آخر الرجال في حلب: كرسي غير مريحة في مسرح الميدان

من فيلم "آخر الرجال في حلب"

 

لا عليك. ليس عليك فعل الكثير. أنزل هذه الكرسيّ غير المريحة واجلس عليها. خذ الوضعيّة التي تريدها. تفرّج وأنت صامت. لا تنس إغلاق هاتفك النقّال كما طلبوا منك قبل قليل على شاشة العرض... هشششش. لقد بدأ العرض.

ها هي حلب أمامك. الخراب الذي يضيء وجوه المشاهدين الكرام، حلب التي تراها في غبار إضاءة الشاشة. ارفع رأسك قليلًا، الرؤوس مرفوعة أمامك. الجميع في الشاشة ينظرون إلى الأعلى، يلاحقون الطائرات الروسيّة الجميلة بعيونهم المتعبة. ها هي طائرة أخرى ترمي حمولتها. أطنان من الحلوى والمتفجّرات. هل تريدون المزيد من الحرّيّة؟ لدينا كلّ أنواع الحرّيّة التي تحبّون؛ الرصاص والقذائف والطائرات والصواريخ والمدفعيّات. لدينا براميل متفجّرة أيضًا. لدينا كلّ شيء. هل أخذ الجميع حصّته من الحرّيّة؟ هل بقي أحد لم يأخذ حرّيّته بعد؟

خذ هذه الأصابع، ضعها في الكيس الذي بيدك. وهذه الرجْلَ أيضًا، ضعها مع الأصابع، ربّما يظهر صاحبها في يوم ما. وخذ هذا الطفل وضعه في الكيس الأسود.

"عايش يا شباب... عايش"

الدخان يتصاعد من الشمال، يصعد خالد ومحمود سيّارة الدفاع المدنيّ ويذهبون إلى مكان الغارة، والسوخوي تحلّق بعيدًا.

قطّة بقدمين مقطوعتين تحاول سحب جسدها، صراخ وبكاء وأصوات انفجارات وإسعاف، ساعة ونصف من اللهاث المتواصل. الطائرات تقترب مجدّدًا، الطائرات تبتعد. أنقاض أنقاض أنقاض. كلّ شيء تحوّل إلى أنقاض، وهناك جثث تحت الأنقاض... هل هناك أحد على قيد الحياة؟ هيييييه... هل هناك أحد يسمعنا؟

لا يكاد الحزن يتحوّل إلى لحظة مفرحة مع اكتشاف رضيع حيّ تحت الأنقاض. هذا هو عملهم: البحث عن نَفَسٍ يمكن سماعه تحت الأنقاض: "هششش يا شباب... نريد أن نسمع"، حتّى يصيح أحدهم "عايش يا شباب عايش".

يحكي فيلم "آخر الرجل في حلب" (2017)، قصّة الشابّين خالد ومحمود، اللذين كانا يعيشان في حلب ويتطوّعان في الدفاع المدنيّ (الخوذ البيضاء) أثناء حصار المدينة من قبل قوّات النظام، ويركّز في جانب كبير منه على الجانب الإنسانيّ من حياتهم، كما رصد تحرّكاتهم اليوميّة، وواقعهم، وتناقضاتهم، ودخل في تفاصيل حياتهم الشخصيّة، مع الجيران وعائلاتهم وأطفالهم، يرقصون ويغنّون ويبكون، وذلك على عكس فيلم "الخوذ البيضاء" الفائز بجائزة "الأوسكار" لأفضل وثائقيّ قصير، الذي تناول عمل المتطوّعين في الدفاع المدنيّ.

ما الذي حدث في حلب؟ كلّنا نعرف ما الذي حدث في حلب!

الوثائقيّ الذي ترشّح لجائزة "الأوسكار"، والحائز على عدّة جوائز عالميّة، طالته هجمات كثيرة، كانت أهمّها الحملات التي شنّتها وسائل إعلام روسيّة عليه وعلى صنّاعه، إذ وصفت الفيلم بأنّه "قطعة دعائيّة تموّلها الحكومات الغربيّة"، وأنّه فيلم "يروّج للإرهاب"، وغيرها الكثير من التهم التي تصيبك بالذعر وأنت تشاهد الفيلم.

"خالد ومحمود يروّجان للإرهاب". إنّهم لم يكونوا يعرفون ما الذي يفعلونه على وجه التحديد. فقط يسمعون الانفجار ويهرعون لإنقاذ مَنْ يمكن إنقاذه، وهم الذين عُرفوا بأنّهم "قبضايات الحارة"، قبل ضمّهم إلى الدفاع المدنيّ السوريّ، ثمّ سمّوا بعد ذلك بـ "الخوذ البيضاء".

لم يتناول الفيلم ما يجري من الناحية السياسيّة، إذ تمسّك مخرج الفيلم، فراس فيّاض، بإظهار التفاصيل الإنسانيّة في هذا المكان من العالم، وهي الفكرة التي بدأ منها الفيلم، كما صرّح في مقابلات صحافيّة. أبطال الفيلم ليسوا منشغلين بالسياسة، هم يعالجون الجرحى فقط. ومع تأسيس الدفاع المدنيّ السوريّ في حلب عام 2013، وضمّ المتطوّعين إلى صفوفه، تطوّرت الفكرة، في ظلّ بدء النظام قصف أحياء حلب المحاصرة بالبراميل المتفجّرة.

لم تكن الحدود واضحة بين الألم والفرح. ما يفرحك الآن قد يحزنك بعد قليل. صراخ الناس بعد إخراج طفل حيّ من تحت الأنقاض، وصراخ لا ينتهي بعد إخراج 10 جثث.

"خيّو... بس تخلص هالحرب بدنا نفتح بسطة سمك..."

طوال ساعة ونصف، كانت لحظات الفرح مسروقة، مستمدّة من زمن آخر، من ذاكرة ما، تسمعها في جلسة عَتابا وميجَنا بين المتطوّعين، تراها في حركة الأسماك الملوّنة داخل حوض بناه خالد من أنقاض البيوت، وفي جسد خالد الضخم وهو يتزحلق مع الأطفال الصغار في الحديقة قبل أن تطلّ الطائرات الروسيّة في السماء ويهرب الجميع، ليتحوّل هذا المكان الجميل إلى حديقة أشباح بعد وصول الطائرات.

ربّما كان أكثر المشاهد حزنًا في الفيلم لحظة موت خالد. لقد أخرجوه من تحت الأنقاض أيضًا، تمامًا كما كان يفعل، لا بدّ أنّهم رفعوا حجرًا وصرخوا من تحته: "هيييه... هل هناك أحد يسمعنا؟" كان خالد الذي يسأل هذا السؤال دائمًا، لكن هذه المرّة، لم يستجب لأحد منهم.

انتهى الفيلم. مات نصف طاقم العمل أثناء التصوير، أمّا الآن... فتستطيعون الخروج من المسرح، لكن حاذروا أن ترفعوا رؤوسكم وأنتم ذاهبون إلى المنزل أو المطعم أو البار. كما تعلمون... إنّها حيفا الجميلة. من يرفع رأسه سيدعس في خراء الكلاب على أحد الأرصفة.

الفيلم يروّج للإرهاب والقاعدة. طبعًا طبعًا. وهذه الطائرات تروّج للسلام والجمال. هذا أمر معروف ولا شكّ فيه على الإطلاق، لكن ثمّة أمر بسيط ربّما نسيناه في هذه الرحلة التي لا تنتهي، كيف تحوّلت سورية في سبع سنوات إلى مجرّد أمر عاديّ في نشرات الأخبار والأشرطة العاجلة. كيف فقدنا إنسانيّتنا بهذه البساطة دون أن ننتبه؟ كيف تساوى هذا الخراب مع الجلوس على كرسيّ غير مريحة في مسرح الميدان؟ كيف؟

هل تذكرون الرجْلَ التي وضعناها في الكيس مع الأصابع في البداية؟ هل تذكرونها؟ ظهر صاحبها في النهاية، إنّه حيّ في المستشفى ويبحث عنها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نوّاف رضوان

 

شاعر ومحرّر. درس اللغة العربيّة وآدابها في الجامعة الأردنيّة. يعمل محرّرًا في موقع عرب 48. صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان 'الصلاة الأخيرة على بوّابة الكنيسة' (2013). مهتمّ بالتصوير والسينما.

 

 

 

تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2018.