الدراما الرمضانية: قيم تحررية أم استبدادية؟

من مسلسلات رمضان 2019

 

تأتي الدراما العربيّة هذا العام، كما هي في كلّ عام، مُحمَّلة ومتأثّرة بالحال العربيّ العامّ المجتمعيّ والسياسيّ، وما فيه من تأثير حسن أو أثر هدّام. من خلال ما نشاهده هذا العام نرى أنّ الأعمال الدراميّة الأكثر مشاهدة، هي أيضًا الأقلّ جودةً؛ فنرى في قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة، المسلسلات: "لمس أكتاف"، و"كلبش ثلاثة"، و"هوجان"، و"زلزال". ورغم أنّ بعضها لا يندرج ضمن نفس التصنيف، إلّا أنّ ثيماتها وموضوعاتها تتكرّر كلّ عام.

نجد أنّ بعض هذه المسلسلات أعمال حركة، وبعضها حركة وكوميديا جسديّة ضعيفة، تُظهر جليًّا التجسيد الذكوريّ القويّ، الّذي يدعو إلى العنف حلًّا ليظفر بالأنثى؛ أي جائزته، هو البطل، وبعضها أتى مبتذلًا أو مكرَّرًا عن أفلام أو أعمال عالميّة، مثل مسلسل "أبو جبل"، المأخوذ عنوة عن قصص المنتقم العالميّة، والّتي سُردت وتكرّرت غير مرّة، لكنّها تُكرّر قصّة شخص يفقد عائلته ليذهب في رحلة انتقام، بينما تندثر الأعمال الجيّدة، كمسلسل "حكايتي" الّذي يحكي قصّة فتاة تهرب من صعيد مصر إلى المدينة، فتُكرّر أيضًا فكرة مسلسل "موجة حارّة" (2014)، من إخراج محمّد ياسين، الّذي رغم آراء النقّاد الإيجابيّة، فشل في استقطاب الذوق الجماهيريّ العامّ، الّذي ينشغل بالمسلسلات الشاميّة المعتادة، والمسلسلات الّتي تحكي مغامرة الرجل اللعوب الّذي يركض وراء النساء كطرائد، وغيرها من المسلسلات ضعيفة المحتوى.

ولا بدّ من أنّ الأثر السياسيّ، في السنوات الأخيرة، ظاهر في الأعمال الدراميّة، فما بدا كموجة من أعمال ثائرة تتكلّم عن الحرّيّة، تقلّص شيئًا فشيئًا تحت الضغط السياسيّ القمعيّ، إلى مسلسلات استهلاكيّة تهدف إلى إسقاط الوعي العامّ.

 

النظام المصريّ يقصي أسماء بارزة

راجي بطحيش

قال الكاتب الفلسطينيّ راجي بطحيش لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة: "بمرور سريع، يمكن تشكيل فكرة بشأن الاتّجاهات العامّة للإنتاج الدراميّ لهذا العام، إنّ الموضوع الأهمّ، وقد غطّته حتّى الصحافة العالميّة، أنّ ’شركة سينيرجي‘ المصريّة، وهي محسوبة على المخابرات العامّة والنظام المصريّ، سيطرت على الإنتاجات المصريّة بشكل شبه كامل؛ وهذا أقصى العديد من الأسماء البارزة في الدراما المصريّة، الّتي أسّست لعصرها الذهبيّ في السنوات الأخيرة".

وتابع: "هذا العام، تبدو الأعمال المصريّة باهتة ومتشابهة، ويمكننا أن نخمّن أنّها تروّج لبطولة النظام، وفكرة أنّ فساد المجتمع يأتي من تعفّن القاع لا العكس؛ وهي فكرة تتبنّاها الأنظمة الشموليّة لتثبيت نفسها، ومنع أيّ نقد كان على السلطة المتمثّلة برموزها كالجيش والشرطة. مع غياب أسماء مخرجين مثل محمّد ياسين، وكاملة أبو ذكرى، ومحمّد أمين، والكاتب خالد مرعي، لا يمكن التعويل على الدراما المصريّة في هذا الموسم والمواسم المقبلة".

بالنسبة إلى الدراما الهجينة اللبنانيّة – السوريّة، الّتي تعتمد على بطل سوريّ وبطلة لبنانيّة، قال راجي: "أعتقد أنّ أثرها آخذ بالانحسار، وخاصّة أنّ الميلودراما السطحيّة والقصص الملفّقة هما سمتها المركزيّة... فكم يمكن المشاهد أن يمتصّ نفس الأكاذيب لفترة طويلة؟ في هذا العام ثمّة ظاهرة إيجابيّة تتمثّل بمسلسل ’مسافة أمان‘ السوريّ، من كتابة إيمان السعيد، وإخراج ليث حجّو، وهو يذكّرنا بمسلسل ’قلم حمرة‘، الّذي أثّر في قطاعات عربيّة مثقّفة كاملة، وهو بعيد عن مسلسلات ‘التشبيح‘ الّتي تنتج في معاقل النظام السوريّ، وتكرّر سرديّاته، وإن كان ’مسافة أمان‘ قد جرى تصويره في دمشق نفسها".

عن الإيجابيّات الّتي تميّزت بها إنتاجات الدراما الرمضانيّة هذا العام، أوضح راجي بطحيش: "من الظواهر السارّة خفوت بريق برامج المقالب ومصداقيّتها، وكذلك أسطورة ’باب الحارة‘، ومع أنّ مسلسلات البيئة الشاميّة لا تزال تحظى بشعبيّة واسعة، إلّا أنّ مسلسلًا مثل ’سلاسل ذهب‘ الّذي يحظى بشعبيّة هائلة هذا العام، يبدو أسهل ’للهضم‘ من ناحية جندريّة؛ إذ تتخطّى فيه الشخصيّات النسائيّة الحدود الاجتماعيّة، والجنسيّة، والجندريّة، الّتي فُرضت على تمثيلهنّ في مثل هذه الأعمال.

وتابع: "ومع موقفي من الدراما المصريّة هذا العام، إلّا أنّي مستمتع بمشاهدة بعض حلقات مسلسل ’سوبر ميرو‘، وهو محاولة هزليّة لكسر احتكار الشخصيّات الأمريكيّة لدور البطل الخارق. المسلسل يسخر من مفهوم الأبطال الخارقين، عبر السخرية من ذاته، المسلسل ممتاز للفتيان، ولكن تحديدًا في مصر يتوجّب النضال أكثر، في سبيل حرّيّة التعبير الدراميّ على الأقلّ إن كانت قد نُزعت باقي الحرّيّات".

 

تطوّر في الرؤية الإخراجيّة، وحبكات مقتبسة

موسى نزّال

أمّا تقنيًّا، فكان للفنّان المسرحيّ الفلسطينيّ موسى نزّال، رأي في أنّ الإنتاج الرمضانيّ يركّز على اختيار ممثّلات وممثّلين جميلي الشكل، على حساب كونهم قليلي الموهبة، فيركّز الإنتاج على الممثّلات ومكياجهنّ وجمالهنّ وأزيائهنّ، حتّى على حساب الحبكة؛ فنجد مشاهد تتحدّث عن هجرة سكّان ريف دمشق بسبب ما يحدث في الأزمة السوريّة، تكون فيها الصبايا بمكياج كامل وشعر مسرَّح بشكل مثاليّ، وهذا يُفقد الأعمال كثيرًا من مصداقيّتها، لا سيّما أنّ هذا النوع من التركيز قائم على تنميط صورة المرأة جماليًّا، على حساب الواقعيّة، وعلى حساب مشاكل السيناريو، وفيه ترسيخ لصورة نمطيّة قد نسمّيها كلاسيكيّة تشبه ما تفعله صناعة الأزياء والتجميل من التنميط، وهذا يخدمهم في الترويج للمسلسل وبيعه للقنوات الكبيرة، فالأنثى الجميلة باعتبار بائعة تذاكر.

ويتابع نزّال: "بيد أنّ الدراما العربيّة تميّزت في جانبين، هما الديكور والأزياء؛ الأخطاء الإخراجيّة أصبحت أقلّ، الإضاءة باتت أكثر إقناعًا، نمط الإخراج الكلاسيكيّ، أي اللقطات المتوسّطة واللقطات القريبة، أصبح أقلّ، وتطوّرت رؤية إخراجيّة أكثر حداثة ومعاصرة، وأصبح ثمّة اهتمام أكبر بالديكور والأزياء، ولا سيّما في المسلسلات التاريخيّة".

ورغم هذا التطوّر، حسب موسى نزّال، فإنّنا ما زلنا نجد حبكات مقتبسة عن أعمال أجنبيّة، سواء كانت أعمالًا دراميّة أو سينمائيّة، حتّى في ترتيب الشخصيّات وشكلها، وهذا ضعف؛ لأنّ شكل الشخصيّة وسلوكها ابن ثقافتها، ولا يصحّ اقتباسه خارج سياقه بهذا الشكل.

 

تراجع في الجرأة وفي العمق

رولا هردل

قالت الأكاديميّة الفلسطينيّة د. رولا هردل، إنّ الدراما العربيّة، والسوريّة بخاصّة، كانت أكثر جرأة ومتعة من الآن. "الموضوعات ذاتها والبيئات ذاتها تتكرّر بشكل ضحل وركيك، بلا تجديد، فتنحصر مشاهد الدراما بين البيئة الشاميّة القديمة، أو البيئة الصعيديّة، أو موضوعات التهجير وداعش، لكنّها تُطرح بلا عمق، لا تطرح الموضوعات الصعبة، كأنّ ثمّة كسلًا في المعالجة وتوجّهًا نحو الأسهل تسويقًا".

وتابعت: "كأنّ هنالك منطقة أمان يدور الإنتاج الدراميّ داخلها؛ فثمّة أفكار نجحت ولم تتجدّد، حتّى المواضيع الّتي تبدو أكثر جرأة، كالمواضيع النسويّة والكويريّة والدينيّة، أو قضايا الفردانيّة والصراع بين الفرد المختلف والجماعة، تغيب تمامًا بعمقها وقوّتها، وتُعالَج بشكل سطحيّ وفيه كسل واستسهال، وهذا يخالف وظيفة الدراما بشكل جذريّ، فإن كانت للدراما وظيفة، فهي أن تسلّط عدسة مكبّرة على هذه القضايا وتعالجها".

 

عودة حلا شيحة، وسفاهة رامز جلال

أحمد بسيوني

ولم تختلف وجهات النظر الفلسطينيّة، عن وجهات النظر العربيّة، في الإنتاج الدراميّ لهذا العام، فقال الكاتب والشاعر المصريّ أحمد بسيوني، إنّه سعيد بعودة الممثّلة حلا شيحة للتمثيل، لكنّ السخيف في الأمر أنّها ظهرت مع الممثّل محمّد رمضان؛ أي ممثّل صاحب دور واحد لم يضف أيّ جديد.

وحدّد أحمد بسيوني أنّ مسلسل "لمس أكتاف" لياسر جلال، هو العمل الّذي أثار انتباهه؛ لأنّ ياسر جلال أثبت قدرته على لعب البطولة المطلقة بلا جهد مبتذل، بينما نجد برامج تافهة وهدّامة، مثل برنامج رامز جلال "الّذي لا أذكر حتّى اسمه"، تُصرَف عليه الملايين لمجرّد أن يلعب بأعصاب المشاهدين والضيوف، بانفعالات مبتذلة ومصطنعة.

 

العراق موهوب، لكنّه مظلوم

وسام الموسوي

من العراق، قال الكاتب والمسرحيّ وسام الموسوي: "كنّا وما زلنا نعاني أشياء كثيرة، مثل التلفزيون الّذي قتلته الـ ’سوشال ميديا‘، والتلقّي الّذي صار شيوعًا معتادًا من قِبَل المشاهدين؛ لفرط الابتذال في المطروح من أعمال سطحيّة جدًّا، هدفها لقطة للواقع فقط، لكن بلا أيّ اشتغال فنّيّ دراميّ يرفع من منسوبيّة العمل ليصبح عملًا ناجحًا، فبينما نحن ننتظر بفارغ الصبر أعمال رمضان، الّتي تفيد ولو شيئًا بسيطًا أذواقنا وأذواق الأجيال القادمة، نُصدم بأعمال أكثر سخفًا وأكثر انحلالًا، من حيث القيم الفنّيّة الّتي استخدمتها القنوات العراقيّة على سبيل التحديد، ولا سيّما القناة الجديدة ’ MBCالعراق‘؛ فهناك خسائر كبيرة بالمعنيَين: المعنى الإنتاجيّ والمعنى الترويجيّ، اللذين تتحمّلهما القناة من أجل إظهار برامجها، الّتي للأسف لا تستحقّ شيئًا من الاستحسان، حتّى أنّها تكاد تخلو من حركة جيّدة للممثّلين".

وأشار وسام الموسوي أنّ "العراق فيه الكثير من الإبداع، لكنّه يعاني التسلّط الغبيّ للمنتجين، وإعادة الوجوه نفسها من الفنّانين الّذين لا يجيدون سوى اللعق من مائدة المبالغ، الّتي تغريهم بها القنوات وكادرها غير المتخصّص".

وتابع: "ما أريد أن أقوله هنا، إنّ الدراما بشكلها المفهوم عالم عظيم، فيها الكثير من الجمال الثمين والمثمر لكلّ جيل من الأجيال القادمة، لذا؛ تعود المشكلة بالدرجة الأساسيّة إلى غياب الدور الرقابيّ لهذه الأعمال الهابطة، ولأساليب تخلو من الفائدة، لكلّ من يريد أن ينظر إلى الشاشة العريضة، على أنّها عالم يُسمن من جوع كلّ مَنْ أراد أن يرى عملًا دراميًّا لائقًا به وببلده، الّذي ما زال ينجب الكثير من المؤلّفين والممثّلين المبدعين، لكن إلى الآن لمّا تلتفت لأعمالهم هذه القنوات، الّتي همّها الأكيد استحسان السطح، على حساب الفنّ الدراميّ العميق بكلّ أشكاله الثمينة".

 

الدراما السوريّة... كأنّنا متنا

محمّد سعيد

الكاتب محمّد سعيد من سوريا، قال بسخرية: "مِن لمّا بلّشت الثورة بسوريا، الله ريّحنا من شوفة المسلسلات"، وتابع: "أعتقد أنّ السؤال الأساسيّ حول إن كانت الدراما العربيّة تحاول نقل فكرٍ تحرّريّ أو فكر استعباديّ؛ فهي لا تنقل فكرًا تحرّريًّا أبدًا، بل تنقل الفكر الاستعباديّ الّذي يُعجب السلطات، وسلطة رأس المال بالدرجة الأولى، رأس المال الخليجيّ تحديدًا. أمّا في ما يخصّ الدراما السوريّة، فأنا أعتقد أنّ الفنّانين والمخرجين وكتّاب السيناريو، تخلّوا عن قيم الإنسانيّة كلّ التخلّي، وكأنّنا مُتْنا، وكأنْ ليس شهود على ثمانية أعوام مضت، بكلّ الدم والوجع".

وتابع: "إنّ ما يحدث الآن في الدراما السوريّة متاجرة بالدم، متاجرة بالوجع، وهي لا تُشير إلّا بواحد في المئة إلى جرائم النظام، وروسيا، وكلّ الميليشيات. إن عجزت الدراما عن تصوير معاناة طفل في المخيّم وأسباب تشرّده، فهي لا تستحقّ المشاهدة. لم يوجد مسلسل واحد تحدّث عن هذا السياق إلّا ساوى بين الجلّاد والضحيّة، حتّى عند الحديث عن ’داعش‘ مثلًا، نجد أنّ الأسلوب كارتونيّ جدًّا. كلّ ما يحدث هذا العام هو مساواة بين الجلّادين والضحايا، ومتاجرة بدماء الّذين ماتوا. أنا أعي أنّهم بحاجة إلى التمويل، وإلى لقمة العيش، وأنّ هذا عملهم، لكن إن لم يستطيعوا الحديث بجرأة وإنسانيّة وصدق، فلا حاجة لهم بهذه الموضوعات؛ فليصنعوا مسلسلات عن الاحتلال العثمانيّ، وانتهى الأمر".

 

دراما بائسة، ومستوًى في تراجع

نجد مِن متابعة الدراما هذا العام، ومن آراء الكتّاب والمختصّين، أنّ الدراما العربيّة "بائسة" بعامّة هذا الموسم، وأنّ الأعمال الجيّدة قليلة جدًّا، إن لم تكن نادرة؛ فلا مصداقيّة في العمل، ولا مستوًى فنّيًّا ولا أخلاقيًّا، غير أنّ القيم الّتي تردّدها المسلسلات قيم ذكوريّة ورجعيّة وتجهيليّة، أكثر من أيّ شيء آخر.

بطبيعة الحال، هذه هي الصناعة وهذه متطلّباتها؛ فضمن القنوات العربيّة الّتي يحمل كلٌّ منها سياسة أصحابها ومموّليها، لا تتبقّى مساحة للعمل الجيّد، ولا للعمل الإنسانيّ أو الثوريّ أو المتمرّد.

 

 

نداء عوينة

 

 

محرّرة في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. بدأت العمل الصحافيّ وكتابة المحتوى والتحرير عام 2008، نشرت العديد من المقالات في الصحف والمواقع العربيّة والفلسطينيّة. حاصلة على البكالوريوس في اللغتين الفرنسيّة والإنجليزيّة، والدبلوم العالي في الإعلام، ودرجة الماجستير في دراسات التواصل الدوليّ، والدكتوراه في نقد الأدب العربيّ المعاصر.