آخر أيّام المدينة: القاهرة كما لم نرها في السينما

يستدعي فيلم 'آخر أيّام المدينة' (2016) للمخرج المصريّ تامر السعيد الأدبيّات السرديّة عن المدينة العربيّة وتخيّل الفضاء العربيّ في الفنون بعامّة، على اختلاف أساليبها وتقنيّاتها، وتباينها في السياقات التاريخيّة المتلاحقة. من الصعب تلافي هذه الثيمة عند مشاهدة القاهرة التي صُوّرت عامي 2009 و2010 بكاميرا السعيد، إذ جاءت على شكل سرديّة بصريّة مكثّفة، حوّلت المحروسة إلى شخصيّة يركّبها بقسوة وجمال تنوّعها/ عشوائيّتها البشريّة والمعماريّة، فيلخّص على نحو متراكم كلّ ما سبقه من سرد عنها، أو قد نرى المشهد كذلك للإسقاطات السياسيّة - اجتماعيّة التي بمقدورنا أن نحيلها اليوم، لشدّة مأساتنا العربيّة وليس لحكمتنا المفرطة، إلى الفيلم الذي انتهى تصويره ستّة أسابيع قبل ثورة يناير، وعُرض بعدها بستّة أعوام في عشرات المهرجانات العالميّة، باستثناء الدورة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ ودور العرض المصريّة قاطبة.

في 'أخر أيّام المدينة'، تتحدّث مصر عن نفسها بلا شكّ، لكن من دون وقوف أحد من الخلق، إن استدعينا قصيدة حافظ إبراهيم. هي امتداد جروتيسكي  للمسرحيّة الاستعراضيّة  'القاهرة في ألف عام'، التي ألّفها كلّ من عبد الرحمن وشوقي، وكتب أغانيها صلاح جاهين، أواخر الستّينات، وقد تكون الامتداد البانوراميّ الأعنف و الأقرب، لكن الأكثر عضويّة، لقاهرة شاهين في شريطه القصير 'القاهرة منوّرة بأهلها' (1991). إنّها قاهرة مبارك وقاهرة أحلام المصريّين، من ضمنهم خالد (خالد عبد الله) بطل الفيلم، المخرج الشابّ الذي يحاول جاهدًا صناعة فيلم.

مرثيّات

تأخذنا حركة الكاميرا غير الثابتة، وتقطيعات المونتاج سريعة الوتيرة عبر اللقطات المقرّبة (close up)، إلى شخصيّات فيلمه التسجيليّ التي يكشف كلّ منها عن فقدانها: فقدان والدة خالد المريضة (هي والدة مخرج العمل تامر السعيد) لطفلتها في حادث طرق بليبيا، وفقدان المغنّية مريم صالح لوالدها في الحريق الشهير لمسرح بني سويف، وفقدان الفنّانة حنان يوسف لبيتها في الإسكندريّة. غياب الترابط الواضح بين القصص الثلاث يخلق بلبلة ويتحوّل إلى مأزق لنا، مشاهدين متلصّصين، تمامًا كمأزق خالد: هل ثمّة مادّة كافية لفيلم؟

 تتقاطع، سرديًّا، مع هذه المرثيّة الفرديّة للشخصيّات التسجيليّة، مرثيّة عربيّة جامعة أكثر واقعيّة وثباتًا على الشاشة، تشكّلها الصداقات القويّة الثلاث في حياة خالد، المكوّنة من شابّ لبنانيّ وشابّين عراقيّين. ما يجمع هذا الشباب العربيّ مقاهي وسط البلد القاهريّة، وغصّة مشتركة لفقدان مدنهم كما عرفوها مرّة. انسجام اللغة السينمائيّة مع واقعيّة تناول هذه العلاقات جاء على شكل تصوير أكثر ثباتًا وبعدًا (long shots)، مع حضور لخالد داخل هذه اللقطات، وبواسطة الحوارات المباشرة التي أفسدت، قليلًا، أسلوب الشريط الشاعريّ القادر، في كثير من مواقع الفيلم، على خلق الدلالات المركّبة، عبر حركة الكاميرا أو/ و الأجسام، في استغناء كلّيّ، أحيانًا، عن الحوارات المحكيّة.

رمزيّة

من أبلغ هذه المشاهد الرمزيّة في رحلة بحث خالد اللانهائيّة عن شقّة للإيجار في بنايات وسط البلد، مشهد المصعد المتحرّك الذي تملؤه ملصقات دينيّة تدعو إلى الصلاة وارتداء الحجاب، لتبدو هذه الملصقات داخل اللقطة(Frame)  وكأنّها تطارد خالدًا، تمامًا كالمشاهد، بل ازداد المشهد مفارقة عندما تحوّل المصعد إلى شخصيّة ناطقة، حيث يفاجأ خالد بتركيب سمّاعة في المصعد تصدح بالأذان وتُسمع المواعظ الدينيّة.

ومن تلك المشاهد، أيضًا، مشهد موت الأمّ التي تذبل تمامًا، كتشظّي الأملاح داخل إناء فيه وردة واحدة، ملقًى على طاولة إلى جانب سرير الأمّ في المستشفى، حيث يحظى الإناء في اللقطة على أكثر من ثلثي الشاشة، وللمرّة الأولى والوحيدة في الشريط يكافئنا المخرج بلقطة مقرّبة لوجه خالد.

سينما الشعر

أحد نماذج التحديث في التعامل البصريّ مع الحيّز المعماريّ على شاشة السينما المصريّة، يقدّمها السعيد خارجًا عن ثنائيّة استعراض الجمال الكلّيّ، أو التقاط العشوائيّة القبيحة في البناء، من خلال مشهد هدم بناية سكنيّة في حيّ مكتظّ، مزج فيه المخرج بين الخاصّيّتين (motifs) على وقع صوت المطربة نور الهدى، في أداء (سولو) نادر لها لـ 'جارة الوادي'، أقرب إلى أن يكون ترتيلة مقدّسة، مستعرضًا فيه، على نحو ممغنط، ما يمكننا أن نسمّيه 'جماليّات الهدم'، مثيرًا لدينا أسئلة وبلبلة حول ماهيّة الجمال وماهيّة البناء/ المعمار، تمامًا كما هو مستحبّ من السينما وسيطًا بصريًّا قادرًا على استبدال اللفظ بالصورة وإثارة التحدّيات الحسّيّة والعقليّة لدى المشاهد، إذ لا ريب في اقتراب السعيد، في بعض مواقع الشريط، من السرد الصوريّ، الذي بالإمكان إدراجه تحت خانة ما يُعرف بـ 'سينما الشعر'.

لا يقدّم السعيد في هذا الشريط سرديّة تقليديّة، إذ تدور الأحداث بشكل دائريّ تصاعديّ من دون حلّ كلّيّ (كاثارازس) في الأفق؛ فلا قصّة حبّ البطل تنتهي بنصر عظيم، كما لا ينجز خالد الفيلم الذي في مخيّلته، لكن بالإمكان استنشاق رائحة مدينة في آخر أيّامها قبل زلزال مقبل، تمامًا كانعكاسها الرمليّ المقلوب على العدسة المعلّقة في شرفة بيت خالد البانوراميّة.

بُلينا بالنسيان

إن صنّفنا الشريط بحثيًّا، فلا شكّ في أنّه ينتمي إلى الأفلام المتموقعة على تخوم التأريخ لراهن عربيّ صعب، وفي الآن ذاته يشكّل وثيقة استشراف لما هو مقبل من دون ادّعاء ذلك، مكمّلًا للحراك السينمائيّ المستقلّ الذي بدأ عشيّة ثورة يناير، في أفلام صُوّرت في تلك السنوات ('ميكروفون' لأحمد عبدالله مثلًا)، وللسرديّات الفرديّة المختلفة فنّيًّا، مقابل سرديّة النظام الساعية بدأب إلى احتواء النفس المعارض في الأفلام، وإن كانت ثمّة طفرات في سنوات نظام مبارك الأخيرة ('هي فوضى' ليوسف شاهين وخالد يوسف).

وممّا يجعل بعض أحداث الشريط حابسة للأنفاس، التقاط السعيد بعدسة سينمائيّة لحظات تاريخيّة دالّة، كمظاهرات حركة كفاية المعارضة لتوريث جمال مبارك، أو متابعة الجموع للمباراة الكرويّة سيّئة الذكر بين الجزائر ومصر، أو هتافات 'يسقط حكم العسكر' التي تثير البلبلة لدى متابع الشأن المصريّ، الذي يخالها صُوّرت بعد ثورة يناير، وقد ينسى أنّ الهتافات ذاتها  كانت موجودة قبل خلع مبارك، وكأنّ مخرج العمل يذكّرنا أنّنا بلينا بالنسيان، مثل أيقونة الإذاعة المصريّة، أبلة فضيلة، التي ظهرت في الشريط؛ سيّدة تقدّم بها العمر، ترتدي الباروكة ونظّارات سميكة تغطّي تجاعيد عينيها المكحّلتين، لا زالت رقيقة الصوت وعذبة الألفاظ، لكنّها فاقدة للذكريات، تمامًا كالمدينة التي اندثر ماضيها في آخر أيّامها.

***

بطاقة الفيلم:

آخر أيّام المدينة (2016).

إخراج: تامر السعيد.

روائيّ، 118 دقيقة.

مصر، ألمانيا، المملكة المتّحدة، الإمارات العربيّة المتّحدة.

بالعربيّة (مترجم للإنجليزيّة).

باشتراك: خالد عبد الله، وليلى سامي، وحنان يوسف.

مركز مدينة القاهرة، 2009. خالد، مخرج في الـ 35 من عمره، يكافح لصناعة فيلم يلتقط روح مدينته، خلال مواجهة تكبّده خسائر في حياته الخاصّة. بمساعدة أصدقائه الذي يرسلون له تسجيلات من حيواتهم في بيروت، وبغداد، وبرلين، يستمدّ القوّة التي تدفعه إلى مواصلة خوض صعوبات الحياة وجمالها في آخر أيّام المدينة.

 

ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام.

 

صالح ذبّاح

 

 

باحث سينمائيّ وصحافيّ ثقافيّ، يكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة. يهتمّ بالسينما والدراما والموسيقى العربيّة، وتقاطعات السياق السياسيّ مع التعبير الصوريّ. معدّ ومقدّم برنامج 'كلاكيت فلسطين' على التلفزيون العربيّ.