"رحلة في الرحيل": حكاية مناضل ضاعت ثورته

إلياس شوفاني في منزله بسوريا | لقطة من الفيلم

 

في فيلم مدّته ساعتان كاملتان، يبدو من حيث شكله الفنّيّ كتابًا مقسّمًا إلى عدّة فصول يحمل كلّ منها عنوانًا، تسلّط المخرجة والشاعرة الفلسطينيّة، هند شوفاني، الضوء على شخصيّة المناضل والمفكّر اليساريّ الفلسطينيّ، إلياس شوفاني، والدها، الذي انضمّ لصفوف الثورة الفلسطينيّة في الستّينات ورفض التسوية السياسيّة مع إسرائيل لأنّ صيغتها تمثّل خذلانًا واعترافًا بتفوّق العدوّ وحقّه وسلطته، فرفضه الساعون إلى التسوية.

 

لا مقدّس

في الفيلم رائحة تزكم الأنوف، تنبعث من تفاصيل فشل مسيرة التحرّر الوطنيّ في تحقيق أهدافها والالتزام بمبادئها، حيث يتلقّى المشاهد، إن كان صاحب القضيّة، الصفعة تلو الصفعة، ولا مجال للتنصّل أو تبرئة الذات من تهمة تضييع بوصلة 'الثورة'، اللفظ الذي يصرّ إلياس شوفاني على استخدامه طيلة الوقت.

 

ياسمين، زوجة إلياس الثانية | لقطة من الفيلم

 

يتضمّن فيلم 'رحلة في الرحيل'، والذي عُرِضَ مؤخّرًا في 'دارة الفنون' بالعاصمة الأردنيّة – عمّان ضمن فعاليّات محفل 'قلنديا الدوليّ' 2016، نقدًا لاذعًا لمسيرة حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّة، وللتسوية السياسيّة ممثّلة برموزها من القيادات الفلسطينيّة، بدءًا من أبي عمّار وليس انتهاءً بأبي مازن، فلا مقدّس في خطاب شوفاني إلّا الثورة، علمًا أنّ الفيلم يمثّل وجهة نظره الشخصيّة، وليس قراءة نقديّة لمسيرة حركة التحرّر الوطنيّ منذ الستّينات.

 

ثمن المبادئ

يبدأ الفيلم الذي يحمل أحد أسماء كتب شوفاني الاثنين والعشرين، بمكالمة هاتفيّة بين الابنة وأبيها، تحثّه فيها على مغادرة سوريا بعد تدهور الأوضاع السياسيّة والأمنيّة، فيرفض ذلك لأنّه يرى في بقائه 'مع الناس اللي عاش معهم' وعدم تركه لهم في أوضاع كهذه، مسألة مبدأ.

يُلازِم العناد والتمسّك الشديد بالمبادئ، في السياسة تحديدًا، مواقف إلياس شوفاني طوال حديثه في الفيلم، كما رافقاه طوال حياته؛ وهو الذي هُجّر من قريته في الجليل، معليا، إلى لبنان عام 1948، وتسلّل عائدًا إليها، ثمّ هاجر إلى أمريكا عام 1962، حيث حصل على الدكتوراه في التاريخ الإسلاميّ وعمل محاضرًا في عدّة جامعات، كما نشط في العمل الطلّابي والأكاديميّ، لكنّه قرّر ترك كلّ شيء والتوجّه إلى لبنان عام 1973 لينضمّ لحركة 'فتح'، التي أُقيلَ منها/ انشقّ عنها بسبب تمسّكه الشديد بمبادئه.

 

Trip Along Exodus Trailer from Hind Shoufani on Vimeo.

 

رفض شوفاني، هو ومجموعة من رفاقه، سياسة اتّخاذ القرارات في منظّمة التحريريّة الفلسطينيّة، وعارض الانسحاب الفلسطينيّ من بيروت إثر الغزو الإسرائيليّ صيف 1982، كما رفض سياسة المنظّمة، بقيادة ياسر عرفات، الساعية إلى التسوية السياسيّة مع المحتلّ. والآن، بعد ما يقارب الثلاثين عامًا من بدء التسوية، يطرح إلياس شوفاني ذات الأفكار والمبادئ، وهو يرى في عودته إلى فلسطين، نتيجةً للتسوية السياسيّة، ذلًّا وإذعانًا للمحتلّ، واعترافًا بسلطته ورضًى بحكمه: 'أنا دخلت عالثورة عشان أرجع ذليل؟! وأقولهم غلطت سامحوني وخفّفوا عنّي الحكم؟!'

وفي هذا السياق، تشير هند شوفاني المقيمة حاليًّا في دبيّ، في حديث مع فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة عبر سكايب، إلى أنّ فكرة إنتاج الفيلم نبعت، في الأساس، من رؤيتها لضرورة تسليط الضوء على مبادئ والدها الذي تخلّى عن حياته المستقرّة والهادئة والناجحة في أمريكا لصالح عودته إلى لبنان، وانضمامه لصفوف الثورة الفلسطينيّة، بما يحمله هذا القرار من ثمن باهظ.

وعلى الرغم من أنّ خطاب إلياس شوفاني وأفكاره هي ذاتها التي كانت حاضرة قبل أكثر ممّا يزيد عن ثلاثين عامًا، إلّا أنّ 'مقاييس' الزمن الحاليّ ومتطلّباته و'مساومته'، أصبحت ترى في هذا الخطاب 'تطرّفًا' و'عنادًا'! كلمتان سمعتهما في الفيلم، وفي تعليقات حضور بعد انتهائه.

 

إلياس شوفاني في الثمانينات | لقطة من الفيلم

 

ماذا تخبّئ السخرية؟

إلى جانب صلابة المواقف، لازمت السخرية والضحك الكثير من الآراء والذكريات التي طرحها إلياس شوفاني، فهو المستهزئ من نفاد 'المازوت' والقصف المحيط به في سوريا، وهو الساخر من قرار حركة 'فتح' طرده من الحركة، والساخر، أيضًا، ممّن اعتبرهم مهرّجين و'قليلين حيا' من السياسيّين الفلسطينيّين والعرب، والكثير من المواقف الأخرى. هذه السخرية التي تخبّئ خلفها رفضًا حادًّا مصحوبًا، ربّما، بخيبة أمل ممّا آلت إليه الثورة الفلسطينيّة، تكشف عن شخصيّة فكاهيّة على الرغم من جدّيّتها وصلابتها وقراراتها الصعبة في المواقف السياسيّة والحياتيّة، وقد كان أحد أهمّ أهداف المخرجة من إنتاج الفيلم، كما أشارت، إبراز شخصيّة فلسطينيّة مثقّفة ومعطاءة، سياسيًّا وفكريًّا، وجذّابة بسخريتها وبطرحها المختلف حاليًّا عن خطاب التسوية والمهادنة، حيث الصورة المغايرة لصورة الفلسطينيّ البائس والمهجّر والمنكوب.

 

دمعتان

حضرت عائلة إلياس شوفاني بقوّة في الفيلم؛ فهو لا يتناول حياته السياسيّة والفكريّة فقط، بل يحكي سيرته العائليّة بدءًا من خروجه من فلسطين للدراسة في أمريكا، وافتراقه عن عائلته الكبيرة وعدم قدرته على لقائها بعدها لالتحاقه بالعمل الثوريّ واستغنائه عن الجنسيّة الإسرائيليّة المفروضة على فلسطينيّي أراضي 48، وما صاحب ذلك الافتراق والبعد من وجع وحسرة له وللعائلة.

 

إلياس والزوجة ياسمين والابنة هند | لقطة من الفيلم

 

يتناول الفيلم أيضًا  قراراته القاسية  المتعلّقة بأسرته الصغيرة، كون الخيار الأوّل للزوج والأب هو العمل السياسيّ والفكريّ منذ شبابه، فقد اختار ترك وظيفته المريحة في إحدى الجامعات الأمريكيّة، وترك زوجته الأولى، أمريكيّة الجنسيّة، فيكي، والتي أصبحت أثناء إعداد الفيلم صديقة لابنته هند، متنازلًا عن فرصة حصوله على الجنسيّة الأمريكيّة، ليتوجّه إلى لبنان عام 1973، حيث نشط في صفوف حركة 'فتح'. تزوّج إلياس ياسمين، زوجته الثانية، والتي بقيت معه خلال سنوات حياته رغم انشغالاته وغيابه المستمرّ، حتّى قرارها الانتقال من سوريا إلى الأردنّ للعلاج، وقد ماتت هناك بعد عام دون أن يودّعها.

قرارات صعبة وقاسية، تخبر دمعتان يذرفهما السياسيّ العنيد الكثير عن ثمنها الباهظ، رغم عدم ندمه عليها. وفي هذا السياق، تشير هند شوفاني إلى أنّ أحد أهدافها أيضًا من إنتاج الفيلم، تسليط الضوء على عائلات المناضلين الذين التحقوا بالثورة، والثمن الذي دفعته هذه العائلات نتيجة القرارات الصعبة والمصيريّة التي تكون فيها الاعتبارات السياسيّة هي الحَكَم.

 

الابنة، المخرجة والشاعرة

تتنقّل هند شوفاني في الفيلم، الذي يُصنّف وثائقيًّا وفيديو آرت، بين ثلاث شخصيّات قدّمت معًا عملًا جريئًا، ليس في مضمونه فقط، بل في شكله الفنّيّ أيضًا؛ فهي الابنة التي تحضر بصوتها عبر مكالمات اطمئنان على الوالد في عزلته بسوريا، والتي تسترجع ذكريات غيابه الطويل لانشغاله بالعمل السياسيّ، الأمر الذي أخبر الكثير عن حياته العائليّة ورؤيته للعلاقات الأسريّة كشخص همّه الأوّل العمل السياسيّ، وقضيّته الأولى الثورة.

 

ملصق الفيلم

 

حاولت هند شوفاني أن تضفي شيئًا من ذاتها الفنّانة على سيرة ذاتيّة صلبة، فاستخدمت الكثير من الجرافيك والرسوم المتحرّكة غنيّة الألوان، بالإضافة إلى الأصوات والموسيقى، دامجة إيّاها بصور وفيديوهات كثيرة من الأرشيف العائليّ والسياسيّ المتنّوع والمتشعّب جغرافيًّا في فلسطين ولبنان وسوريا والأردنّ وأمريكا وغيرها، مضفية على الشكل التقليديّ للمقابلات في الأفلام التسجيليّة لمسة فنّيّة تبعد الملل الذي قد يصيب المشاهد من فيلم مدّته ساعتين.

أمّا هند الشاعرة، فقد صحبتنا بصوتها وقصائدها باللغة الإنجليزيّة، بشاعريّة تكسر حدّة الجدّيّة والصلابة، لكنّها، في ذات الوقت، تعزّز الشحنة العاطفيّة القويّة في الفيلم، لا سيّما في تفاصيله الحياتيّة المرتبطة بالعائلة الكبرى والرحيل، والأسرة الصغيرة والغياب شبه الدائم عنها.

 

رحلة صعبة

لم يكن تمويل الفيلم هو الصعوبة الوحيدة التي واجهت المخرجة في إنتاجه، إذ مُوِّلَ بشكل جزئيّ من الصندوق العربيّ للثقافة والفنون، بالإضافة إلى التمويل الجماعيّ (Crowdfunding)، كما أشارت المخرجة. فمن الصعوبات، أيضًا، الشكل الفنّيّ المعقّد والكمّ الكبير من المقابلات وموادّ الأرشيف، والتصوير في دول مختلفة مع الكثير من المقرّبين من إلياس شوفاني في ظلّ عدم وجود طاقم عمل كافٍ للإنتاج، حيث كان الاعتماد بشكل كبير على المخرجة والمحرّر أيمن نحلة.

أمّا عن القرارات المتعلّقة بمحتوى الفيلم، فقد واجهت المخرجة صعوبات تتعلّق باختيار ما تبرزه وما لا تبرزه، لا سيّما ما يتعلّق بالأمور العائليّة، بشكل يحقّق الهدف من الفيلم ولا يتعرّض، في الوقت نفسه، لخصوصيّة العائلة. وغير ذلك من صعوبات رافقت إنتاج الفيلم الذي استمرّ بشكل متقطّع لمدّة خمس سنوات. 

 


 

صابرين عبد الرحمن

 

 

مؤسّس شريك ومديرة عتبة فنّ للفنون والإعلام والتدريب. عضو المجموعة الوطنيّة الفلسطينيّة للسياسات الثقافيّة/ المرصد الثقافيّ، المنبثقة عن مؤسّسة المورد الثقافيّ، وباحثة في الشأن الثقافيّ.