كراسيّ ألمودوفار الثلاثة في "ألم ومجد"

من فيلم "ألم ومجد" لألمودوفار

خاصّ فُسْحة - ثقافيّة فلسطينيّة

مَنْ هو الفنّان؟ ماذا يعني أن تكون فنّانًا؟ ما علاقة الفنّ بالحياة؟ هل الفنّ يقلّد الحياة؟ أم أنّ الحياة تقلّد الفنّ؟ أين تقع الخطوط الأخلاقيّة الّتي بإمكان الفنّان تجاوزها من أجل خلق عمل فنّيّ؟ ما علاقة الألم بالفنّ؟ هل الفنّ مسكّن للآلام؟ أم أنّ الفنّ يُولَد من الألم؟

جميع هذه الأسئلة يتعامل معها الفيلم الأخير لبيدرو ألمودوفار "ألم ومجد - Pain And Glory"، من خلال قصّة مخرج باسم سلفادور مايو (أداء أنطونيو بانديراس)، الّذي يتأمّل في الخيارات الّتي قام بها خلال حياته، حين يتضارب الماضي بالحاضر، والواقع بالخيال من حوله.

يعاني سلفادور آلامًا مزمنة في جسده، ولا سيّما آلام الظهر والرأس، ما يجعله عاجزًا عن الكتابة والتحضير لمشروع فيلم جديد. يذهب سلفادور خلال الفيلم في رحلة إلى ماضيه، عن طريق المرور في ثلاث محطّات/ علاقات تبدو أنّها كانت مركزيّة في حياته: الأولى مع الممثّل الرئيسيّ لفيلمه القديم "نكهة" (في الإسبانيّة: Sabor)، والثانية مع حبيبه السابق فيديريكو (أداء ليوناردو سباريليا)، والثالثة الأخيرة مع أمّه. لكن، موازيًا للتصالح الّذي يبحث عنه سلفادور خلال الفيلم، والتحوّل الّذي يمرّ به، ثمّة تحوّل آخر يحدث أمام أعيننا؛ تحوّل فكرة معيّنة إلى عمل فنّيّ، وفي السياق الميتا للفيلم، تحوّل فكرة إلى فيلم.

 

تفكيك معنى "فيلم"

يُعَدّ بيدرو ألمودوفار من المخرجين التابعين لتيّار ما بعد الحداثة، بجانب روبرت ألتمان وترانتينو وغيرهما؛ أي أنّ أفلامه تتميّز بموقف من الشكّ والسخرية، ورفض الروايات الكبرى وأيديولوجيّات الحداثة، فأفلامه تحاول أن تقلب الاتّفاقيّات السائدة للبنية السرديّة وتوصيفها، وتحاول أن تمتحن "إيقاف عدم التصديق" (Suspension Of Disbelief) لدى المشاهدين. وإضافة إلى ذلك، غالبًا ما ترتبط أيديولوجيّة ما بعد الحداثة بمدارس فكريّة مثل "التفكيكيّة" (Deconstruction)، وألمودوفار يستعمل التفكيك في أفلام عديدة له. على سبيل المثال، في فيلمه "كعب عالٍ - High Heels" (1991)، يفكّك ألمودوفار معنى "الذات" عن طريق قصّة ريبيكا (أداء فكتوريا أبريل)، وهي ابنة ممثّلة مشهورة، عاشت كلّ حياتها في ظلّ أمّها ونجاحاتها. والآن، نجد هذه الأداة مستعملة مرّة أخرى في فيلمه الجديد، لكن ما يفكّكه ألمودوفار الآن هو معنى "فيلم". ماذا يكوّن فيلمًا؟ وما السيرورة الّتي تمرّ بها الفكرة، منذ ولادتها حتّى الصور الّتي نشاهدها على الشاشة؟ وأين تكمن التناقضات والتوتّر في عمليّة الإبداع؟

 

 

يستعمل ألمودوفار من أجل هذا الغرض أداة أخرى، تُسمّى في العربيّة "فكرة مهيمنة/ متكرّرة" (في الألمانيّة: Leitmotif). استُعمل هذا المصطلح أوّل مرّة في الحديث عن موسيقى فاجنر Wagner، وخاصّة الأوبرات، ومعناه تكرار عبارة موسيقيّة قصيرة تكون مرتبطة بشخص، بمكان، أو بفكرة معيّنة؛ فكلّما سمعنا هذه العبارة القصيرة ربطناها فورًا بالشخص الّذي تُعزف له عند دخوله المسرح، أو بمكان معيّن ظهر كلّما سمعناها. توسّع استعمال هذا المصطلح في ما بعد، فوصل أيضًا الأدب والمسرح والسينما. واحد من أشهر الأمثلة في السينما للفكرة المهمينة/ المتكرّرة يكمن في ثلاثيّة الألوان لكيشلوفسكي: "أزرق" (1993)، و"أبيض" (1994)، و"أحمر" (1994). نصادف في الأفلام الثلاثة مشهدًا لعجوز تمشي متّجهة نحو حاوية نفايات، مُعَدّة بخاصّةٍ لزجاجات بلاستيكيّة، وتحاول بصعوبة ليستقيم ظهرها، كي تتمكّن من إدخال الزجاجة الفارغة إلى الحاوية. يستعمل كيشلوفسكي هذا المشهد؛ لا ليُضيف طبقة أخرى للقصّة الّتي يرويها الفيلم، إنّما لكي يفتح لنا نافذة صغيرة، نستطيع من خلالها النظر عميقًا في مزايا الشخصيّات المركزيّة. التفاعل الّذي يحدث بين كلّ شخصيّة والعجوز، يعطينا لمحة إضافيّة ومهمّة عن الشخصيّات ومكانها في عالم الفيلم.

يفكّك ألمودوفار معنى "فيلم" عن طريق استعمال قطعة أثاث واحدة، لتصبح الفكرة المهيمنة/ المتكرّرة في الفيلم: الكرسيّ. 

 

كرسيّ أوّل... تحت الماء

قبل أن نرى المشهد الأوّل، يبدأ الفيلم باستعراض أسماء القائمين على العمل، من الممثّلين والمنتجين والمصوّرين والمخرج نهايةً. تظهر الأسماء على مربّع أبيض يتوسّط الشاشة، وفي الخلفيّة نرى أشكالًا ورسومات ملوّنة. تتغيّر الأشكال والألوان، ويبقى المربّع الأبيض مكانه وسط الشاشة. منذ هذه اللحظة، وقبل أن يبدأ الفيلم، يضع ألمودوفار موضوع الأفلام والفنّ وصناعتهما في مركز الأحداث. يصبح المربّع الأبيض رمزًا للّوحة القماشيّة الّتي يرسم عليها الفنّان، وفي حالة المخرج، هي الشاشة البيضاء الفارغة الّتي تنتظر موقع تصوير، وممثّلين، وملابس، وإضاءة. أمّا بالنسبة إلى الألوان الّتي نراها خلف هذا المربّع، فهي بمنزلة رمز لما يحدث "وراء" العمل الفنّيّ. ترتبط هذه المشاهد بشكل أعمق بموضوع صناعة الأفلام لاحقًا في الفيلم، حين نواجه الكرسيّ الثاني في ثلاثيّة الكراسيّ.

 

ما يفكّكه ألمودوفار الآن هو معنى "فيلم". ماذا يكوّن فيلمًا؟ وما السيرورة الّتي تمرّ بها الفكرة، منذ ولادتها حتّى الصور الّتي نشاهدها على الشاشة؟ وأين تكمن التناقضات والتوتّر في عمليّة الإبداع؟

أمّا الآن، فبعد أن تعرّفنا على القائمين على هذا العمل، يبدأ المشهد الأوّل، ونرى سلفادور جالسًا على كرسيّ تحت مياه بركة السباحة. تقترب الكاميرا منه حتّى تُظهر لنا ظهره، فنرى أنّه قد مرّ بعمليّة جراحيّة في عموده الفقريّ. ينتقل المشهد إلى مياه نهر تجلس بالقرب منه أربع نساء، يغسلن الملابس وبصحبتهنّ طفل صغير. نفهم من المشهد أنّ الطفل هو سلفادور، وأنّ إحدى النساء أمّه. يتحوّل المشهد إلى سحر، يمتزج فيه غناء هؤلاء النساء ومنظر الطبيعة مع النهر والأشجار. ننظر إلى النساء وإلى هذا المشهد عبر عينَي سلفادور الصغير، حتّى نعود من جديد إلى سلفادور وهو يُخرج رأسه من مياه البركة. يبدو المشهد للوهلة الأولى مجرّد ذكرى من طفولته المرتبطة أيضًا بالمياه؛ فهل فعلًا ذلك؟ بعد أن ننتهي من مشاهدة الفيلم كاملًا، ندرك أنّ كلّ هذه المشاهد الّتي حسبناها ذكريات من طفولة سلفادور، هي في الحقيقة مشاهد من الفيلم الّذي يعمل عليه؛ أي أنّنا كنّا نشاهد على مدار ساعة و53 دقيقة فيلمًا داخل فيلم؟ تتغيّر نظرتنا إلى كلّ الأحداث، ويأخذ هذا المشهد معنًى آخر: إنّه ولادة فكرة.

ليست صدفة أنّ المشهد الأوّليّ للفيلم يحصل تحت الماء؛ فجلوس سلفادور تحت المياه يخفّف عنه آلام الظهر، لأنّ الضغط على الجسم يقلّ تحت الماء، فيُريحه ذلك من الآلام فترة قصيرة. ظهور المشهد وهو طفل صغير - من فيلمه القادم -، وربطه بالمياه، يصبح تمثيلًا مجازيًّا للفنّ الّذي يساعد الفنّان على التخلّص من آلامه. أمّا بعد أن وُلدت فكرة الفيلم في ذهن سلفادور، وبدأ يتخيّل المشاهد الّتي سيصوّرها، فما المرحلة القادمة؟

 

كرسيّ ثانٍ... في عمل مسرحيّ

يستعيد سلفادور علاقة الصداقة بالممثّل ألبيرتو (أداء أسيير أتكسينديا)، بعد 32 عامًا من تصوير فيلمه "نكهة". في يوم من الأيّام، يجد ألبيرتو في حاسوب سلفادور نصًّا سرديًّا عن الإدمان، فيطلب منه أن يحوّله إلى عمل مسرحيّ. يوافق سلفادور نهاية الأمر، لكنّه يخبره بأنّه نصّ اعترافيّ، ولا يريد أن يرتبط اسمه به. في الحديث عن العرض، ينصحه سلفادور أن يعرض النصّ على مسرح فارغ، تتوسّطه شاشة وكرسيّ، هنا نكون مع فكرة الكرسيّ من جديد. نشاهد عرض ألبيرتو كاملًا، وفي أحد المشاهد نرى الجمهور من الأمام، وألبيرتو جالس على الكرسيّ مقابلهم. ما يبرز في هذا المشهد أو الصورة هو الكرسيّ؛ فلونه أحمر بارز للعيان، ما يجعل أعيننا تنجذب إليه فورًا، ويتحوّل إلى مركز الصورة. يتحرّك ألبيرتو على المسرح أثناء العرض، فينتقل من الوقوف أمام خلفيّة حمراء إلى الوقوف بين خلفيّتين بيضاء وحمراء، ونهايةً يقف بجانب الخلفيّة البيضاء (الشاشة)، ويدخل فيها تدريجيًّا حتّى يتوسّطها وتقترب الكاميرا منه، إلى أن يملأ وجهه الشاشة البيضاء. إنّ الانتقال من الخلفيّة الحمراء للمنصّة إلى الشاشة البيضاء المنصوبة وسط المسرح، بمنزلة الانتقال من "خلفيّة" الفيلم إلى الشاشة؛ أي إلى الإطار الّذي سينحصر فيه المنتج الأخير لعمليّة الإنتاج.

 

 

يصبح الكرسيّ الثاني في هذا المشهد، تمثيلًا مجازيًّا للمرحلة الثانية من سيرورة خلق فيلم، وهي مرحلة الإنتاج. ما يتضمّن هذه المرحلة يمكن رؤيته في عرض ألبيرتو: تأويل الممثّلين للنصّ، الإضاءة، الخلفيّة (Set)، الموسيقى، الإخراج...

إنّ اختيار ألمودوفار لعرض مسرحيّ ليكون تمثيلًا مجازيًّا للمرحلة الثانية من سيرورة خلق فيلم، هو اختيار يشدّد على الجانب التفاعليّ من إنتاج فيلم؛ إذ يقوم عليه أشخاص عدّة، من مصوّر، إلى ممثّل، إلى كاتب... يمكن القول إنّ هذه المرحلة هي الّتي تجسّد الفكرة الّتي وُلدت عند المخرج، وهي المرحلة الانتقاليّة من فكرة إلى فيلم.

 

كرسيّ ثالث... في المطبخ

ننتقل في الفيلم إلى مشاهد تبدو أنّها ذكريات سلفادور من طفولته، لكنّ المشهد الأخير في الفيلم يكشف عن المعنى الحقيقيّ؛ إنّها مشاهد من الفيلم الجديد الّذي يعمل عليه سلفادور، المستوحى من ذكريات طفولته.

في أحد هذه المشاهد، يكون سلفادور الصغير جالسًا على كرسيّ في المطبخ، في يديه كتاب يقرؤه، بينما إدواردو (أداء سيزار فيسينتي)، العامل الّذي يساعد أمّه في ترميم البيت، منشغل في إلصاق الحجارة الملوّنة على حائط المطبخ. يلمح إدواردو سلفادور وهو جالس على الكرسيّ، فيأخذ قطعة كرتون ممزّقة ويبدأ برسمه. يتحوّل المشهد الّذي نراه في الفيلم إلى صورة مرسومة على ورقة بيضاء، وهي بالتالي المرحلة الأخيرة من سيرورة الفيلم، حينما يتحوّل الممثّلون والخلفيّة والألوان والإضاءة، إلى مجرّد صورة. بكلمات أخرى، إذا نظرنا إلى ما يكوّن رواية أو كتاب قصص أو شعرًا، نجد أنّ العنصر الأساسيّ هو الكلمة، وترتيب الكلمات بتسلسل معيّن هو ما يكوّن جملة، وتسلسل الجُمل بعد ذلك هو ما يكوّن النصّ. أمّا في الأفلام، فالعنصر الأساسيّ لأيّ فيلم هو صورة. الصور بتسلسلها تتحوّل إلى مشاهد، ومن ثَمّ إلى الفيلم الكامل؛ لذلك يكون الكرسيّ الأخير في ثلاثيّة الكراسيّ هو الفيلم نفسه، وليس صدفة أنّ هذا الكرسيّ، يظهر في الفيلم الّذي يعمل عليه سلفادور، لا في فيلم "ألم ومجد" الّذي نشاهده.

 

 

لكنّ ألمودوفار لا يكتفي بإظهار الكرسيّ في فيلم سلفادور، بل يشدّد على أنّ الكرسيّ يتحوّل إلى صورة ثنائيّة البُعد. أُضيف إلى ذلك أنّ الخلفيّة البيضاء للصورة، تذكّرنا بالمربّع الأبيض في بداية الفيلم، وبالشاشة البيضاء الّتي توسّطت المسرح في عرض ألبيرتو. ما نتج عن هذه السيرورة هو انتقال الألوان من الخلفيّة إلى الأمام، لتتحوّل الشاشة البيضاء إلى مشهد ملوّن، نرى فيه اللون الأحمر على القميص، الّذي يرتديه سلفادور وهو جالس على الكرسيّ. تندمج الألوان في بعضها بعضًا، وينتج الفيلم عملًا مستقلًّا ونهائيًّا.

 

كرسيّ المخرج

ما يميّز الكرسيّ عن بقيّة الأثاث أو الأدوات أو الأغراض الّتي كان بإمكان ألمودوفار استعمالها، لتفكيك سيرورة صنع الأفلام، أنّه بخلاف فنّانين آخرين، مثل الكاتب والرسّام والموسيقيّ، فإنّ الكرسيّ بالنسبة للمخرج قطعة الأثاث المرتبطة دومًا به. يجلس المخرج على كرسيّ مكتوب عليه من الخلف "مخرج"، ويُخرج النصّ والممثّلين والخلفيّة والموسيقى، وكلّ العناصر الّتي تكوّن الفيلم. رمزيّة الكرسيّ والطريقة الّتي يستعملها ألمودوفار بتحويله أيضًا إلى فكرة مهيمنة/ متكرّرة (Leitmotif)، للحديث عن الرحلة الّتي تقوم بها الفكرة منذ ولادتها حتّى تصبح فيلمًا، هي طريقة تُكسب الكرسيّ مكانة إضافيّة وخاصّة ومميّزة في اللغة التصويريّة للفيلم.

يفكّك ألمودوفار سيرورة إنتاج فيلم، لكي يُشير إلى الطريق الّتي يمرّ بها المخرج أيضًا؛ فعمليّة التفكيك تحدث بموازاة أحداث الفيلم، والمحطّات الّتي يمرّ بها سلفادور حتّى يصل إلى مرحلة تصوير فيلمه الجديد.

بين مشاهد الكراسيّ الثلاثة، نرى سلفادور وهو يحاول أن يسكّن آلامه المزمنة باللجوء إلى الهيروين. إنّ الآلام الجسديّة الّتي يعانيها سلفادور، ليست سوى تمثيل مجازيّ للآلام النفسيّة والوحدة القاسية الّتي يعانيها المخرج، والّتي تمنعه من خوض رحلة إنتاج جديدة وتصعّب عليه ذلك، لكنّها في الوقت نفسه ما يدفعه الإبداع وصناعة الأفلام. يتخلّص سلفادور من إدمانه الهيروين، ومن سيطرة الآلام على جسده، عبر سيرورة الإنتاج والإبداع؛ فبينما يتفكّك الفيلم مقابل أعيننا، تتفكّك أيضًا الرحلة النفسيّة الّتي يمرّ بها المخرج، ويشاركنا ألمودوفار في الصعوبة والألم، اللذين يرافقان إنتاج الفيلم، لكنّهما في الوقت نفسه يصلان به إلى المجد. في مشهد معيّن في الفيلم، يسأل الطبيب سلفادور إن كان يفكّر في مشروع جديد لفيلم، فيُجيبه سلفادور بأنّه لا يمرّ يوم من غير أن يفكّر في الأفلام وصناعتها. وبكلمات أخرى، يصوّر الفيلم المخرج أو الفنّان شخصًا تسكنه هواجس الإبداع والإنتاج، وتسيطر على حياته تمامًا، حتّى تصبح عالمه الوحيد.

يفكّك ألمودوفار سيرورة إنتاج فيلم، لكي يُشير إلى الطريق الّتي يمرّ بها المخرج أيضًا؛ فعمليّة التفكيك تحدث بموازاة أحداث الفيلم، والمحطّات الّتي يمرّ بها سلفادور حتّى يصل إلى مرحلة تصوير فيلمه الجديد.

 

عندما نشاهد المشهد الأخير من الفيلم، تبتعد الكاميرا تدريجيًّا حتّى تكشف امرأة تقف في الجانب الأيسر من الصورة، وبيدها تحمل الميكروفون. تصل عمليّة التفكيك ذروتها عندما ندرك أنّ هذه المشاهد جميعها فيلم داخل فيلم، وأنّها ليست ذكريات سلفادور، إنّما فيلمه الجديد. تنتقل الكاميرا إلى سلفادور وهو ينظر إلى المشهد، وينتهي الفيلم عندما يقول "Cut". ينهي سلفادور المشهد في فيلمه الجديد، وينتهي فيلم ألمودوفار الّذي نشاهده. بعد أن كشف لنا ألمودوفار "الحقيقة" وراء المشاهد، يُظهر لنا أيضًا مَنْ الّذي يقف وراء العمل: الفنّان المخرج.

تشدّد نهاية الفيلم على أنّ الفنّان دائمًا حاضر في أعماله، ولا يمكن إنكار هذا الأمر وتجاهله. كيف هو حاضر؟ إلى أيّ درجة؟ وفي أيّ شكل؟ هي أسئلة مركّبة ومعقّدة، وربّما تحتاج إلى مقال آخر. أمّا نهايةً، فيُجبرنا المشهد الأخير على إعادة النظر، في كلّ ما شاهدناه أثناء الساعة و53 دقيقة، ويبقى السؤال الأخير: ما العلاقة الّتي تربط بين الفنّ/ السينما والحياة؟ يبدو أنّ إحدى إجابات الفيلم أنّنا أحيانًا لا نستطيع التمييز بينهما.

 

 

شادن هيب

 

 

من مواليد الناصرة عام 1993. حاصلة على البكالوريوس في الأدب الإنچليزيّ وتاريخ الفنّ والسينما من "جامعة تل - أبيب"، تدرس الماجستير في الأدب الإنچليزيّ في الجامعة نفسها.