بابلو. بعد مشاهدتي الجزء الأوّل منه، استُفْزِزْتُ وبحثت عن معلومات أخرى حول هذه الشخصيّة وحياتها. وجدت المسلسل الكولومبيّ يجيب عن عشرات الأسئلة حول كولومبيا والمخدّرات والفقر والحالة العامّة. بعد أن انتهيت منه صدر الجزء الثاني من المسلسل الأمريكيّ، شاهدته، لكنّني مللت منه باكرًا، نظرًا للجهد المبذول في جزء كامل مكوّن من 10 حلقات تتناول قصّة بابلو بعد هروبه من السجن، وكما هو معروف، فهروب بابلو من السجن لم يستمرّ سوى سنة واحدة، ولم يستطع بابلو أن يعود بعدها إلى قوّته ونفوذه كما قبل سجنه.

جثّة بابلو

خسر بابلو أصدقاءه وشركاءه؛ قسم منهم اغتالته الشرطة وقسم آخر هرب، وقسم ثالث تعاون مع المخابرات الأمريكيّة ومع عصابات 'كالي' ضدّه، لذا بقي مختفيًا طوال هذه الفترة، يحاول تنفيذ عمليّات تفجيريّة بشكل جبان. بابلو ومساعدان اثنان فقط كانوا حاضرين وناشطين في هذه الفترة، لذا فالمعلومات حولها كانت شحيحة، ورغم ذلك أنتجت شركة Netflix جزءًا كاملًا، من عشر حلقات، حولها، بينما تناولت 42 عامًا من حياته، بما تتضمّنه من حوادث وتفاصيل، بجزء واحد، هو الأوّل.

اختزال الواقع

من أراد الاطّلاع على تاريخ التحوّلات في كولومبيا في الفترة بين 1960 و1993، ومن ضمنها ضعف الحكومة أمام العصابات وتجارة المخدّرات، والصحافة ودورها ودور القضاء، ومحاولات الاستحواذ الأمريكيّ على المشهد، والفقر الكولومبيّ ولجوء الناس إلى العنف، والاقتتال بين الحركات العسكريّة الشيوعيّة مثل 'أر 19' والحركات اليمينيّة، أنصحه بمشاهدة المسلسل الكولومبيّ. أمّا 'Narcos'، فهو مسلسل إثارة لطيف، يختزل الواقع، ويؤطّر الأحداث بعين أمريكيّة تودّ أن تخلق بطولة في كلّ واقعة، وهذا أمر مستفزّ ومنفّر. كما أنّه يُظهر الحركات الشيوعيّة حركاتٍ إرهابيّة متطرّفة، ولا يتطرّق للحركات اليمينيّة في حينه!

بابلو المحبوب!

إذا ذهبتهم اليوم إلى كولومبيا، سوف تجدون آثار بابلو، في مدينة ميديلين تحديدًا؛ حيّ سكنيّ كامل وكنيسة وملعب كرة قدم ومصانع وحديقة حيوانات بناها بابلو للفقراء هناك، في منطقة 'باريو دي بابلو'. كما أنّه وظّف الآلاف في مشاريعه، في الوقت الذي لم تستطع الحكومة توفير فرص عمل للفقراء وإنشاء منازل لهم، ما أعطاه الحبّ والالتفاف والحماية الشعبيّة طوال أعوام، وقد شارك في جنازته قرابة العشرين ألف شخص.

بعد موت بابلو، لم يتوقّف العنف ولم تنته تجارة الكوكايين. ما زرعته المخابرات الأمريكيّة خلال تعاونها مع العصابات الأخرى 'الكارتيلس'، حصدته بعد اغتيال بابلو، إذ انتقلت زراعة الكوكايين من بوليفيا والبيرو إلى كولومبيا، وهذا ما سوف يظهر في الجزء الثالث من المسلسل الأمريكيّ، 'Narcos'.