"برّ بحر": كشف لما نحاول إخفاءه، وشخصيّات ينقصها العمق

نور وسلمى وليلى

لا أستطيع تذكّر فيلم عربيّ في أراضي 48، استطاع إحداث هذا الكمّ من الجدل في مجتمعنا بين مؤيّد ومعارض، كما فعل فيلم 'برّ بحر' للمخرجة ميسلون حمّود. يروي الفيلم سيرة ثلاث فتيات؛ ليلى المحامية النصراويّة (الممثّلة منى حوّاونور الفحماويّة (الممثّلة شادن قنبورةوسلمى الترشيحاويّة (الممثّلة سنا جمالية).

تتباين قصص الفتيات وتطوّراتها، إذ تقع ليلى في حبّ شابّ من الطيبة، بينما تكون نور مخطوبة لشابّ ملتزم من أمّ الفحم، يؤدّي دوره هنري أندراوس.

يطرح الفيلم عدّة قضايا، مثل المثليّة الجنسيّة والاغتصاب، وتقوم ثيمة الفيلم الأساسيّة على الفجوة بين المجتمع الذكوريّ المحافظ والواقع 'المتحرّر' أو 'الفاجر'، الذي يفرض صراعات دراميّة، أحيانًا، وكوميديّة في أحيان أخرى.

يتناول الفيلم واقع كلّ من تل أبيب - يافا، وترشيحا المسيحيّة، وأمّ الفحم المسلمة، وذلك من خلال نقد يطال كلّ الأطراف في مجتمع يعيش على الهامش، بين عالمي المحافظة والليبراليّة. لكنّه، على كلّ حال، ليس نقدًا لمدينة أو قرية محدّدتين، بل نقد عامّ لمجتمعنا.

سؤال الواقع

يتميّز الفيلم بصداميّته التي لا تنازل عنها، وبعرضه واقعًا مجتمعيًّا نحاول، دائمًا، كنسه تحت السجّادة وتفادي الاعتراف به، وقد بدا الفيلم أشبه بكاسحة ألغام تبحث عن القنابل المدفونة لتفجيرها بكلّ ثمن. وعلى الرغم من أنّ هذا الواقع المجتمعيّ على الهامش، إلّا أنّ الفيلم يمنحه مساحة أكبر ممّا يستحقّها.

من الواضح أنّ القصّة 'خياليّة'، لكنّ تطوّر الشخصيّات في القصّة يقع في مأزق التسلسل المنطقيّ، إذ تتسارع بعض المشاهد التي تحتاج إلى أشهر وسنوات، فتتطوّر خلال دقيقة على الشاشة. ومن المآخذ على الفيلم، على سبيل المثال، أنّ ليلى تقوم بأعمال لا حاجة لها، من منطلق ضرورة القيام بها، وذلك مقابل الضرر الذي يتسبّبه العمل للشخصيّة، سواءً نفسيًّا أو مهنيًّا.

لا يمكن القول إنّ الفنّ مطالب بتصوير الواقع كما هو، وليس مطالبًا، أيضًا، بإيجاد الحلول، ولا التغاضي عن الصور النمطيّة القائمة، ولا أن يكون منطقيًّا حتّى. عندما نفكّر، حقًا، في الهدف من الفنّ، يصعب علينا إيجاد جواب واحد واضح، ولو قُدِّرَ لي الإشارة إلى هدف واحد، فمطلبي هو أن 'يؤثّر فينا'، وهذا ما نجح 'برّ بحر' في فعله.

خادش للحياء

مشهد الاغتصاب الأكثر إثارة للجدل في الفيلم، وسبب الغضب الذي فجّره، يبدو خفيفًا لطيفًا إذا ما قورن بالأفلام الهوليووديّة؛ لكن عندما تكون الشخصيّات 'منّا'، على ما يبدو، فإنّنا نجلس في المقاعد بعدم ارتياح، وكأنّنا نعرفها شخصيًّا، ونشعر أنّنا نحترق من الداخل عند مشاهدتها، مثل مصاب بالجذام ينظر في المرآة للمرّة الأولى. يبدو هذا المشهد تصويرًا مهمًّا للواقع البائس الذي نعيش، الواقع الذي يتّهم الضحّيّة ويبجّل المجرم ويجبرنا على التزام الحياد. منّا مَنْ يطالب بتحطيم المرآة التي تصوّرنا كما نحن، ومنّا من يشيح بوجهه بتقزّز في أفضل الأحوال، متناسين كيف وصلنا إلى هذه الحالة، وكيف يمكننا أن نسلك مسارًا يؤدّي إلى واقع أفضل.

بحثًا عن العمق

يطرح الفيلم قضايا عديدة، بعضها ذات صلة بغالبيّة المجتمع، وبعضها يتعلّق بمن يسكنون على هامشه. إلّا أنّ الفيلم لم يتعمّق في طرحها، ليمنح الشخصيّات، بالتالي، عمقًا أكبر، ما يمكّننا من التضامن معها أكثر. كان من الممكن الاستغناء عن بعض القضايا مقابل التركيز على أخرى، أو إضافة مشاهد تعزّز من فهمنا للشخصيّات وكيفيّة تصرفها.

كما تغاضى الفيلم، بقصد أو من دون قصد، عن كوننا مجتمعًا يعيش بأكمله على هامش دولة تغتصبنا كلّ يوم، وتحوّلنا إلى طفيليّات غير قابلة للتبلور كمجتمع مستقلّ.

اللهجة

على الرغم من أنّني أحببت توظيف الفيلم لمدن وقرى عينيّة، واجتهاد الممثلّين في تعلّم لهجاتها، إلّا أنّني لا أستطيع التغاضي عن تنازلات هؤلاء الممثّلين عن بعض الأمور في توظيفهم لأماكن لا تشبههم، لا سيّما اللهجة الفحماويّة التي أنتمي إليها، ويبدو أنّ حميّتي استُثيرت بسبب الزلّات والتحويرات فيها، التي لن يقع الناطقون الأصليّون بها أبدًا.

يمكنني كمشاهد التغاضي عن الكاف التي تُلفظ 'كافًا' بدلًا من 'تشاف' أحيانًا، فهذا يحدث في الواقع أيضًا، وعن تشديد 'تشاف' خطيب نور المشدّدة (هنري أندراوس) المبالغ به، كما يمكنني التغاضي عن استعمال كلمات مثل 'عَمْ' و'كُنْتْ'، والتي لا تُستعمل أبدًا في هذه اللهجة.

أمّا كلمة 'بحبّكْش'، بتسكين الكاف، فهي غلطة لا تغتفر، ومن كبائر التحوير في أسس اللّهجة، والتي يصعب على فحماويّ مثلي التغاضي عنها!

بين مؤيّد ومعارض

في واقع يشحّ فيه الإبداع والفنّ، لا يمكننا إلّا أن نشجّع الأعمال الفنّيّة وإنتاجها، والدعوة كذلك إلى مشاهدتها، لكنّ ذلك لا يجعلها فوق النقد. من حقّ مَنْ صدمتهم قصص الفيلم ومشاهده التعبير عن رأيهم، ومن حقّ الداعين إلى مقاطعته فعل ذلك، بعد مشاهدته والحكم عليه بأنفسهم طبعًا؛ علمًا أنّهم هم من حوّلوه إلى ناجح تجاريًّا، فلا نكاد نجد كرسيًّا شاغرًا لمشاهدته دون حجز مسبق.

كما من المرفوض تمامًا، أن يتحوّل ذلك الحقّ إلى عنف كلاميّ أو جسديّ، أو تهديدات لن تكون نتيجتها سوى هدم كلّ ما هو جميل في مجتمعنا.

أخيرًا

'برّ بحر' فيلم متوسّط، يحاور دراما الواقع بقوالب كوميديّة، لكنّه لم يستطع إقناعي برسالته، بصداميّته ومبالغته في عرض الواقع، على الرغم من استمتاعي بمشاهدته مجملًا.

يطرح الفيلم قضايا مهمّة، ومن الصحّيّ مناقشتها، حتّى لو كانت على هامش المجتمع، لكن يجب أن يبقى الجدل راقيًا وحضاريًّا، من دون كلّ التشنّجات التي لن تجلب لنا سوى الدمار.

 

رشيد إغباريّة

 

 

من مواليد قرية مصمص في فلسطين. حاصل على البكالوريوس في علوم الحاسوب من الجامعة العبريّة - القدس، ويعمل مهندس برامج في مجال التكنولوجيا المتقدّمة. صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان "حلم ليلة خوف" (2013).