"روشميا": تسقط الحداثة!

آمنة ويوسف

يوسف حسّان رجل في الثمانين من عمره، يعيش مع زوجته آمنة في وادي روشميا قرب حيفا. الحاجّ يوسف حيفاويّ الأصل، من حيّ وادي الصليب، تعرّضت عائلته للتهجير في النكبة، وانتهى به الأمر للعيش مع زوجته الثالثة، آمنة، في بيت من الصفيح في وادي روشميا.

يعيش الزوجان ببساطة شديدة، فنراهما يشربان القهوة، ويلفّان التبغ، ويدخّنان... يروّحان عن نفسيهما والتجاعيد قد ملأت وجهيهما. يعيشان مع صمت الأشياء، إذ ما من ماء، أو كهرباء، أو حتّى قنّ للدجاج، أو بعض خراف، ثمّة التربة وبعض شجر الليمون والتين فقط.

يتأجّج المشهد في فيلم 'روشميا' (2015) الوثائقيّ للمخرج سليم أبو جيل، حين يظهر بيت الصفيح أسفل الوادي، بينما تعلو الجبل المقابل أبنية المدينة؛ بيت بعيد عن مقوّمات الحياة العصريّة، بيت لا يمتّ للحداثة بصلة. هذه أسباب مقنعة لدولة لا يهمّها سوى التغوّل في إنشاء بنيتها التحتيّة وتحسينها، فتقترح تعويض يوسف وآمنة بمبلغ 80 ألف دولار لقاء رحيلهم من الوادي، فما بالك إذا كانت هذه الدولة فوق كلّ ذلك دولة احتلال قائمة على فكرة إلغاء الآخر؟

مش حرام تموت؟

'أنا هيك مبسوط، مكيّف ! لا بدّي دار ولا بدّي مصاري!' هكذا يردّ يوسف على قرار الترحيل. يوسف لا يملك ورثة، ولا أولادًا، ولا في قرية ضمن تجمّع إنسانيّ طبيعيّ حتّى، لكنّه يملك بعض التراب والشجرات، قضى معها 52 سنة من عمره. في أحد المشاهد، حين نرى يوسف يعتني بالشجرات، ينتبه إلى جذع ليمون ميّت انفصل عن بقيّة الشجرة، فكانت ردّة فعله أن ذرف دمعًا وقال: 'مش حرام تموت هاي الليمونة، لازم يدفنوني معها.'

المخرج سليم أبو جبل

من هذا المشهد البسيط تحديدًا فهمت كلّ شيء، وتذكّرت تماهي الشاعر طه محمّد علي مع اليمامة التي كانت جزءًا من محيط بيته في صفّورية، اليمامة التي حزنت على فقد المكان وأصبحت جزءًا منه، لكنّها رحلت: 'عندما يرحل أحبّاؤنا كما رحلت تبدأ في داخلنا هجرة لا تنتهي، ويحيا معنا يقين بأنّ كلّ ما هو جميل فينا ومن حولنا، يرحل، يغادر، يبتعد ولا يعود'.

قد يرتبط أقصى فهم للأرض لدينا، نحن أبناء جيل النكبة الثالث، بقصص سمعناها من أجدادنا عن حاكورة خصبة بالأشجار المثمرة، والدوابّ التي تربّت في القرية. لم يفلح الكثير منّا الأرض، وربّما لا نعرف، نحن أبناء الحداثة، مهما قُربّت لنا الصورة، المعنى الحقيقيّ للارتباط بالأرض وتفاصيلها. مهما كتبت من كلمات هنا، ربّما لن أفهم ماهيّة عمق هذا الارتباط كما فهمه يوسف، وكأنّ الروح متعلّقة بالأرض فعلًا، وربّما لنفس السبب كانت جدّتي تغضب أيّامًا طويلة إذا قطعنا، نحن الأحفاد الأشقياء، جذعًا جافًّا من شجرة الحديقة.

يجلس يوسف على كرسيّ أمام بيت الصفيح بصمت طويل، وتمرّ شاحنات الدولة بالقرب من الوادي تحمل الموادّ اللازمة للبناء. وبعد فترة طويلة من التأمّل، تسيل دمعة على تضاريس وجهه الجاعدة. نعم، رجل عمره أكبر من أبنية المدينة المحاذية للوادي، أكبر من دولة الاحتلال نفسها، يبكي. هذا مشهد حقيقيّ، تخاله سرياليًّا لفرط صدقه، يدهشك أنّه حدث. نعم، لقد بكى يوسف، بكى وهو في الثمانين من عمره!

تسقط الحداثة

عندما تزول الطبقات المتراكمة التي زيّفت فهمنا لمعنى الحياة، تبقى المادّة الخام القادرة على إعادة الوضوح لمعنى الوجود الإنسانيّ الحقيقيّ: الأرض.

بيت الصفيح في وادي روشميا

في روشميا، تسقط فكرة المدينة، بل تسقط فكرة القرية، يسقط التحضّر، تسقط الحداثة، تسقط حتّى فكرة الناس، وتبقى الأرض السؤال الوحيد الذي يشكّل المفارقة في وعي كلّ من يوسف وآمنة حول استمرار وجودهما، فقد يرفض يوسف الرحيل: 'أنا لو طلعت من هون يوم واحد بصمدش، يا يوم أو يومين... بس إنتي لأ، بتعيشي بتعيشي.'

أمّا آمنة، فمع مرور الوقت تتقبّل فكرة الرحيل، وحتّى ترك زوجها، 'أنا بدّي أعيش!' إنّ قبولها الرحيل والبحث عن 'قرية' تستطيع أن تكسب مصدر رزق فيها، وتعيش مع ناسها، أصبح 'حداثة' متقدّمة مقارنة مع بدائيّة الحياة التي يعيشها يوسف.

يرفض يوسف الحداثة فعلًا، في مستوياتها كافّة، فبيته الصفيح، مثلًا، غير موصل بالكهرباء، وعند سؤاله إذا كان يحبّ التلفاز أو الراديو، يجيب: الراديو. يحبّ يوسف الراديو بما يحمله من أخبار، راديو لا تتعلّق به، فإذا كانت أخباره سعيدة فليكن، وإذا كانت حزينة فإنّك لا تكترث وتستمرّ في الحياة، هكذا، بعشوائيّة الحياة، يستمرّ يوسف مثل بيت الصفيح، ببساطته، بعدميّته، بهشاشته التي تمكّن جرّافة صغيرة من أن تهدمه بسهولة، ومع كلّ هذه الهشاشة فهو صامد!

ملل

يغيب الكلام عن بيت يوسف وآمنة، تاركًا للصمت دوره في صياغة معاني الوجود. يجلس الزوجان بصمت بعد أن انتهى يوسف من تقشير البرتقال، يأكلانه، ثمّ تصدر آمنة أصوات تمتمة، كأنّها تقول: ''لماذا حدث ذلك معنا؟ لماذا يجب أن نُشرّد من أرضنا؟' فيردّ عليها يوسف بالتمتمة أيضًا، ولعلّها أفضل مرّة يفهم كلّ منهما فيها ما يريد الآخر أن يقوله.

'بسّ إنتي بتعيشي بتعيشي،' يكرّر يوسف لآمنة قوله بعد الصمت الطويل والملل الوجوديّ، الذي ينعكس في العلاقات الإنسانيّة بينهما. ببساطة، لا يوجد لآمنة سوى يوسف لتقضي وقتها، فنراها أحيانًا تنتقد أصغر التفاصيل، أو بالأحرى 'تقاتل الدبّان الأحمر،' فتسأله: 'لمين بتقشّر برتقان؟'

تدور في محيطها، فتحمل فرشاة الدهان وتسأل أين يجب وضعها، وعندما يحاول زوجها أن يكسر جذع الخشب بالحجر، ثمّ بيده، تنتقده وتطلب منه أن يرميه في النار. تتحدّث آمنة بلهجة فلّاحيّة ثقيلة، أصبح نادرًا أن نسمعها، وتتبادل السباب مع زوجها، تضع السيجارة على فمها وكأنّها تريد التنفيس عن نفسها، لكنّها تبعدها ثمّ ترجعها إلى فمهما في مشهد طريف يعكس بساطة الحياة.

قسوة

ربّما يكون روشميا من الأفلام النادرة التي يقدّم الواقع الأحداث بأسلوب مدهش فيه، تعجز عنه أيّ تراجيديا ممثّلة بإتقان، إذ يلتقط سليم أبو جيل مشاهد المكان والشخصيّات في إطار زمنيّ طويل، تنتج عنه مواقف طريفة، وسرديّات حقيقيّة تروي الحكاية بنفسها.

 قد يكون الواقع أحيانًا، بقسوته، أفضل تعبير فنّيّ، إذ لم أتخيّل قطّ أن يغادر الزوجان بيتهما في الوادي، وأن تخالف الزوجة زوجها وتطالبه بالطلاق وتقتنع بالرحيل، وأن تأتي الجرّافات وتهدم بيت الصفيح فعلًا، أمام عيني يوسف. قسوة مدهشة تجعلها كثافتها فنًّا، كما تجعل الفيلم نموذجًا مهمًّا لإعادة الشفافية للفيلم الوثائقيّ.   

***

بطاقة الفيلم:

روشميا (2015).

إخراج: سليم أبو جبل.

وثائقي، 70 دقيقة.

فلسطين، قطر، لبنان، الإمارات.

بالعربيّة (مترجم للإنجليزيّة).

زوجان عجوزان في مواجهتهم الأخيرة أمام السلطات الإسرائيليّة للحفاظ على نمط حياتهم في روشميا، آخر وادٍ طبيعيّ في حيفا.

 

ريم شريّدة

 

من مواليد القدس، خرّيجة الأدب الإنجليزيّ في جامعة بير زيت. عضو في شبكة المبدعين الثقافيّيين CIN، التي تجمع الشباب الناشط في المجال الثقافيّ من أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ممّن يرغبون في المشاركة بأفكارهم الإبداعيّة في عمليّة التحوّلات الاجتماعيّة لتحقيق مستقبل أفضل لبلادهمتهتمّ بالمشهد الثقافيّ الفلسطينيّ، وتحديدًا الأدب.