"عبّاس 36"... مَنْ منّا ليس لاجئًا؟

جانب من عمارة "عبّاس 36" في حيفا

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

تقول إحدى شخصيّات غسّان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا": "لقد أخطأنا حين اعتبرنا أنّ الوطن هو الماضي فقط..."، لتستدرك أنّ الوطن، بالنسبة إلى خالد (الابن)، هو المستقبل!

ولعلّ استعادة الماضي فقط من قِبَل الفلسطينيّين، بلا استحضار المستقبل، يشكّل أزمة حقيقيّة في معنى تعاملنا مع الوطن، الّذي ظلّ كنفاني يردّد سؤاله عنه: "أتعرفين ما هو الوطن؟"، لكنّنا حين نحاول الإجابة عن السؤال، نختزل الوطن بتعريفات كثيرة، غالبًا ما تلتقي في نقطة واحدة: العودة!

 

يحصل حقًّا

ونحن حين نربط العودة بتعريف الوطن، نحاول ربط الماضي بالمستقبل بلا فصل بينهما، ليشكّل كلا المفهومين معنًى واحدًا. ولقد طغت قضيّة عودة اللاجئين الفلسطينيّين كثيمة في كثير من الأعمال الإبداعيّة، المكتوبة منها أو المصوّرة، لكنّها في فيلم "عبّاس 36" أخذت منحًى آخر، في تحوّلها من حدث دراميّ متخيَّل، هو في الحقيقة حُلم ملازم، إلى فعل على أرض الواقع الفلسطينيّ، يتمثّل بعودة أُسرة "أبو غيدا" إلى بيتهم في حيفا، وتسلّمهم مفتاح البيت من أُسرة رافع. مشهد تشعر وأنت تتابعه بأنّه منفصل عن بقيّة مشاهد الفيلم، حتّى أنّك قد تشعر لوهلة بأنّك تتابع خبرًا في نشرة أخبار، تعلن بدء عودة اللاجئين الفلسطينيّين.

 

 

يغيب المحتلّ الإسرائيليّ عن الفيلم، لا شهادة له في ما يحدث، تُطالعنا أعلام كيانه في البداية على شاطئ حيفا، ثمّ بضعة مشاهد سريعة لجنود في القدس، في محاولة – ربّما - من المخرجتَين لإفساد متعةٍ ما لدى المتفرّج، خاصّة مَنْ لم يزُر الأراضي المحتلّة عام 1948 (المعروفة بالداخل الفلسطينيّ)، ويخالط اليهود ورموز كيانهم. بعض المشاهد تحاول أن تزعجك وأنت تطالع فيلمًا عن فلسطين، يبدأ بعلم الاحتلال يرفرف في حيفا، لكنّه سرعان ما يضعك في مواجهة قريبة مع فلسطين بكلّ ما فيها.

 

نفس البيت يعني نفس البيت؟

لعلّ التساؤل الّذي طرحته نضال في بداية الفيلم عن عودة الفلسطينيّ اللاجئ، تساؤل مفصليّ لم يخطر بذهننا، أو أنّنا لطالما هربنا من الفكرة دومًا؛ فهي إذ تتساءل عن مكان عودة اللاجئ: "نفس البيت يعني نفس البيت؟"، ليحمل سؤالها بُعدًا في مفهوم حقّ العودة: هل يمكن الفلسطينيّ الّذي يعود إلى بيته الأصليّ، أن "يسلب" حقّ من وُلدوا وكبروا في هذا البيت؟

عبر هذا التساؤل يصوّرنا الفيلم لاجئين جميعًا، رغم محاولتنا التملّص من هذه الحقيقة، لكنّنا سرعان ما نلاحظ أنّ قضيّة فلسطين تغلب الهمّ الشخصيّ والفرديّ، لينتصر فيها الحقّ على الواقع.

ثمّ إنّ سؤالًا آخر من شأنه أن يضعنا في مواجهة كبرى مع قضيّتنا، يتمثّل بسعي دينا أبو غيدا، وعلي رافع من قبلها، إلى شراء المنزل؛ فهل يحاول الفيلم إيجاد حلول مؤقّتة، تتمثّل بأن يشري الفلسطينيّون أملاكهم ليضمنوا عودتهم إليها؟

لا تدور أحداث الفيلم في منزل "عبّاس 36"، بل يتنقّل فينا بين حيفا، والقدس، والناصرة، وصفّورية، وصولًا إلى لندن، وواشنطن، والدوحة، في رمزيّة يمثّلها هذا الانتقال بين المدن، الّتي تشترك جميعها في أنّها مكان لوجود الفلسطينيّين، كما لو أنّ الفيلم يحاول أن يلامس كلّ فلسطينيّ أنّى كان، بين غربته داخل وطنه أو غربته في بلاد اللجوء؛ هكذا يصبح الفيلم فيلمنا جميعًا، متجاوزًا "عبّاس 36" وحيفا، إلى كلّ قضيّة فلسطين والعودة.

 

نسويّ تمامًا

نستطيع القول إنّ هذا الفيلم نسويّ تمامًا، تأخذ فيه المرأة حصّتها الكبرى كعامل مؤثّرٍ، بدايةً من تمسّك المرحومة سارة رافع بأحقّيّة أُسرة "أبو غيدا" بمنزلهم، ثمّ سعي نضال رافع الابنة إلى البحث وإعادة الحقّ إلى أصحابه، وصولًا إلى إنتاج فيلم من قِبَل مخرجتين، هما مروة جبارة ونضال رافع، مع ذلك الحضور الطاغي لِدينا أبو غيدا خلال الفيلم، ومتابعتها لحقّ عائلتها؛ فتُقدَّم صورة المرأة فاعلًا، بحيث تتجاوز تلك الصورة النمطيّة، المحصورة بدورها أُمًّا لشهيد أو زوجة لأسير.

لقد نجحَت - في تصوّري - نضال رافع، في أن تتجاوز القصّة الشخصيّة، وأن تكون لسان حالنا جميعًا، كما نجحَت مروة جبارة في أن تصنع فيلمًا يحمل عناوين كثيرة غير عنوانه، حتّى أصبح فيلمًا يختصر أفلامًا عدّة، ويُعيدنا بضغطة على زناد الكاميرا إلى حيفا...

 

 

روني أبو غزالة

 

 

 

خرّيج قسم اللغة العربيّة وآدابها في جامعة حيفا، ناشط طلّابيّ واجتماعيّ.