مهنّد اليعقوبي... محاولات استعادة حياة السينما، عبر السينما

أحد فدائيّي الثورة الفلسطينيّة الّذين يظهرون في فيلم "خارج الإطار"

 

أنت مُلزَم بالإطار: حين ترفع هاتفك لالتقاط صورة ما؛ فإنّ المشهد يتقلّص إلى مساحة فتحة العدسة.

سألت صديقي المصريّ: "ما الصورة الّتي تقفز إلى ذهنك، حين تسمع كلمة "فلسطينيّ"؟".
قال: "النكبة، والخيام"، ثمّ واصل كمن يترجم لي كلّ ما يقفز إلى ذهنه من صور: "النضال، والكوفيّة، والثورة، وأطفال الحجارة، وأسرى، وإضراب، وفتح، وحماس، وانقسام".

 

 

عند التقاط صورة ما، ستنظر إليها وأنت تعرف تمامًا امتدادات تلك العناصر البصريّة، لكن هذه الامتدادات معرّضة للتلاشي من ذاكرتك، الّتي ترصّ يوميًّا المزيد من الصور والرموز؛ لذلك سيكون عليك - بعد عام مثلًا - أن تتذكّر لتستعيد، وأن تتخيّل لتنقذ عجز التذكّر، وتكون ملزَمًا بذلك؛ لأنّ العقل ترهقه المساحات المعتمة، والأسئلة الّتي لا إجابة لها. إنّ تأليف إجابة ما أو صورة ما، سيكون دائمًا طريقة عمل هذا العقل، سواء كانت هذه الذاكرة حقيقة أو متخيّلة.

 

المسافة صفر

كنت أعمل على إخراج فيلم، عن زيارة الفنّان العالميّ بانكسي الغامضة إلى فلسطين، ملاحقًا الرسائل الّتي تركها على الجدران، وأثرها في المكان وأهله. وهكذا التقيت المخرج مهنّد اليعقوبي ليساعدني في مونتاج الفيلم، حينذاك كان مهنّد مشغولًا بالعمل على فيلم، عن الأرشيف السينمائيّ للثورة الفلسطينيّة، وقد أتاحت لي المسافة صفر، أن أشاهد نموّ الجنين في غرفة المونتاج، قبل أن أصادفه لاحقًا في مهرجان سينما فلسطين، في الدوحة، العاصمة القطريّة.

"خارج الإطار"، أو "ثورة حتّى النصر"، هذا هو الاسم الّذي منحه اليعقوبي لفيلمه، الّذي أراده أن يكون رحلة تأمّل في النضال الفلسطينيّ؛ لإنتاج صورته وفق شروطه الخاصّة، في ستّينات القرن الماضي وسبعيناته، ويكشف الفيلم عن إرث سينمائيّ ضخم.

 

 

أمّا الإهداء، فقد اختار اليعقوبي أن يتوجّه إلى المخرج الفلسطينيّ الراحل مصطفى أبو علي (1940 - 2009)، الّذي يُعَدّ مؤسّس سينما الثورة  الفلسطينيّة، مع زميليه هاني جوهريّة وسلاف جاد الله.

 

في لعبة الإطارات

رحلة الفيلم تطلّبت من المخرج، أن يبحث طويلًا في المادّة الأرشيفيّة، الّتي نتجت عن التعاون بين "وحدة السينما الفلسطينيّة" وجِهات دوليّة مختلفة، إنّها رحلة لا تقتصر على جلب ما هو موجود في هذه الموادّ السينمائيّة، بل سيعمل منهج القصّ واللصق بطريقة تضيّع المسافة، بين ما هو واقع وما هو مُتخيّل.

بعد النكبة، وجد الفلسطينيّ نفسه حبيس صورة لم يرسمها هو؛ إنّها الصورة الّتي ستقفز إلى ذهن صديقي، حين أسأله عن فلسطين؛ تشرُّد ولجوء وخيام ومعونات وصلوات، وبعد ذلك بسنوات سيبدأ الفلسطينيّ برسم بعض الملامح. في داخل الإطار الكبير ثمّة الفدائيّون، وأشبال السلاح، ثمّة ثورة يمكن الفلسطينيّ أن يقول من خلالها: "هذا أنا".

 

 

في لعبة الإطارات، يموت كلّ ما هو خارج الإطار مع الوقت، والمخرج هنا يحاول أن يبعث الحياة، ليس فقط في الصورة المفقودة والضائعة من الإطار، بل في الصورة خارج الإطار أيضًا.

 

لماذا نصنع السينما؟

إنّه سؤال حيّ، ينمو ويكبر ويضمر ويشيخ، وربّما يموت أيضًا، إذا أصبحت السينما في حياتنا من بديهيّات الحياة، فإذا كان المخرج - في هذه الأيّام - يُقدِم على فيلم ما وهو يفكّر: كيف ينبغي لهذا الفيلم أن يكون؟ كيف يمكن أن يُفهَم؟ ولماذا أريد أنا شخصيًّا أن أصوّر هذا الشيء دون غيره؟ فإنّ المخرج في فترة أخرى، كان يصوّر ويقدّم الأفلام فقط ليقول: "إنّ الفلسطينيّ كائن حيّ وموجود".

أتذكّر الآن - في الواقع لا أعرف إن كان ذلك حصل فعلًا أو أتخيّله فقط - حين كنت في غرفة المونتاج مع مهنّد، رأيت مقاطع يظهر فيها الفدائيّون بوجوههم المكشوفة، برشاقة وهمّة عالية يتدرّبون، ثمّ رأيت صورًا لمذابح ومجازر تشابهت فيها الوجوه، ثمّ رأيت مشاهد لقادة مع مَنْ يحملون السلاح في الخلفيّة وهم ملثّمون، ثمّ رأيت الصور وقد خرج الفدائيّون من إطارها، ثمّ رأيت مشهدًا تمثيليًّا لا يمكنني القول إنّه كان قويًّا.

 

المخرج مهنّد اليعقوبي

 

الإطارات تتحرّك، منذ غزت إطارات الدبّابات منازل القرى الفلسطينيّة، إلى أن سيطر دخان الإطارات المحترقة سماء غزّة مؤخّرًا. الإطارات تتحرّك، وخارج الإطار غالبًا، حياة غير مُنْتَبَه لها في جلسات الآخرين ونقاشاتهم حول الصورة.

"ثورة حتّى النصر" اسم الفيلم، لكنّه كان قبل ذلك شعارًا حمله الكثير من الفلسطينيّين، ومضوا إلى أن قضوا، شعارًا أصبح الآن... خارج الإطار!

 

 

عرفات الديك

 

 

شاعر وصحافيّ فلسطينيّ يقيم في الدوحة. له مجموعة شعريّة بعنوان "يصطاد ليلًا" (2016). يعمل مع مؤسّسة AJ+، ويكتب المقالة الثقافيّة.