في عينيّا: تشريح الأبوة عبر اضطراب التوحد

الطفل يوسف والأب لطفي

 

من المغري للغاية بالنسبة إليّ، تناول فيلم "في عينيّا" (2018) التونسيّ، للمخرج نجيب بلقاضي، عبر ثيمة "حالة التوحّد" أو "اضطراب التوحّد". من السهل إخضاع الفيلم لمركزيّة صورة الابن المصاب بالتوحّد؛ إذ يمكن لشدّة الحالة أن تملأ عدسة الكاميرا والعينين. لكنّ الإبقاء والمحافظة على القدرة على الرؤية، أمران في غاية الأهمّيّة وفقًا لعالم الفيلم؛ فنسأل، النظر من أجل رؤية ماذا؟ النظر كي نرى مَنْ؟ 

 

عودة إلى تونس

يحكي الفيلم قصّة لطفي، رجل تونسيّ يقيم في مرسيليا الفرنسيّة، وينتظر مع شريكته الفرنسيّة صوفي مولودهما الجديد، لكن سرعان ما تتغيّر المجريات ومخطّطات الزوج، عند وصول مكالمة هاتفيّة من تونس. يُبَلَّغ لطفي بأنّ أخت خديجة، زوجته السابقة، تطالب عبر دعوًى قضائيّة، رعاية يوسف ابن التاسعة، وهو كما يتّضح ابن لطفي الأوّل، موجّهةً إليه تهمة الإهمال والهجر.

 

 

لقد أصيبت أمّ يوسف، سارة، أي زوجة لطفي السابقة، بسكتة دماغيّة؛ فأسكنته خديجة معها ومع شريكها الأجنبيّ. يطلب سليم إلى أخيه لطفي العودة إلى تونس لمعالجة المسألة، يحاول لطفي بدايةً إلقاء المسؤوليّة على كتفَي أخيه، وحثّه على تكفّل مسألة "استعادة" يوسف وإسكانه عند الجدّة، بينما يبقى هو في فرنسا، لكنّ إلحاح سليم يُلزمه في النهاية العودة إلى تونس، وذلك بلا معرفة شريكته الحاليّة بالسبب الحقيقيّ لعودته المؤقّتة ظاهريًّا إلى بلده.

 

لطفي: تنافر ونرجسيّة

لا يمكن للمشاهد إغفال العناية الفائقة، الّتي يخصّصها نجيب بلقاضي، لتوصيف شخصيّة لطفي؛ بترسيم صفاته وسماته المميّزة كوجدان فردانيّ. من الدقائق الأولى للفيلم، يمكن رصد التوتّر، وحتّى التنافر، بين أفعال وسلوكيّات لطفي العدائيّة والعنيفة، واسمه الّذي يفترض نوعًا من اللطافة وحسن المعاملة. لطفي لا يحسن معاملة الآخرين، على الأقلّ هذا ما يطلب إلينا المخرج الالتفات إليه، بتصويره شجاره مع شخص على خلفيّة مصلحته التجاريّة في المشهدين الأوّلين، كما يشدّد على أهمّيّة هذا التنافر عبر المشهد اللاحق؛ إذ يستدعي لطفي إحدى العاملات في محلّه لمحادثة جانبيّة، بينما كانت تتحدّث مع زبونة، يقطع حديثها مع الزبونة قائلًا: "ماذا قلت لك؟"؛ تتعجّب العاملة وتسأل مستوضحةً: "ماذا؟"، يرشقها بنظرة مهدّدًا، فتتوقّف عن مضغ العلكة، "آخر تحذير" يقول لها ويغادر. يُعَدّ هذا المشهد مواصلة المخرج تعريف شخصيّته المركزيّة؛ فأيّ جريمة ارتكبت عاملته لكي يطلبها لطفي فورًا للإنذار والتهديد؟ مضغت العلكة أثناء العمل، مُجرمة! محتوى المشهد سخيف، لكنّه في غاية الأهمّيّة في تقديم لطفي في سطوته الاعتباطيّة؛ فالعلكة محظورة فقط لأنّها لا تروقه. ربّما يمكن الادّعاء بأنّ منح لطفي اسمه، ما هو إلّا تذكير للمشاهد أنّه على الرغم من المساوئ، الّتي ستصدر عن لطفي، إلّا أنّه في الصميم شخص طيّب، ذو نوايا حسنة.

إضافة إلى هذا، نتعرّف صفة أخرى بارزة ومركزيّة لدى لطفي، ستحدّد نمط العلاقة بينه وابنه يوسف؛ أي نمط والديّته، ومن ثَمّ تؤثّر في تكوين الفيلم بعامّة؛ ففي نهاية الأمر بين أيدينا فيلم، يتناول الوالديّة - الأبوّة تحديدًا - موضوعًا رئيسيًّا له، لا التوحّد.

النرجسيّة قوّة طاغية تسيّر الديناميّة والتفاعل العلائقيّ، في العلاقات الّتي يقيمها لطفي بالآخرين؛ ففي المشاهد الأولى أيضًا، تستاء صوفي من لطفي على إثر الشجار، وتنهره قائلة إنّها ضاقت ذرعًا بكلّ هذه الشجارات، وماذا سيحدث عندما يولد الطفل؟ يردّ عليها لطفي محاولًا التنكيت، بأنّهما سوف يصبحان اثنين ضدّ الرجل. وفي محاولة لإرضائها، يعرض أمامها صورةUltra-sound  للجنين، قائلًا: "أجده وسيمًا حتّى بهذه الهيئة، إنّه Mini لطفي". وفي المشهد الأوّل في الفيلم، يقول لطفي إنّ ابنه سيكون "أفضل من هذا".

 

 

قيلت هذه الأقاويل بروح دعابة، لكنّها تعرّي لطفي تمامًا، وتكشف لنا عن السيناريوهات النرجسيّة، الّتي ستُكتب للعلاقة المستقبليّة بين لطفي وطفله، تكشف عن وزر التوقّعات وثقلها، الّتي بدأت تُلقى على كتفَي الجنين، قبل أن يطوّر كتفين يحمل بهما نفسه. سيناريوهات في القصّة الوالديّة، يكون لطفي قادرًا على أن يرى نفسه منعكسًا فيها، شرطًا أساسيًّا لوجود العلاقة. إنّ هذا كلّه ليس إطنابًا على الإطلاق من جانب المخرج؛ فهو بهذا "الإطناب" يمهّد لنا - نحن المشاهدين - تفسيرًا ولو مضمرًا، لسبب هجرته لزوجته وابنه في تونس؛ فهل يمكن لطفي - من وجهة نظره - أن يرى نفسه منعكسًا في يوسف؟

 

يوسف: عيون مثقوبة

يعود لطفي إلى تونس على ظهر سفينة، لاستعادة يوسف، بل لخطفه من خديجة، خالة الولد، بعد أن فارقت أمّه الحياة بسكتة دماغيّة. من البدَهيّ أنّ مفارقة أيّ أمّ للحياة، ليست حدثًا عابرًا ومحايدًا بالنسبة إلى الأطفال بعامّة، ولا سيّما بالنسبة إلى طفل مصاب بالتوحّد، وحسّاسًا لأصغر التغييرات الّتي قد تطرأ على جدوله اليوميّ، تغييرات صغيرة في عيوننا قد تزعزع كيانه، وتقلب موازين عالمه رأسًا على عقب. لم يُذكر في الفيلم إذا ما كان الكبار قد حاولوا تفسير "اختفاء" الأمّ ليوسف، وحتّى يمكن - من مشاهدة سريعة للفيلم - الاعتقاد بأنّ يوسف لم يُظهر أيّ تساؤلات حول ذلك، وحتمًا ليس منها اللغويّة، كما أنّنا لم ندخل عالم يوسف قبل وفاة الأمّ، فيصعب للوهلة الأولى القياس والمقارنة، لكنّ ذلك لا يعني أنّ الفيلم لم يزوّدنا بالمعطيات الكافية لتبيين الأمر؛ ففي إحدى الليالي يختفي/ يهرب يوسف من المنزل، يبحث عنه لطفي ولم يجده حتّى ظهيرة اليوم التالي. هذه الدراميّة تنقل إلينا على مستوى فنّيّات سرد الحبكة، وعلى المستوى النفسيّ أيضًا، تنقل إلينا - نحن المشاهدين - انشغال يوسف باختفاء أمّه؛ عبر تأدية دراميّةِ اختفائِه من المنزل؛ فبحْث الأب عنه، يوازي بحثه هو عن الأمّ.

يُظهر لطفي صعوبة حقيقيّة في تقبّل حالة ابنه - والأسباب كثيرة، منها الصفات الإشكاليّة المسيطرة الّتي يحملها، ولكن أيضًا بسبب جهله للحالة من جهة، وصعوبته تقبّل المساعدة من الآخر من جهة أخرى - فهو يعجز عن تجاوز ذاته؛ ليرى في يوسف كينونة مختلفة، والأمثلة لذلك كثيرة (يُصاب بصدمة من صعوبة فهم يوسف قواعد لعبة كرة القدم، الّتي يحبّها هو كثيرًا، ونراه يبرع فيها في المشاهد الأولى، والّتي اعتبرتها مشاهد "بطاقة تعريف"). نرصد مشاهد يعجز فيها عن رؤية احتياجات ابنه، فيما يظلّ عالقًا في حاجته هو إلى أن يُرى، إلى أن ينظر ابنه في عينيه، ولا يخطر له أنّ ابنه غير قادر على توفير ذلك؛ لأنّ التواصل في العينين يزيد أزمته ويؤزّم الاضطراب. إنّ أحد الأمور الشائعة والمتداولة حول التوحّد، الصعوبة الجدّيّة في التواصل البصريّ؛ ففي أحد المشاهد القويّة يدخل لطفي غرفة يوسف، ونرى من خلاله صورًا ودمًى فيها، ثُقبت وشُوّهت فيها العيون.  

 

 

يبذل لطفي جهدًا خياليًّا، فيه روح إبداعيّة، لجعل ابنه ينظر إليه وفي عينيه، يأتي بالأضوية الّتي تستهوي يوسف، يضعها على عينيه؛ وبهذه الطريقة يحتفظ بعينَي يوسف مثبّتتين عليه بضع دقائق. يبتكر لطفي طريقة تواصل جديدة؛ تصبح الكاميرا شخصيّة ثالثة بينهما، تستبدل تارة التواصل البصريّ، وتشهد تارة على مجرى الديناميكيّة بينهما، وتكون قوّة فاعلة فيها.

 

توتّر بين الأمل واليأس

في المشهدين الأخيرين في الفيلم، نشهد توتّرًا بين الأمل واليأس، في العلاقة بين لطفي ويوسف، وقدرتها على تطوير الاثنين على المستوى الفرديّ، والمستوى الثنائيّ/ الزوجيّ؛ ففي المشهد قبل الأخير، نرى الاثنين على ظهر سفينة متّجهة إلى مرسيليا، يوسف يؤدّي حركاته النمطيّة والتكراريّة "التوحّديّة"، بينما تتّجه أنظار لطفي نحو الأفق، محدقًا إلى المحيط. هذا المشهد يحيك صورة ينعدم فيها الأمل - في رأيي - من العلاقة بين الاثنين، بانعدام التواصل بينهما - صورة على شاكلة "كلّ واحد لنفسه/ كلّ واحد بحاله".

بينما يصوّر المشهد الأخير، القليل من الأمل؛ فيُظهر يوسف قدرة على استلام ما حاول لطفي منحه إيّاه، متمثّلًا في الكاميرا كغرض من جهة، والكاميرا باعتبارها تحقيقًا لرغبة لطفي في أن يراه يوسف من جهة ثانية؛ فبواسطة الكاميرا فقط استطاع يوسف أن ينظر إلى أبيه، وأن يراه، مغمض العينين، مستغرقًا في النوم.

 

* عُرِضَ الفيلم ضمن "مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام" بدورته الرابعة 2019.

 

 

تمارا ناصر

 

 

دارسة للأدب الإنجليزيّ، والسينما، وعلم النفس. حاصلة على شهادة علاجيّة ولقب ثانٍ من جامعة حيفا في البيبليوترابيا - العلاج بالقصّة، والقراءة، والكتابة.