فوضى: هل تبرر "الخصوصية" التورط في تجميل وحدة المستعربين؟

ممثّلو مسلسل "فوضى"

ثمّة فئة منحازة في أراضي 48 إلى شرعيّة وواجب الشراكة مع المجتمع الإسرائيليّ ثقافيًّا وفنّيًّا، نتيجة لما يُسمّى بـ 'خصوصيّة الفلسطينييّن' في هذا الجزء من فلسطين. يبرّر هؤلاء موقفهم بأهمّيّة استعمال المسرح والتلفزيون والصحف الإسرائيليّة، وغيرها من المنابر، منصّةً لمواجهة الإسرائيليّين مع ذاتهم ومع بطشهم. حتّى أصحاب هذا الموقف، بعامّة، وضعوا ضوابط لمشاركاتهم هذه، خشية الانزلاق إلى هاوية التورّط في عمل فنّيّ إسرائيليّ ذي طابع صهيونيّ بحت، ما سيثير المتلقّي الفلسطينيّ ضدّ هذا الفنّان أو ذاك العمل.

في المنطقة الرماديّة

لطالما تناغم الفنّان الفلسطينيّ مع توجّه الشارع بعدم التورّط في شراكات فنّيّة إسرائيليّة منزوعة الضوابط، واهتمّ بالبحث عن شراكات تصبّ في معالجة الحدّ الأدنى من هموم الفلسطينيّ اليوميّة وقضيّته الوطنيّة.

قد يبدو كلّ ذلك عاديًّا، لكنّ هذا الوعي البسيط من المتلقّي، والذي ترجمه والتزم به الفنّان الفلسطينيّ، منع، بقدر كبير، تهديد الهويّة الفلسطينيّة، والمساهمة في التأسيس لحالة انصهار في المجتمع الإسرائيليّ. فحتّى الأعمال ذات السقف السياسيّ المنخفض والمتهاون، كانت تنقل صورة صراع الفلسطينيّ المواطن ابن الأقلّيّة الأصلانيّة، مع المجتمع الإسرائيليّ ودولته العدوانيّة، وهو قد أبقى بهذا، على الأقلّ، على طرفي صراع واضحين.

إنّ أشدّ المنحازين لوجوب وشرعيّة الشراكة مع المجتمع الإسرائيليّ وفتح الحوار معه، حافظوا في شراكاتهم هذه، وعلى مرّ عشرات السنين، على حدّ أدنى من الخطوط الحمراء، تشكّل ضوابط للتعامل مع المجتمع الإسرائيليّ، وقد تحرّكوا ضمن المنطقة الرماديّة والجدليّة في مجتمعنا حول طبيعة الشراكات أعلاه، وهو أمر لا بأس به.

'المستعرب البطل'

ثمّ يأتينا، مؤخّرًا، فنّانون فلسطينيّون، والذين نقدّر بعضهم، متباهين بمشاركتهم في مسلسل 'فوضى' الإسرائيليّ ذي الخطاب الصهيونيّ، والطابع العسكريّ والمخابراتيّ، ضاربين عرض الحائط أيّ خطوط حمراء وأيّ ضوابط وطنيّة، مساهمين في تمييع كلّ مفهوم لصراعاتنا المتشعّبة مع الاستعمار الإسرائيليّ.  وإليكم أهمّ ما ورد في هذا المسلسل لمن لم يشاهده:

1. يتناول المسلسل حياة أفراد من وحدة المستعربين الإسرائيليّة وعملها مع المخابرات العسكريّة؛ وهي وحدة تأسّست على يد عصابات الهاجاناة في ثلاثينات القرن الماضي، يتنكّر أفرادها إلى أشخاص عرب وينفّذون عمليّات تصفية وخطف وقتل مقاومين أو مدنيّين فلسطينيّين. يصوّر العمل أفراد وحدة المستعربين أبطالًا يناضلون من أجل السلام والاستقرار الأمنيّ، وبالتالي، فإنّ العمل، بعامّة، يتناول قضايا حسّاسة على نحو يضرب قيمنا وثوابتنا الفلسطينيّة. ويرجّح كثيرون أن يكون العمل، أصلًا، مدعومًا من الجيش والمخابرات الإسرائيليّين لتبييض وجه وحدة المستعربين وعملها.

2. يطرح المسلسل قصص عائلات أفراد وحدة المستعربين، ويحاول أن يُؤنسن المستعربين أنفسهم، فيصوّرهم أناسًا عاديّين جدًّا، لهم هموم يوميّة مشابهة لنا جميعًا، وبالتالي، فإنّ علينا التعاطف معهم، فهم ضحايا صراعاتهم مع زوجاتهم وأولادهم وأوضاعهم الاقتصاديّة.

إنّ محاولة جرّ المشاهد إلى التعاطف مع المستعربين خطير للغاية، فهو يُنحّي جانبًا مسألة أنّهم قتلة وخاطفون ومسؤولون عن دمار عائلات فلسطينيّة.

3. يُظهر المسلسل المقاومة الفلسطينيّة بصورة بشعة، فهي عبثيّة وغارقة في دم لا سبب له. يكتفي كاتب ومخرج العمل بتصوير الصراع بين المقاومين 'المجرمين' مقابل وحدة المستعربين وأفرادها المؤنسنين، بعائلاتهم ومشاكلهم وقضاياهم، دون أن يتطرّق، أبدًا، إلى الواقع الفلسطينيّ العامّ في أراضي 48 والضفّة وغزّة والشتات، ولا حتّى إلى النكبة والتطهير العرقيّ الذي ارتكبته العصابات الصهيونيّة، والذي لا يزال مستمرًّا.

4. يُقتل أبو أحمد، أهمّ المقاومين في الضفّة كما يصوّره المسلسل، على يد أحد جنوده الأوفياء، الطامع بالقيادة من بعده. وهنا لا يكتفي الكاتب والمخرج بتمجيدهما السابق للمستعرب البطل، بل يطمحان إلى تدمير صورة المقاوم البطل لدى الفلسطينيّين.

5. في المسلسل، يرافق رجل أمن إسرائيليّ زوجة وأطفال أبو أحمد، إذ تُنقل ابنته إلى مستشفى 'هداسا' الإسرائيليّ لتلقّي العلاج. بعدها، يرتّب رجل الأمن مسألة هجرة الزوجة إلى برلين، والتي تقبل ذلك بذريعة حاجتها إلى حياة آمنة. مرّة أخرى، يطمح الكاتب والمخرج إلى تدمير بطولة عائلات المقاومين والشهداء ورمزيّتهم، والذين نعرف عنهم، من واقعنا اليوميّ، حجم تضحياتهم العظيمة.

6. ينجح فرد من وحدة المستعربين بإقناع طبيبة فلسطينيّة، من أقرباء أحد المقاومين، بأنّه عربيّ واسمه أمير محاجنة. يقيم معها علاقة عاطفيّة وجنسيّة، ويغدو لها الحبيب البطل الذي يحمل قيمًا منفتحة ويهتمّ لأمر حمايتها. وهي محاولة بائسة من الكاتب والمخرج لتحويل 'المستعرب البطل' إلى حلم وطوق نجاة، كما أنّها استمرار في محاولة إظهار الفلسطينيّ ضمن ثنائيّة المجرم (بدلًا من المقاوم) أو البسيط السطحيّ، في إشارة مبطّنة لتصوير الفلسطينيّ مُساقًا من المجرمين (المقاومين) بفعل بساطته.

7. يتحدّث كاتب السيناريو، ليئور راز، أنّ المسلسل كُتِبَ بشراكة ومساعدة كلّ من زونان بين يتسحاك، مدير المخابرات العامّة في السابق، وخرّيج وحدة 'ساييرت ماتكال'، وهي وحدة كوماندوز تعمل بأوامر جهاز المخابرات والاستخبارات العسكريّة، وأفيف إلعاد، خرّيج وحدة 'دوفدوفان' للمستعربين، والتي نشطت بين الأعوام 1986 و2015. بالإضافة إلى الاستعانة بمحلّلين مختصّين في الشأن الفلسطينيّ، من الجيش والصحافة، مثل عاموس هرئيل، المحلّل العسكريّ المعروف في الإعلام الصهيونيّ، والذي يكتب في جريدة 'هآرتس'. (من مقال خليل غرّة في 'باب الواد').

'تزعزعت من هذا النصّ المخزي'

إذًا، نحن أمام مسلسل صهيونيّ ومخابراتيّ وعسكريّ، لا يقع ضمن 'مساحة الخصوصيّة' التي يتغنّى بها البعض، بل يتجاوز المناطق الرماديّة ويقع ضمن الخطوط الحمراء. عمل مهين للقضيّة الفلسطينيّة ومأجور، يهدف إلى تشويه المقاومة والوعي الفلسطينيّ وطريقة تعاطيه مع وحدة المستعربين.

عدّة فنّانين فلسطينيّين ممّن عُرِضَت عليهم المشاركة في العمل رفضوا ذلك، ومنهم من أعلن موقفه ودعا الفنّانين الفلسطينيّين إلى عدم المشاركة فيه، إلّا أنّ بعض الفنّانين تجاهلوا الأمر وتورّطوا في العمل. من الفنّانين الذين أعلنوا رفضهم المشاركة ووجّهوا دعوة لمقاطعته كانت الفنّانة سلوى نقارة، فقد جاء في منشور لها في 'فيسبوك' بتاريخ 20/05/2014:

'اسمحوا لي أن أنبّهكم من مسلسل فوضى الذي سيتمّ تصويره بعد شهر'، 'تزعزعت من هذا النصّ المخزي'، 'المستعرب الإنسانيّ الذي يقاتل أناسًا مصّاصي دماء يقتلون من أجل القتل (في إشارة إلى المقاومة)'. المسلسل يصوّر 'المستعرب الذي يهبّ ليحمي عائلات القياديّين في حماس المهدّدين بالقتل'. 'أنا اعتذرت عن المشاركة'، 'اقرأوا النصّ وتمعّنوا ثمّ خذوا قراراتكم'.

صاغوا خصوصيّتهم بالاشتباك

بعض الفنّانين يحتمون 'بالخصوصيّة' ليجيزوا لأنفسهم ما يمسّ بقيمنا وثوابتنا الفلسطينيّة؛ ومناقشة لهؤلاء، فإنّ أحدًا لا يختلف مع الفلسطينيّين في أراضي 48، الباقين في وطنهم، والذين فرضت عليهم إسرائيل أوراقها الثبوتيّة ولم يختاروها بإرادتهم، في أنّ لهم خصوصيّة بفعل تركيبة هجينة تجعلهم واقعين بين انتمائهم الفلسطينيّ ومواطنتهم في دولة الاستعمار الاستيطانيّ.

لا بدّ من توضيح أنّ خصوصيّة الفلسطينيّين في أراضي 48، لم يحصلوا عليها فقط لأنّهم اكتفوا بالبقاء الجسديّ والجغرافيّ في أرضهم، وإلّا لكان صراعهم، على أفضل أحواله، صراعًا على تحصيل بعض الحقوق المدنيّة. حقيقة خصوصيّتهم أنّها نتيجة نضالات واشتباك مستمرّ مع العنصريّة، وسط حرصهم على حماية هويّتهم الفلسطينيّة وتعزيزها، والتي لم ترضخ لبطش السلطات الإسرائيليّة ومساوماتها، محبطين مخطّطات أسرلتهم، المرّة تلو المرّة.

فهم 'الخصوصيّة'

إنّ شعبًا يقبع تحت الاستعمار، يختار معاركه وانحيازاته كلّ لحظة، مطالبٌ بالحذر وتوخّي الدقّة، في ظلّ البطش والتهويد والأسرلة. هذا الفهم لطبيعة الصراع وطبيعة العدوّ، يتعمّق عندما نتناول الثقافة الفلسطينيّة كونها مرآة فلسطينيّي أراضي 48، ورسولهم نحو المحيط العربيّ والعالم. ولذلك، يُطالب الفنّان والمثقّف الفلسطينيّ، كما غيره من مثقّفي وفنّاني الشعوب المستعمَرة، أن ينحاز إلى قضيّته وشعبه وقيمه الموروثة من النضال وحالة المواجهة مع المستعمِر.

وفي خصوصيّة واقع الفنّانين والمثقّفين في أراضي 48، فإنّ الوضع المثاليّ هو الانسلاخ الكامل في سياقات الثقافة والفنّ بخاصّة، عن المستعمِر الإسرائيليّ الذي يصبّ جامّ طاقاته وموارده لتهويد وأسرلة الفلسطينيّ وتمييع خطابه.

هذا الواقع المثاليّ 'سياسيًّا'، تجاوزته الشراكات الفنّيّة والثقافيّة منذ ثمانينات القرن الماضي، التي كانت من ملامحها، حينها، انحياز 'الإنسان الإسرائيليّ اليساريّ' إلى 'الإنسان الفلسطينيّ المواطن في الدولة الإسرائيليّة'. وإن تبدو هذه التسميات للبعض شديدة المنطقيّة والأمميّة، فإنّها، في الحقيقة، واهية، لأنّ 'اليسار الإسرائيليّ' في حقيقته صهيونيّ، ولأنّ 'المواطن الفلسطينيّ' في حقيقته جزء من شعب لاجئ في غالبيّته، وهو لا يملك حقّ المساومة على القضيّة الفلسطينيّة.

خارج النقاشات الشرعيّة

ما جاء أعلاه يخلق، باستمرار، حوارًا حول هويّة الأعمال والشراكات 'المقبولة' على المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 48، ينقسم فيه الناس بين معارض ومؤيّد لهذه الشراكات الفنّيّة أو الثقافيّة، ويتزايد باستمرار الجمهور والفنّانون والمثقّفون الرافضون لهذه الشراكات، انطلاقًا من فهم طبيعيّ مبنيّ على التجربة مع المجتمع الإسرائيليّ الذي تخلّص، تقريبًا، من يساره الإسرائيليّ، وانحاز على نحو شبه كامل لليمين المتطرّف.

وعلى الرغم من فهم هذا الحوار وتفهّمه، إلّا أنّ عملًا مثل مسلسل 'فوضى'، لم ولن يكون ضمن النقاشات الشرعيّة الدائرة حول خصوصيّتنا في أراضي 48، وهو لا ينتمي إلى المناطق الرماديّة في ما يتعلّق بهويّة الأعمال والشراكات مع المجتمع الإسرائيليّ، 'المقبولة' على بعضنا؛ فهذا المسلسل تجاوز بشع للقيم الوطنيّة والإنسانيّة، وهو حالة منبوذة وخارجة عن حوار وطنيّ.

حقيقة هذا العمل وما وراءه واضحة تمامًا، وقد يكون بعض الفنّانين الفلسطينيّين شارك فيه عن حسن نيّة، لكنّ النوايا لا تكفي هنا. الفنّان الفلسطينيّ مطالب، مرّة أخرى، بالحذر في اختياراته وانحيازاته. ولنحمّل أنفسنا، نحن المتلقّين الفلسطينيّين، مسؤوليّة مرور هذا العمل دون الوقوف عليه وعلى ما ورد فيه، إذ لعلّ في ذلك مؤشّر إلى حالة من اللا مبالاة التي نعيشها.

مساران

إنّ مساحة 'الخصوصيّة' القائمة على الاشتباك مع المستعمِر الإسرائيليّ قد تسير في مسارين؛ الأوّل مسار متّزن يحدّ من مساحة الخصوصيّة هذه، باستمرار، من خلال تطوير الوعي للعمل على خلق واقع متماسك يخدم وجودنا، نحن الفلسطينيّين. أو قد يسير في مسار تمييع الضوابط والحدود وتوسيعها من أجل شرعنة الانتهازيّة والتهاون في المواقف، وهو المسار اللحظيّ الهيّن والمؤدّي إلى صهرنا في المجتمع الإسرائيليّ الذي قاومناه منذ النكبة. وممّا لا شكّ فيه، أنّ مسلسل 'فوضى' خطوة سريعة وكبيرة ومنزلقة في مسار تمييع الضوابط والحدود.

كلّ من شارك بهذا المسلسل المعيب، مُطالب بتوضيح موقفه والاعتذار علنًا عن ذلك، والانسحاب من جزئه الثاني الذي اشترته شركة 'نيتفلكس' الأميركيّة العالميّة، وسيصدر خلال هذه العام (2017)، وسيعرض في أنحاء العالم كافّة، ما يعني أنّه سيغدو، أيضًا، رسولًا يشوّه صورة الفلسطينيّ في العالم ويبيّض وجه إسرائيل وأفراد عصابات وحدة القتل والتصفية والخطف، وحدة المستعربين. كما أنّنا، جمهور متلقّين، مطالبون بمعاقبة كلّ من تسوّل له نفسه أن يضرب عرض الحائط قضيّتنا الفلسطينيّة من أجل مصالحه الشخصيّة الضيّقة والمادّيّة.

أخيرًا، قرّرت في هذه المادّة عدم الخوض في مسألة الخروقات الخطيرة لمعايير مناهضة التطبيع التي تترتّب على المشاركة في هذا العمل، والذي جمع فنّانين من أراضي 48 والضفّة الغربيّة والجولان السوريّ بفنّانين إسرائيليّين.