"عايدة": فانتازيا البشاعة

من فيلم "عايدة" لميسون المصري

 

عايدة، بائعة ورد مسنّة تعيش في الإسكندريّة، ضمن مسار زمنيّ ومكانيّ متكرّر؛ تخرج صباحًا تجرّ كرسيًّا بعجلات تعينها على الوصول إلى محيطها التجاريّ، فالكرسيّ تُقِلّ وردها الذي تقتات منه. هذا المسار المتكرّر لا يحمل أيّ سمة أسطوريّة، أو حتّى إسقاطات فلسفيّة عميقة، كلّ ما في الأمر أنّ عايدة الوحيدة تخرج من بيتها كلّ يوم، بخطى متعثّرة، لتأخذ حصّتها من الهواء والماء والسجائر، وعليها أن تواصل طريقها جيئة وذهابًا لتحافظ على الحيّز الرابض بين الحدّين، الذي يشكّل كلّ حياتها.

متعَبة ومتعِبة

تظهِر المخرجة ميسون المصري، في فيلمها التسجيليّ القصير المنتج عام 2015، إصرار هذه الطبقة على العيش بالطريقة المثلى، الطبقة التي تناور من أجل إيجاد مهبط قدم في السوق التي تنبح فيها منبّهات السيّارات على بعضها، في معركة ضارية مع الوقت، بينما تتجوّل عايدة بشيء من الثقة والتسليم، ببطء يوفّر لها من جهة، ولنا من جهة أخرى، مساحة للتأمّل، تأمّل المدن المتعَبة والمتعِبة، وتأمّل حيوات الناس على اختلافها فيها، وتأمّل مسافات الأمان الطويلة الغائبة بين السيّارات، والحاضرة بين الطبقات في ما يُسمّى "العالم الثالث"، الذي تُعَدّ مصر إحدى خُلاصاته المكثّفة.

 

Aida (2015) - Trailer from Rufy's Films on Vimeo.

 

يبدأ الفيلم بمشهد من خارج إطار الزمان والمكان، مشهد من فيلم مصريّ قديم يظهر فيه شابّ مسحوق، يحاول التخلّص من عبء علاقته العاطفيّة بفتاة من الطبقة العليا، هربت حديثًا من حفلة عيد ميلاد أبيها المشبعة بالموسيقى والأثواب الفارهة، لتقابله مبرهنة قوّة الحب وحاجتها إلى بقائه، بينما يحاول هو إقناعها بأنّ كلّ شيء انتهى لأنّه لن يتمكّن من إكمال دراسته والتقدّم لطلب يدها. وفي هذا المقام، يمكن تبيّن السعي الدائم للطبقة المسحوقة نحو الفكاك من طوق الطبقة العليا، والانطواء على الذات المتأتّي من التسليم بالأمر الواقع، من دون الاستسلام، وهذا ما ظلّت تفعله عايدة على مدار [50] عامًا، حتّى عرفتها الإسكندريّة كلّها؛ فهي وفق الفيلم، تعتمد على نفسها في شراء الورد وبيعه، وفي صعود المترو والنزول منه، وحتّى في الجلوس على طاولة مقهى شعبيّ لشرب الشاي، إلّا أنّها تعتمد على الآخرين في عدّ نقودها، وتحويلها من المعدن إلى الورق، وهذا الزهد برهان كبير على فهم الواقع وعدم الرغبة في دخول الصراع بقرون من ورد!

تنافر... طبيعيّ

ولكن كيف تمكّنت ميسون المصري من إدخال الفانتازيا إلى فيلم تسجيليّ، من أهمّ شروطه نقل الواقع كما هو؟

اعتمد الفيلم في مجمله على الحقيقة، وقدّمها كما ينبغي، من دون قفز عن أيّ عنصر من العناصر الأساسيّة لحياة السيّدة عايدة، ولا تحييد لقبيح ولا ترويج لجميل، وهذا إتمام لشروط العمل التسجيليّ المعروفة؛ ففي المشاهد التي لا يمكن للمتلقّي أن يتخيّلها من دون موسيقى، استعملت المصري منبّهات السيّارات مرّة، وصوت الهواء القادم من خلال الشبّاك مرّة أخرى، وأصوات التلفاز مرّة ثالثة، وكلّ هذا لم يُخِلّ بالشروط، فكلّها أصوات طبيعيّة (Natural Sounds).

 

 

كما أنّ التلفاز الحديث الذي استورده الفيلم ليجلس في بهو عايدة المتهالك، كان واضحًا في موقفه، يتصرّف كدخيل على المشهد، لأنّه ينقل حياة دخيلة على واقع السيّدة. كان التلفاز يؤدّي مهمّته وهو يدرك ثقله على الحالة، هكذا كان يتصرّف، ففي الوقت الذي كانت تستعدّ للخروج في رحلتها اليوميّة صباحًا، كان يبثّ حفلة عيد ميلاد منتصف الليل، وفي الوقت الذي كانت عايدة تغطّي شعرها بشالها، كانت الفتاة تركض متسلّلة من الحفلة بفستان السهرة. هذا التنافر الطبيعيّ تموضع في الفيلم الممتدّ على أقلّ من [20] دقيقة، بشكل غير طبيعيّ، أي أنّ الفيلم تمكّن من طرح العاديّ بشكل متفوّق وغريب.

تنقّل الكاميرا في المنطقة بين الكتف والقدمين كان موفّقًا، وكان متّصلًا أيّما اتّصال برصد الموقف قبل رصد الصورة؛ ففي الوقت الذي تتولّى عايدة بطولة المشهد، يبدأ الأخير من القدمين الثابتتين، على الرغم من ضعفهما، ويصعد حتّى يبلغ أدقّ تفاصيل وجهها؛ أمّا عندما يتولّى البطولة طرف آخر، فكان التقاط المشهد off shoulder ، ليظهر انحناء الكتف الحقيقيّ.

أين صوت عايدة؟

في الفيلم الذي استغرق تصويره [4] أيّام، على فترات متقطّعة، كان غياب صوت عايدة وحضوره لافتًا، فهي تكلّمت طوال الفيلم، إلّا أنّنا لم نتمكّن من سماع تهدّجاتها، فالفوضى العارمة تسيّدت كلّ المشاهد، وعلا صوتها على كلّ الأشياء.

 

 

سيبدو هذا امتيازًا إذا تعاملنا مع العمل من ناحية شعريّة، وحيّدنا وظيفته الأساسيّة التي أدّاها في الدقائق الأولى، إلّا أنّ الأمر سيبدو خللًا إذا فكّرنا بشكل كلاسيكيّ، لأنّنا سنصطدم بسؤال عاديّ: لماذا لم ينقل فيلم عايدة صوتها؟

 

سلطان القيسي

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ من قضاء يافا، من مواليد الثمانينات، يحمل الجنسيّة الأردنيّة ويقيم في عمّان، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ "بائع النبيّ" عن دار موزاييك - عمّان، و'أؤجّل موتي' عن دار فضاءات - عمّان، وترجمة 'الوطن - سيرة آل أوباما' لجورج أوباما، الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، عن مؤسّسة العبيكان، الرياض.

 

 

 

تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2018.