غدير الشافعي: "مهرجان كوز" علامة على تطوّر الخطاب الجنسانيّ وأدواته

 

صحّح محرّك البحث غوغل "خطئي" حين هممت بالبحث، باللغة العربيّة، عن أفلام كويريّة، ومقالات عن السينما الكويريّة في العالم العربيّ، أو أيّ مادّة مكتوبة في هذا الشأن، الخطأ صُحّح هكذا: "أفلام كوريّة"!

في هذا الغياب التامّ لهذه الكلمة في العالم الافتراضيّ، والّذي يتطابق مع تغييبها في الحياة الواقعيّة والمعيشة في مجتمعاتنا العربيّة، تجيء "أصوات - نساء مثليّات فلسطينيّات" لتنظّم الدورة الثالثة من "مهرجان كوز للأفلام الكويريّة" في مدينة حيفا.

كلّما كبرنا وجدنا أنفسنا أقلّ إيمانًا بالتغيير المباشر، منّا مَنْ يفكّر في التراكميّة، ومَنْ يفكّر في الخراب سبيلًا للعمران، منّا مَنْ يذهب إلى تقديس القيمة الجماليّة من الفعل فحسب، ولا سيّما لو كان فعلًا فنّيًّا كالسينما.

 

من حفل افتتاح "مهرجان كوز للأفلام الكويريّة"

 

كيف تستطيع الحركة الكويريّة أن تُحدث تغييرًا حقيقيًّا، في مجتمع يرى بأفراده المختلفين جنسيًّا، أشخاصًا "شواذّ" و"مرضى" و"مسفوكي الدماء"؟ نحن ننظر إلى العالم، كأفراد، كأطفال ينظرون إلى مثلهم الأعلى، بعيون برّاقة ومتفائلة؛ فإذ به يضع مسدّسًا على رؤوسنا بهدوء.

وسط هذا "التهديد" الّذي تعيشه الحرّيّة الفرديّة في مجتمعاتنا، ثمّة مبادرات تعمل بثقة خالصة، بأنّ الفنّ والسينما قادران على إحداث تغيير حقيقيّ مستمدّ من قوّتهما في رواية الحقيقة، في رواية قصص الأفراد الّذين لا يزال العالم يراهم خارج هذه الحقيقة. هكذا تؤمن غدير الشافعي، مديرة أصوات، الّتي كان لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة معها هذا الحوار.

 

فُسْحَة: ما القيمة المضافة الّتي تتيحها السينما تحديدًا، دون غيرها من الحقول الفنّيّة؛ من أجل إحداث تغيير أو تأثير في المجتمع؟

غدير: نَعُدّ السينما منصّة يمكن تمرير رسائل عديدة ومختلفة من خلالها، ويمكن لها أن تروي قصّة، قادرة على تكسير صور نمطيّة وأفكار مسبقة لدى المجتمعات.

تتحدّث السينما مع شريحة كبيرة من الناس الّذين يتلقّونها ببساطة، الفرق هنا، بينها والموسيقى، أنّها تتّسع لرواية قصّة، ذات شخصيّات قد يشعر المشاهد بتعاطف ما معها، ثمّ قد تؤثّر في حياته.

 

غدير الشافعي

 

نرى أنّ السينما الفلسطينيّة، حتّى اليوم، وربّما العربيّة أيضًا، لم تنجح في تبنّي الإنتاج السينمائيّ، الّذي يعالج مواضيع الجندر والجنسانيّة بعمق وبنظرة "ثوريّة"، إن شئنا التحدّث عن مساعٍ نحو طرح مواضيع جريئة ونحو التغيير الحقيقيّ، بل على العكس، ثمّة تغييب في إنتاجنا السينمائيّ لصوت المثليّات والمثليّين والمتحوّلات والمتحوّلين، حتّى النساء أحيانًا.

هنا تحديدًا تكمن أهمّيّة تنظيم "مهرجان كوز"، في أن يكون محفّزًا للسينمائيّين والمخرجين؛ للتطرّق إلى مواضيع كالجنسانيّة والجندر، بالإضافة إلى تشجيع الإنتاجات السينمائيّة الّتي تطرحها.

 

فُسْحَة: على أيّ معايير استندتم في اختياركم للأفلام الّتي يعرضها المهرجان؟

غدير: إنّ المعيار الأوّل يهتمّ بالفحوى؛ أي ثيمة الجنسانيّة والجندر من منظور كويريّ، أمّا الثاني فقد حاولنا من خلاله التشديد على اختيار أفلام من إنتاج عربيّ، تقدّم روايات شخصيّات عربيّة. إنّ اختيارنا الأفلام الأجنبيّة، قام على أساس التقاطعات الموجودة بين ثقافتنا والثقافة الأخرى.

لقد حاولنا البحث عن أفلام نالت أشكال تقدير عربيّة وعالميّة، وكنّا حذرين من خلال تجنّبنا الأفلام التجاريّة الأوروبّيّة والأمريكيّة وغيرها، الّتي تتطرّق إلى موضوع المثليّة، من منظور لا يتوافق ومنظورنا، ولا يحاكي واقع مجتمعنا.

 

 

 

فُسْحَة: أترون في تصنيف هذه الأفلام، بأنّها أفلام كويريّة، تصنيفًا فنّيًّا؟ أم أنّه يخدم تسليط الضوء على قضايا الكويريّة فحسب؟ وما المقصد من اعتباره فنًّا بديلًا، كما جاء في إعلان المهرجان؟

غدير: الكويريّة نظريّة سياسيّة أيضًا؛ وعلى ذاك، فإنّ أهمّيّة مقولة الفيلم الفكريّة، قد تأتي على حساب قيمته الجماليّة.

إنّ معظم الأفلام أُنتجت بشكل مستقلّ وميزانيّات متواضعة نسبيًّا، إلّا أنّ وزنها في سياق المهرجان يكمن في جرأتها على طرح قضايا تُعَدّ تابو اجتماعيًّا، أو مغيّبة تمامًا في السينما المهيمنة.

 

فُسْحَة: هل حاولتم الوصول إلى الجمهور "غير المتوقّع" لهذا النشاط؟ وهل يلبّي هذا الجمهور دعوتكم؟

غدير: طبعًا، كان طموحنا أن يكون جمهور المهرجان متنوّعًا، ومن مختلف الخلفيّات الاجتماعيّة، هدفنا أن نخلق مساحة للنقاش مع المجتمع، نحن نسلّط الضوء على قضايا الجنسانيّة والجندر في مجتمعنا؛ من خلال المبادرة إلى نقاش حقيقيّ وموضوعيّ؛ يتيح هامشًا مرئيًّا لإحداث تغيير ملموس، وبالتالي نتوقّع تنوّعًا دائمًا من حيث الجمهور؛ فالعاملون على المهرجان والداعمون له متنوّعون بأنفسهم؛ لذا ينعكس هذا التنوّع على جمهور المهرجان أيضًا.

 

برنامج "مهرجان كوز للأفلام الكويريّة"

 

فُسْحَة: لا شكّ في أنّ حيفا تتمتّع بخصوصيّة معيّنة؛ لكونها تشهد نشاطات تتعلّق بقضايا الهويّة الجندريّة والجنسانيّة، ونلحظ هامشًا اجتماعيًّا - على الرغم من ضيقه - للمجموعات الّتي تعمل في هذه السياقات. هل كان ثمّة تفكير في نقل التجربة إلى أماكن أخرى، أو ربّما محاولة جذب جمهور من خارج حيفا؟

غدير: لا شكّ في أنّ حيفا تتمتّع بتنوّع في الخلفيّات الاجتماعيّة والثقافيّة، يتلقّى نشاطاتها جمهور يأتيها من كلّ مكان، لكنّ ذلك لا يمنعنا من السعي نحو توسيع التجربة، ونقلها إلى أماكن جغرافيّة أخرى.

في هذا السياق، نأمل أن تسهم التغطية الإعلاميّة المحلّيّة والعربيّة في ترويج خطاب "أصوات"، وفي نشر الوعي حول الحقوق الجنسيّة والجنسانيّة، ومن جانب آخر، نحن نعمل على بناء شراكات مع مهرجانات أفلام وسبل؛ لامتداد "كوز" مع مؤسّسات في أراضي 48 والضفّة والقطاع.

 

فُسْحَة: جاء في بيانكم أنّكم ترون في هذا المهرجان إظهارًا لوجهات نظر الحركة الكويريّة الفلسطينيّة، ومقاومتها ونضالها؛ من أجل الحرّيّة الجنسيّة والتحرّر الوطنيّ! كيف يترجَم النضال من أجل التحرّر الوطنيّ في عمل الحركة الكويريّة، بمجموعاتها ومؤسّساتها المختلفة، وفي نشاطها في المجتمع؟

غدير: خلال العقد الأخير، عمل النشاط المثليّ النسويّ الفلسطينيّ، على رفع الوعي المحلّيّ والعالميّ لسياسات الفصل العنصريّ – الأبارتهايد - وممارساته؛ الاحتلال والاستعمار الاستيطانيّ الّذي تمارسه حكومات إسرائيل ضدّ جميع الفلسطينيّين على حدّ سواء، مخالفةً بذلك حقوق الإنسان والقانون الدوليّ.

 

من حلقات النقاش ضمن المهرجان

 

وقد جنت جهود المرافعة لنشطاء الحركة المثليّة النسويّة الفلسطينيّة، العديد من النجاحات المحلّيّة والعالميّة، في مناهضة إستراتيجيّة "الغسيل الورديّ" المعروفة باسم "Pinkwashing"، وهي إستراتيجيّة متعمّدة تلجأ إليها الحكومة الإسرائيليّة، من خلال وزاراتها وسفاراتها ومؤسّساتها، ومن خلال ترويج الجمعيّات المثليّة الإسرائيليّة ودعمها؛ بهدف استغلال موقف إسرائيل المتقدّم نسبيًّا في ما يتعلّق بحقوق المثليّين والمثليّات، وصرف الأنظار العالميّة عن الانتهاكات الفظّة الّتي ترتكبها إسرائيل بحقّ الفلسطينيّين، في مجالَي حقوق الإنسان والقوانين الدوليّة.

أمّا الاستخدام الساخر لحقوق المثليّين من قِبَل حكومة إسرائيل؛ فغايته التعتيم على حقيقة وجود الاحتلال والاستعمار الاستيطانيّ، وممارسات الفصل والتمييز العنصريّ؛ لذلك تحثّ "أصوات" الجماعات المثليّة العالميّة، على المشاركة في التضامن الفاعل مع عموم الفلسطينيّين، وعدم حصر هذا التضامن بدعم المثليّين منهم. وبعبارة أخرى، يتعامل النشاط المثليّ النسويّ الفلسطينيّ مع حقوق الإنسان بنظرة شموليّة؛ وعلى هذا، فهو يدعو التضامن العالميّ الفاعل ويحشده، في كلّ أنحاء فلسطين بعامّة؛ من خلال عدسة النشاط المثليّ في السياق المحلّيّ.

تعمل "أصوات" - أيضًا - على دمج النضالات وتسليط الضوء على تقاطعاتها، على الصعيدين المحلّيّ والعالميّ؛ إذ نبني شراكات متينة، مع جمعيّات تُعنى بالنسويّة والجنسانيّة في مجتمعنا الفلسطينيّ، ورفع الوعي بشأن الحرّيّات والحقوق الجنسيّة والجندريّة؛ من خلال برامج التدريب في الهويّة الجنسيّة والجندريّة للناشطين، وللمهنيّين، ومقدّمي الخدمات في المدارس والمؤسّسات الرسميّة والمجتمعيّة، والإصدارات التوعويّة، ورصد الأدبيّات ونشرها في تاريخ المثليّة في فلسطين وحاضرها، والعمل من خلال منصّات المجتمع المدنيّ؛ من أجل بناء مجتمع فلسطينيّ يحترم التعدّديّة.

 

ملصق أحد الأفلام المعروضة في المهرجان

 

فُسْحَة: هل أنتم متفائلون في مدى تأثير هذه المبادرات في مجتمع، لا يقصي أفراده الكويريّين فحسب، بل يعتبرهم مسفوكي الدماء؟ وما الشيء الّذي يبعث فيكم التفاؤل الحقيقيّ؟

غدير: نحن دائمو التفاؤل، وإلّا فلماذا نعمل؟ إنّ اهتمامك بالكتابة عن المهرجان ورسالته، واهتمام الإعلام المحلّيّ والعربيّ بتغطية فعاليّات المهرجان، مؤشّر للتغيير الّذي بدأنا نلحظه في السنوات الأخيرة؛ وهذا حتمًا يعود إلى فعاليّات العديد من المؤسّسات النسويّة والشبابيّة والكويريّة، وجهودها في العمل على الهويّة الجماعيّة والحقوق الفرديّة، بما فيها الحقوق الجنسيّة والجنسانيّة، والتشديد على مفهوم الجندر.

جميعنا يعي قوّة الإعلام الإيجابيّة والسلبيّة، ويعي بعد ذاك أنّ وقوفه إلى جانبنا من خلال الترويج لخطابنا، سيُسهم بالتأكيد في إحداث هذا التغيير، وإضافة إلى ذلك؛ فإنّ الإقبال المتزايد على المهرجان، والجودة المتطوّرة واللافتة في المضامين وجماليّات صناعة الأفلام، يبعثان فينا الأمل.

نحن نتكلّم على جيل شابّ من المخرجين، ننتظر أن يكون بينه عدد أكبر من المخرجات الفلسطينيّات والعربيّات.

 

 

 

أسماء عزايزة

 

عضو طاقم فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. عملت مقدّمة برامج في برامج إذاعيّة وتلفزيونيّة، تكتب المقالة في عدد من المنابر الثقافيّة، وتدير مشروع "فناء الشعر. صدر لها شعرًا: "ليوا" (الأهليّة، 2011)، الحائزة على جائزة عبد المحسن القطّان عام 2010، وكذلك "كما ولدتني اللدّيّة" (الأهليّة، 2015). لها مشاركات في أنطولوجيّات ومجلّات أدبيّة ومهرجانات عربيّة وعالميّة، وقد ترجمت قصائدها للغات عدّة.