"اشتباك": عن مشهد وجوديّ واحد

من فيلم "اشتباك" لمحمّد دياب

أثار انتباهي مشهد خاصّ في الفيلم المصريّ "اشتباك" لمحمّد دياب (2016)، والذي عُرض في الدورة الثانية من مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام. يحكي الفيلم، بعامّة، عن مجموعة من المعتقلين المنتمين لفئات سياسيّة واجتماعيّة مصريّة مختلفة ومتصارعة. تدور الأحداث كلّها في شاحنة الاعتقال المزدحمة وهي تبحث عن سجن شاغر تأخذ المعتقلين إليه، ويجري ذلك عام 2013 (احتجاجات 30 يونيو الشعبيّة ضدّ حكم الإخوان والانقلاب العسكريّ إثرها).

في أحد المشاهد، وبعد أن انعزلت كلّ جماعة من الجماعات المتنازعة للجلوس في جهتها من صندوق الشاحنة، تتوقّف الشاحنة الموصدة فترة طويلة، وتنعدم بالتالي حركة الهواء عبر نوافذ الزنزانة. ترتفع درجة الحرارة ويبدأ المعتقلون بالاختناق، إذ لا مكان لجميعهم إلى جانب النوافذ. في هذه اللحظة، ودون قرار واضح، نرى المعتقلين يسيرون في طابور دائريّ ضمن محيط الشاحنة، ليتسنّى للجميع بهذا، وعلى نحو متساو، المرور من جانب النافذة للتنفّس. في مشهد لاحق، يتحدّث أحد المعتقلين عبر النافذة مع معتقلين يختنقون في شاحنة أخرى، وينصحهم أن يفعلوا الشيء ذاته.

تكوّن من جديد

هذه اللحظة التي لا تبدو في غاية الأهميّة، واحدة من أهمّ ضربات الفيلم. إنّها لحظة انكسار حقيقيّة، لحظة مأزق تحاذي الهزيمة. إنّها النقطة التي تضطّرّ فيها كلّ الشخصيّات إلى الخضوع للظرف، التخلّي عن تقسيم الجلوس وفق انتمائها وهوّيّتها، والانخراط في إطار واحد متحرّك.

بدءًا من هذا المشهد، تبدأ الشخصيّات بتذويت معرفة وجوديّة: أنّها واقعة في ورطة، وأنّ هويّتها السابقة لم تعد تحمل أيّ أهميّة داخل هذه الورطة. أنّ هذا الوجود الجديد، وجودها داخل شاحنة الاعتقال، لا بدّ له أن يخلق الآن ماهيّة جديدة لكلّ شخصيّة بتفاعلها الحتميّ مع الآخرين. من هنا وصاعدًا، تسمح الشخصيّات لنفسها بالتكوّن من جديد، تتّخذ خيارات جديدة، وتظهر عن نفسها حقائق جديدة (ذاك يعترف أنّه ليس بلطجيًّا، وآخر يعترف أنّ ابنه ينتمي للإخوان). ومن هنا، يبدأ الفيلم طريقه باتّجاه انهيار تامّ للخيارات التقليديّة في ساعة الحاجة إلى اتّخاذ قرار حاسم.

إلى داخل "الوضع"

تحت الإثارة السينمائيّة الخالصة، وتحت التركيب الاجتماعيّ والسياسيّ، نجد في فيلم "اشتباك" طبقة فكريّة أخرى تحمل ملامح وجوديّة حادّة، وتذكّر بأدبيّات وأعمال مهمّة دارت في هذا الفلك الفلسفيّ: تبدأ الشخصيّات، كلّها، حياتها السينمائيّة في اللحظة التي تُدفع فيها، بالقوّة، إلى داخل شاحنة قوى الأمن (الزنزانة)، المعدّة لنقل المعتقلين. يُقذف بالشخصيّات إلى قلب العالم (سارتر، بامتياز) – إلى داخل "الوضع". كلّ شخصيّة عليها أن تدرك أنّ رغباتها ونزعاتها ومبادئها لم تعد ذات أهمّيّة، وأنّ ما يهمّ، في الحقيقة، اتّخاذ القرارات العقلانيّة والأخلاقيّة من أجل التحرّر من هذه الورطة العينيّة.

البدء من لحظة الوقوف

ثمّة تشابه كبير جدًّا بين هذا العمل ومسرحيّة "جلسة سرّيّة" (huis clos) لسارتر، حيث تُدخل ثلاث شخصيّات إلى داخل "وضع" ما، وتضطّرّ إلى التخلّص من ماضيها عبر الاعتراف، في محاولة للبحث عن طريقة للصمود في هذا الوضع/ الجحيم إلى الأبد.

سارتر

واحد من أهمّ "الظروف" في هذه المسرحيّة هو الحرّ الشديد في المكان. وهو، بصراحة، أوّل ما تذكّرته عند المشهد المذكور في "اشتباك". الحرّ في جحيم سارتر، يشبه الحرّ في فيلم "اشتباك"، لأنّه دليل على توقّف الزمن. هذه الصورة غاية في الجمال، لأنّها فوتوغرافيّة ساكنة على الرغم كل ما يحدث فيها: إنّها لحظة واحدة، يتوقّف فيها الوضع في زمن ما كما تتوقّف الشاحنة في نقطة ما. الشاحنة وضع وجوديّ على شارع زمنيّ. والفيلم يفحص، عمليًّا، ما الذي يحدث مع الناس (الذات من خلال الآخرين) في هذه اللحظة.

المشاهد المفصليّة في الفيلم، بعامّة، تحدث عند توقّف الشاحنة (الوضع الوجوديّ) في الطريق (الزمن)، ومن المثير أن تُقرأ هذه التوقّفات باعتبار أنّها "التقاط" للحظات الأوضاع الوجوديّة المتوقّفة في الزمن، تمامًا كما يقدّم سارتر مسرحيّته باعتبارها تبدأ من لحظة وقوف الزمن إلى الأبد

***

بطاقة الفيلم:

اشتباك (2016).

إخراج: محمّد دياب.

روائيّ، 97 دقيقة.

مصر، فرنسا.

بالعربيّة (مترجم للإنجليزيّة).

تدور أحداث الفيلم داخل شاحنة ترحيلات تابعة للشرطة، لا تتجاوز مساحتها 8 أمتار، في أيّام الغليان السياسيّ التي تلت عزل الرئيس المصريّ السابق محمّد مرسي. تتفاعل داخل الشاحنة شخصيّات كثيرة من خلفيّات سياسيّة واجتماعيّة مختلفة، ضمن دراما تتضمّن لحظات من الجنون، والعنف، والرومانسيّة، والكوميديا.

 

ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام.

 
مجد كيّال

 

وُلد في حيفا عام 1990 لعائلة مهجّرة من قرية البروة. درس الفلسفة والعلوم السياسيّة في الجامعة العبريّة في القدس، ويكتب لملحق 'السفير العربيّ' الصادر في بيروت. نشر نصوصًا سياسيّة وأدبيّة وبحثيّة في عدد من الإصدارات والصحف، إضافة إلى مدوّنته الشخصيّة التي يكتبها منذ العام 2010. حصلت روايته الأولى 'مأساة السيّد مطر'، على جائزة مؤسّسة عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ عام 2015.