"إسعاف": مَنْ يُسعف المنازل حين تُجرح؟

من فيلم "إسعاف" لمحمّد الجبالي

 

الحرب من داخل سيّارة الإسعاف، ما صوّره فيلم "إسعاف"، وهو الفيلم الخامس للمخرج محمّد الجبالي، إلى جانب "أرى ما لا أريد"، و"ضوضاء غزّة"، و"Gaza Skate Team"، و"دبّوس"، وهو من إنتاج فلسطينيّ نرويجيّ. كان العرض الأوّل للفيلم في حزيران (يونيو) 2016، ضمن "مهرجان شفيلد الدوليّ للأفلام الوثائقيّة"، في المملكة المتّحدة، وعُرض في العديد من المهرجانات الدوليّة، وحصد العديد من الجوائز، منها: "طائر الشمس" (2016)، و"One World Media" (2017)، و"جائزة بي بي سي عربيّ للصحفايّين الشباب" (2017).

 

أن تستيقظ وتجد الحرب تدقّ بابك

تقصف الطائرة، تهرع إلى النافذة، كما يندلق العَمَه إلى الشوارع، ويكون له صورة الناس، الدخان يتصاعد، بينما المنازل تهرب في دواخلها؛ ويكون الركام. تصرخ أمّك: "ابتعد عن الشرفة؛ فربّما تقع ضربة أخرى"، وفي الأسفل ينادي رجل الإطفاء: "أي أنصتوا"؛ حتّى نرى الصرخات، وهي تمدّ يديها من تحت الأنقاض، تخرج الجثّة، بكامل هيئتها، وهناك مَنْ يبكي، وآخر يكبّر، والاثنان سيّان. وفي الخلفيّة - من المشهد الأوّل - سيّارة الإسعاف تعوي: "يويويويويو..."، وتبرق السماء: "بووووووم"، ثمّ عتمة.

 

 

يسرد الفيلم الوثائقيّ "إسعاف"، يوميّات حرب غزّة 2014، بعيون طواقم الإسعاف، من داخل المستشفى وخارجه؛ فمحمّد الجبالي حين رأى الحرب، أصرّ على أن يلتقط "بورتريه" لها، وإن بدت المدّة 80 دقيقة، إلّا أنّها أطول من ذلك، أكثر ممّا تحتمله كاميرا، أو شاشة عرض.

وما يلفت الانتباه في "إسعاف"، أنّه يشتبك مع الأحداث والمشاهد من نقطة صفر؛ فيقدّم الحقيقة بكامل طزاجتها، بلا تدخّل منه؛ الخوف عينه، والدم هو الدم، وكذلك الأشلاء، دون تجميل المَشاهد؛ وهو ما حاولته أدبيّات حرب أخرى، مثل فيلم "الجمعة السوداء" ليوسف النتيل، والمجموعة القصصيّة "غزّة اليتيمة" لمحمود جودة، و"في الحرب... بعيدًا عن الحرب" لخالد جمعة، و"الزنّانة تأكل معي" لعاطف أبو سيف، وغيرها من السرديّات، عن حرب غزّة الأخيرة.

والمهمّ أنّ "إسعاف" لا يعطيك فكرته أو تغطيته عن الناس والأحداث؛ إذ إنّه بلا ترتيب أو إخراج؛ بمعنًى آخر أنّه صُوّر، بلا أن يكون فيلمًا، ولم يكن يعرف صاحبه أنّه سيكون كذلك؛ إذ إنّه - كما يقول - كان يفكّر في التوقّف بعد كلّ لقطة، تضاف إلى كاميرته/ ذاكرته.

 

 

نهاية الفيلم تشير إلى وجود قصص أخرى، بجانب ما وثّقه محمّد، لكن لم يُكتب لها أن تستمرّ؛ بسبب استهداف المصوّر/ الصحافيّ وكاميراه، مثلما ورد في الفيلم موت رامي، الصحافيّ، وأبو حمزة، المسعف، اللذين كانا في الميدان نفسه.

 

حين لا تُعَدّ الشجاعة بطولة

ثمّة العديد من القصص الّتي لا تهتمّ بها الكاميرات في الحروب والكوارث، بداعي أنّه من المخجل الالتفات إليها، في ظلّ كلّ الموت الّذي يتساقط؛ إذ يُعَدّ طبيعيًّا أن يصاب الصحافيّ أو المُسعِف في غزّة، لكنّ قصّةً مثل قصّة أبو مرزوق، قائد طاقم الإسعاف، بشخصه ورمزيّته، تخبر كيف تصير الشجاعة اعتيادَ مهنة، وكيف يتعامل بصمته مع كلّ الهول، داخل الإسعاف وخارجه، وحتّى حين يصاب في إحدى مهمّات الإنقاذ؛ فهو لا يكترث، وينهض ضاحكًا ليكمل عمله، ولا يستغرب أن يحتاج المُسعف إلى مَنْ يسعفه، وكذلك حين يعلّق على مشهد نزوح الناس إلى "مستشفى الشفاء" - المكان الآمن في الحرب - من حيّ الشجاعيّة: "المُصاب عَ الشفا، والمش مُصاب عَ الشفا"، بهذه السخرية البسيطة، بعيدًا عن كلّ "الكليشيهات".

ويصوّر الفيلم كيف يصير الإنسان العاديّ مسعفًا ورجل إطفاء في الحرب، أو كما يقول الشاعر ناصر رباح: "لستُ جنديًّا، ولكنّي رأيتُني في الحرب بسُترة عسكريّة حين أشتري الخبز".

 

 

والفيلم لا يريد أن يجعل الناس أبطالًا، بل يخبر عن حيواتهم ومآسيهم، وكيف تخبزهم الحرب، سواء من نجا أو لقي حتفه؛ فعندما يسأل الجبالي الطفل عن بيتهم الّذي لم يَسْلم: "هادي غرفتكم؟"، يردّ بوعيه، بينما تشغله سلامة ملابس العيد، الّذي لن يراه: "كانت غرفتنا".

وكما تذهب الكاميرا - كأنّ المُشاهد مَنْ يحملها - إلى الركام والمستشفى، وتطلّ برأسها من سيّارة الإسعاف على النازحين في الشوارع، وما تبقّى من بيوت، و"هستيريا" الناجين، كالحاجّة الّتي تستغيث بالكاميرا: "هدّوا الدار علينا يمّا... هدّوا الدار علينا يمّا..."، تأخذنا إلى مأساة معبر رفح، وتسجّل سخط الهاربين من الموت، الّذين وجدوا البوّابة مغلقة - ومنهم المصريّون أصلًا - حتّى في الحرب.

 

للإسعاف ذاكرة أيضًا

"الوقت كان بمشي، بسرعة سيّارة الإسعاف"، مع ذلك لا ينسى الإسعاف ما حدث، ووجوه مَنْ نقلهم، وخوف طاقم الإسعاف، فهو لا يعود إسعافًا عاديًّا، ولا سيّما بعد أن أُصيب هو الآخر؛ ففي المشهد الأوّل يظهر متماسكًا ومتحمّسًا لدوره - كما كان مصوّر الفيلم - لكنّه يبدأ في التهالك، ويتكسّر زجاجه، ككلّ العيون الّتي نقلها.

والإسعاف في الحرب، أكثر من مجرّد ناقل مصابين؛ فهو يركض بلا توقّف، ويصير مَركبة تقلّ النازحين من بيوتهم - بلغ عددهم 500 ألف مواطن؛ أي رُبع سكّان القطاع - لأنّ كلّ ما يتحرّك يُعَدّ هدفًا للطائرات، حتّى الإسعاف نفسه. وحتّى حين يكون الإسعاف خاليًا تبقى الخيالات تتحرّك فيه، وداخل المُسعفين. هذا ما صوّره الفيلم، من حجم التضحية الّتي تقدّمها الطواقم الطبّيّة في الحرب.

 

 

الموت الّذي يحصد كلّ شيء، الخوف حين يأخذ بهيئة الناس، المُسعف/ الصحافيّ حين يخرج غير متأكّد من عودته، كذبة اتّصالات التحذير الّتي يدّعيها جيش الاحتلال، "تراجيديا" الحرب الّتي لا تُرى على شاشات التلفزيون، غُرف العمليّات، الإسعاف من الداخل، محاولات الناس في أن يمارسوا حياتهم رغم كلّ شيء، وما تقوله عيونهم حين يعودون إلى بيوتهم فلا يجدونها...

هذا ما وثّقه فيلم "إسعاف"، وجعل المُشاهد في تماسّ مع الحرب كأنّه عاشها، وهذا ما يُحسَب لمحمّد الجبالي، وإرادته وشجاعته في توثيق أيّام الحرب الواحدة والخمسين؛ لتخبر العالم ما الّذي تعنيه الحرب، وما قاسته هذه المدينة.

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن تغطية خاصّة لأعمال الدورة الأولى من مهرجان سينما فلسطين - الدوحة.

 

اقرأ أيضَا - عريدي والسويدي: مهرجان سينما فلسطين، قدّم "سينما المجتمع" لأهل الدوحة ومؤسّساتها

 

مجد أبو عامر

 

شاعر وقاصّ من مواليد غزّة عام 1996. حاصل على بكالوريوس الحقوق من جامعة فلسطين، ويدرس ماجستير العلاقات الدوليّة والعلوم السياسيّة، في معهد الدوحة للدراسات العليا. عضو اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، صدر له المجموعة الشعريّة "مقبرة لم تكتمل"، ويعمل محرّرًا في "مجلّة 28" الغزّيّة.