أيّام قرطاج السينمائيّة: هكذا يحضر الفيلم الفلسطينيّ

السينمائيّون الحاصلون على جوائز الدورة الـ 27 من "أيّام قرطاج السينمائيّة"

في آخر حوار أجرته جريدة الشروق التونسيّة مع المخرج السينمائيّ التونسيّ الراحل، مؤسّس الجامعة التونسيّة لنوادي السينما، ومؤسّس مهرجان أيّام قرطاج السينمائيّة JCC، الطاهر الشريعة، شرح فيه الدافع الذي قاده نحو تأسيس أيّام قرطاج السينمائيّة؛ فعندما استدعاه السفير الألمانيّ بتونس بصفته صحافيًّا يرأس تحرير نشريّة إخباريّة سينمائيّة آنذاك، ليواكب مهرجان برلين السينمائيّ الدوليّ، فوجئ بفيلم وثائقيّ يُدعى 'الجنّة وجمرة النار'، وهو من إنتاج إسرائيليّ ألمانيّ مشترك، يصف المستوطنات الإسرائيليّة بالجنّة، فيما يصوّر الفلسطينيّين والعرب، بعامّة، في مظاهر مهينة وغير لائقة، ما جعل الطاهر يغادر القاعة ويعاتب مدير المهرجان وهو في قمّة الغضب، قائلًا: «ضع نفسك مكاني، ألا تعتبر أنّ هذا الفيلم إهانة لكلّ عربيّ؟» وطلب منه أن يحجز له مكانًا للرجوع إلى تونس. لكنّ مدير المهرجان اقترح عليه أن يجلس مع المخرج الإسرائيليّ ويعرض آراءه من خلال ندوة صحافيّة تجمعهم الثلاثة، فاشترط الطاهر أن تكون بحضور الراديو الألمانيّ.

الطاهر الشريعة

ويضيف قائلًا: «لقد اكتشفتُ النوايا التي كانت وراء دعوتي وواجهت بها رئيس المهرجان الذي ارتبك في الكلام، معتبرًا أنّه لا يمارس القمع في عرض فيلم دون آخر، ومنذ ذلك اليوم قرّرت أن أبعث مهرجانًا سينمائيًّا تونسيًّا لا يشبه أيّ مهرجان آخر، بعيدًا عن كلّ الشوائب، غير شبيه بالمهرجانات التي تروّج لأفلام رديئة فتنمّقها وتسوّقها، والغريب أنّك تجد الآخرين يتنافسون على شرائها، فأردته مهرجانًا غير تجاريّ ينطلق في إطار تونسيّ ثمّ عربيّ، وعندما نتجاوز مسألة اللغة، يكون أفريقيًّا ثمّ عالميًّا، ولا يكون كذلك إلّا بالتركيز على الخصوصيّة التي من أجلها يأتي الناس من مختلف بلدان العالم لمتابعة هذا المهرجان.'

نستطيع القول إنّ هذا ما حدث فعلًا، فقد أصبح لدى تونس مهرجان سينمائيّ كما أراد الطاهر الشريعة، ووصلت السينما إلى أماكن ترى نورها لأوّل مرّة، فقد دخلت إلى المناطق الشعبيّة النائيّة، كما دخلت السجون التونسيّة لأوّل مرّة، فأصبح في تونس جمهور شغوف بالسينما ويتابعها.

الحضور الفلسطينيّ

ومنذ تأسيس المهرجان، صار للسينما الفلسطينيّة وجود مهمّ ومميّز في تونس، حيثُ نال الفيلم الفلسطينيّ 'عمر' لمخرجه هاني أبو أسعد أربع جوائز في الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان سنة 2014: جائزة التانيت الذهبيّ لأفضل فيلم روائيّ طويل، وجائزة أفضل سيناريو، وجائزة الجمهور، وجائزة لجنة التحكيم الخاصّة بالشباب؛ وفي نفس الدورة، نال الفيلم الفلسطينيّ 'المطلوبون الـ 18' لصاحبه المخرج عامر شوملي، جائزة التانيت الذهبيّ لأفضل فيلم وثائقيّ. وقد خُصِّصَتْ دورة المهرجان الثانية والعشرون، سنة 2008، دورةً لتكريم السينما الفلسطينيّة، وفي الدورة التالية، كُرِّمَتْ الممثّلة والكاتبة الفلسطينيّة هيام عبّاس.

المخرج الفلسطينيّ ميشيل خليفي والموريتانيّ عبد الرحمن سيساكو في الدورة الحاليّة

أمّا السينمائيّ الذي له باع طويل مع تونس، لا سيّما مع أيّام قرطاج السينمائيّة، فهو المخرج الفلسطينيّ رشيد مشهراوي، الذي ترأّس لجنة تحكيم المهرجان سنة 1992، وحصلت أفلامه على العديد من جوائزه، كان أهمّها فيلم 'عيد ميلاد ليلى' الذي حصل على جائزة التانيت الفضّيّ سنة 2008، كما حصل بطل الفيلم، الممثّل الفلسطينيّ محمّد بكري، على جائزة أفضل ممثّل في الفيلم.

وقد حضر رشيد مشهراوي إلى تونس خلال الأيّام الماضية، ليواكب فعاليّات الدورة السابعة والعشرين للمهرجان، الذي يحتفل بخمسين عام على تأسيسه؛ حيث انطلقت فعاليّات الدورة يوم 28 تشرين الأوّل (أكتوبر) وانتهت يوم أمس، 5 تشرين الثاني (نوفمبر)، وقد أُعيد عرض فيلمي مشهراوي خلاله؛ 'عيد ميلاد ليلى' إنتاج سنة 2008، و'حيفا' إنتاج سنة 1996، في قاعات السينما التونسيّة. كما يتابع مشهراوي أيضًا في هذه الأيّام، اللمسات الأخيرة في مونتاج فيلمه القادم 'كتابة على الثلج'، من إنتاج فلسطينيّ - تونسيّ، وقد صُوِّرَ الفيلم كاملًا في تونس، وشارك فيه ممثّلون عرب كبار، من بينهم الممثّل السوريّ غسّان مسعود، والممثّل المصريّ عمرو واكد، حتّى يكون جاهزًا للعرض مع بداية العام القادم.

كما حضر المهرجان المخرج الفلسطينيّ ميشيل خليفي، الذي أُعيد عرض فيلميه؛ 'عرس الجليل' إنتاج سنة 1987، والحائز على جائزة التانيت الذهبيّ للمهرجان سنة 1988، وفيلم 'الذاكرة الخصبة'، إنتاج سنة 1980.

وقد تُوّجت المشاركة الفلسطينيّة في دورة المهرجان هذا العامّ، بفوز فيلم '3000 ليلة' للمخرجة ميّ المصري، بجائزتي أفضل سيناريو والتانيت البرونزي، والفيلم يتناول حكاية إحدى الأسيرات الفلسطينيّات في معتقلات الاحتلال.

هل يُقضى على الحلم؟

لكن، كيف لمهرجان أُسّس ليكون بديلًا عن المهرجانات التّجاريّة، أن يقلّدها الآن ويحمل شعاراتها؟ لا سيّما أنّه كان عنوانًا لتبنّي السينما الملتزمة، والفلسطينيّة تحديدًا؟

ميّ المصري تستلم جائزتي فيلمها، '3000 ليلة'

يبدو أنّ حلم الطاهر الشريعة لم يستمرّ على النحو الذي أراده لمهرجان سينمائيّ ملتزم، إن صحّ التّعبير، فالمهرجان الذي انطلق من واعية فنّيّة وسياسيّة رافضة، وغير قابلة للسينما التجاريّة، هو نفسه المهرجان الذي يحاول اليوم، بوضوح فاضح، الخروج من عبء احتضان السينما الكادحة وعمّالها في الدول النامية، أو دول العالم الثالث، ليقلّد السينما الرأس ماليّة في الغرب، ولكي تتحوّل سينما المهرجان من مادّة فنّيّة حقيقيّة إلى مادّة تُصنع بحرفيّة لا أكثر، الأمر الذي خلق منتقدين شرسين لوضع المهرجان الحاليّ، ناهيك عن بعض الجهات التي ترعى المهرجان، مثل شركتي أورنج الفرنسيّة وكوكاكولا الداعمتين للاحتلال الإسرائيليّ وجيشه، إن لم نقل إنّ كوكاكولا واحدة من أهمّ رمز من رموز الإمبرياليّة، وشاراتهما تتعرّشان شارع الحبيب بورقيبة، وسط العاصمة التونسيّة، طيلة أيّام المهرجان.

بذخ

كما أنّ منتقدي المهرجان يدعّمون موقفهم، أيضًا، بمظاهر البذخ التي بدأت تظهر على المهرجان في سنواته الأخيرة، لا سيّما مع التحوّل الذي أسّست له المنتجة السينمائيّة التونسيّة درّة بوشوشة، والتي كانت مديرةً للمهرجان لعدّة سنوات، فجاءت بما هو دخيل على المهرجان، بعد أن فرشت البساط الأحمر ليمشي عليه الضيوف محاطين بجماهير غفيرة تحصرهم حواجز حديديّة، وأحضرت السيّارات الفارهة لتقلّهم من الفنادق، بعد أن كان المهرجان يتيح للشباب من هواة السينما، وغيرهم، التواصل بشكل عاديّ مع أمثال هؤلاء السينمائيّين، حيث ينتظر العديد منهم المهرجان بلهفة كبيرة، كي يتمكّنوا من الحديث مع أحد السينمائيّين الكبار، ليصبح ضيوف المهرجان بدورهم، نجومًا لا يُمكن رؤيتهم إلّا عن بُعد.

فهل حقًّا يستحيل استقلال السينما في بلادنا عن الشروط والمقاييس التي يضعها الغرب؟ أم أنّ هناك من يقف وراء تحطيم حلم الراحل الطاهر الشريعة، مسقطًا مهرجانه في هوّة السينما التجاريّة؟

 

سعد محفوظ

 

 

من موالد مدينة طولكرم. طالب في المعهد العالي للفنون المسرحيّة، تونس. له مجموعة شعريّة بعنوان 'طار ما كان في يدها'، حاصلة على المرتبة الأولى في 'جائزة عبد الرحيم محمود للإبداع' - مسابقة الكاتب الشابّ.