"إن شئت كما في السماء"... جَدْلٌ سينمائي بخيط رفيع

إيليا سليمان في "إن شئت كما في السماء"

 

الشاهد، الباحث، الصامت، المتكلّم... يجوب مساحات الغربة وحيدًا في وطنه والعالم الواسع، يجمع بين فرديّته والجمع الّذي وُلد منه، وبفعل إرادته ينتمي إليه، ينطق بلسانه. جمعٌ يعايش قضايا شائكة في عالم شحيح الفرص لمَنْ انتكب، نكبته بأن سُلبت أرضه وبلده منه وسلطته عليه عنوةً وظلمًا. من تلك النكبة يصحو متأمّلًا حالمًا، يطرق الأبواب كلّها ليقول للعالم أجمع: "أنا من الناصرة ... أنا فلسطينيّ ..."، وبلغته هذه يتفرّد.

"إن شئت كما في السماء"... قصّته ربّما تشبه قصص شعوب أخرى، كما أتى على لسان أحد المنتجين وقد رفض اقتراح مشروعه بحجّة هذا الادّعاء؛ إذ أراد له أن يكون أكثر "فلسطينيًّا" حسب رأيه. بكلمات أخرى، أراد منه مشروعًا يُرضي المشاهد الغربيّ وأجندته هو، لكنّه غفل فلسطينيّة إيليا سليمان المتميّزة الّتي تنضوي على مفردات بصريّة وجماليّة وموسيقى وفكاهة وآلام، تشكّل وعيًا يخصّ مكانًا وزمانًا محدّدَين، جغرافيا من لحم ودم وقصص إنسانيّة بعيدة عن التجريد والتسطيح والتعميم المستعلي الأبيض.

 

لوحات متعدّدة الطبقات

أيقونة إيليا الممتلئة بالمعاني تحضر بكلّ الأضداد الممكنة، هي سينما شاعريّة وساخرة ولاذعة في آن. لا بدّ للكثير من أن يُكتب عنها، لها مداخل عدّة ودلالات كثيرة مدهشة بأسلوب عرضه لها؛ أسلوب ميّزه عن غيره من المخرجين الفلسطينيّين وغيرهم، وجعل منه مرجعًا ذا أهمّيّة في السينما عامّة والسينما الفلسطينيّة تحديدًا. لقد تردّدت كثيرًا قبل الشروع في كتابة بعض الملاحظات حولها؛ لما فيها من تكثيف في الرموز والمعاني، وهو ما يجعل من الاختزال والوقوف على كنهها مهمّة شاقّة.

هو نفسه إيليا المخرج الموهوب، والمتمرّس بجمع الأطراف المتباعدة ورسمها في لوحات متماسكة متعدّدة الطبقات، تعتمد علاقات بصريّة ذات إيقاع يقترب إلى التفكيك ويبتعد عن الحبكة الروائيّة

رموز ودلالات ترافقنا منذ اللحظة الأولى في "رحلة بطله"، هو نفسه إيليا المخرج الموهوب، والمتمرّس بجمع الأطراف المتباعدة ورسمها في لوحات متماسكة متعدّدة الطبقات، تعتمد علاقات بصريّة ذات إيقاع يقترب إلى التفكيك ويبتعد عن الحبكة الروائيّة، لوحات يكشف من خلالها باطن الأشياء وما خفي وغفلته العين. أمر يتطلّب من المشاهد تدقيقًا عميقًا، وثقافة بصريّة وسينمائيّة وفنّيّة متأمّلة ومتروّية، للتمكّن من سبر غور دلالاتها الجماليّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، بعيدًا عن الترفيه والسرعة والتلذّذ، من اللحظة الّتي يواجهها المخرج ويواجهنا بها، حدّ الشعور بالحرج مع المشهد الأخير.

 

جهمور الفنّان

ربّما يكون هذا التشكيل المليء بالألغاز و"غير المفهوم" للبعض إشكاليًّا، بل مأخذًا على إيليا أيضًا؛ إشكال تعود جذوره إلى سجال بدأ منذ سالف الأزمان (أبو تمّام وشعره غير المفهوم إلّا "لصفوة" الناس والنخب)، ويمتدّ بنا إلى اليوم؛ سجال لم - ولن - يحسم العلاقة الجدليّة بين الفنّان وجمهوره، وستبقى الأسئلة في هذا الشأن مفتوحة؛ أسئلة من النوع: هل على الفنّان أن يعمل حسب إدراك غالبيّة الجمهور وفهمهم، أو ما هو متّبَع تسميته "الناس"؟ هل على الفنّان أن يُنتج عملًا فنّيًّا حسب حاجة الجمهور ورغبتهم، ليصبح مشروع استهلاك كما في باقي نواحي الحياة؟ هل يبدأ الفنّ عند الجمهور وينتهي به؟ وكيف لعوالم متباعدة أن تختلط وتتداخل وتنسجم بين الفنّان والجمهور؟ وهل ثمّة حاجة إلى ذلك أصلًا؟ هل يلتحم هاجس الفنّان بشعبه دومًا؟ هي قضايا ترافق البشريّة منذ فجر الحضارات، وهي غاية بالأهمّيّة وشائكة، لكنّها كثيرة ومتشعّبة؛ إذ تفتح على أسئلة كثيرة أخرى، تتعلّق بحرّيّة التعبير والإبداع خارج المألوف، ورفض التجنّد لأجندات على أنواعها.

كلّما تقعّرت اللغة الفنّيّة، وتراكمت على ما سبقها، وتركّبت جوهريًّا وجماليًّا، احتاج الأمر من الجمهور إلى معرفة وثقافة عميقتين، ومقدرة على قراءة المفردات المكوّنة لها وتفكيك رموزها

ربّما لا يتّسع لنا التعمّق بهذه الأسئلة هنا، لكن لا بدّ من أن نُشير إلى أنّ تغييب التثقيف السينمائيّ والفنّيّ والموسيقيّ، والتثقيف للإبداع والخيال من حيّز التربية والمرافق الثقافيّة المختلفة على امتداد الأجيال، له الدور الأكبر في توسيع رقعة الجهل عمومًا، وكذلك الفجوة الآخذة في الاتّساع بين الجمهور والفنّان، الّتي تُولّد الغربةَ بينهما والتنافر؛ إذ كلّما تقعّرت اللغة الفنّيّة، وتراكمت على ما سبقها، وتركّبت جوهريًّا وجماليًّا، احتاج الأمر من الجمهور إلى معرفة وثقافة عميقتين، ومقدرة على قراءة المفردات المكوّنة لها وتفكيك رموزها، بل إلى خلق معانٍ جديدة أيضًا تستند إلى هذا التفاعل الحاصل معها؛ وعليه فإنّ الجهل يولّد لغة شعبويّة لا تتعدّى التقييم إلّا من باب مع أو ضدّ، حلو وقبيح، جيّد وسيّئ، مسموح وممنوع... وما إلى ذلك من تحليل لا يتعدّى أثره قطرة ماء، لتوّها سقطت على صفيح ساخن.

 

صوت وصمت

مع الأحداث أو ما يشبه الأحداث القليلة في الفيلم، يحدث كلّ شيء...

بخيط رفيع يجدّل إيليا سليمان الصورة والموسيقى والصمت. صوت وصمت، ضدّان يراقص أحدهما الآخر على امتداد حركة المَشاهد وتراكمها، ليدلّ على غنًى حسّيّ وإدراك عميقين لديه لماهيّة أثر التوتّر الحاصل بينهما في السينما عند المشاهد ووجدانه، فيها يسير أحيانًا بمحاذاة ما يمكن أن يوصف عند البعض بـ "الكيتش"، دون أن يتعثّر ودون أن يوقعنا معه بكارثة المتوقّع والممجوج. صمت وموسيقى يمتزجان بالمشهد كأنّهما وُلدا معه ولأجله، صمت يختزل التعبير في إيماءات تغلب الكلمات، وموسيقى عربيّة كلاسيكيّة تُوِّجَت بأغنية "بَحلم معاك" لنجاة الصغيرة، الّتي تداعب الروح والوجدان، ويطرب لها دمع خفيّ سائل يستتر في عتمٍ أبعد من صالة العرض.

 

كاريكاتوريّة الحياة

يجول هذا الشاهد المتفرّج بناظريه على العالم بعيدًا عن السياحة، يقتنص مشاهد تكشف بشكل تهكّميّ طبقات كثيرة يستعرضها أمامنا من الظاهر إلى الباطن، مشاهد كاريكاتوريّة لحياة تحمل داخلها المأساة ممزوجةً بسخرية سوداء ودعابة. في الحالة الباريسيّة على سبيل المثال لا الحصر، يكشف ما تحت البريق المسكون بالأجساد الأنثويّة الغضّة، والشهوة الأزليّة، والإثارة، والأزياء الملوّنة للمارّة في شوارع المدينة وأزقّتها المنمّقة، والشاشات المُطلّة عليها، ويكشف ما اختبأ تحت غطاء السكون الخالي من الشوائب، والمفتعل في أنظمة التنوير الّتي ترسل في أحد المشاهد بممثّليها برأفة رحيمة "كحنّيّة الإوزّ" للتأكّد من أنّ الرجل الّذي يسكن الشارع قسرًا، بعد أن لفظه النظام، لا يزال في حالة صحّيّة جيّدة، وليقدّموا له الطعام والشراب في "مرقده" على أحد أرصفة مدينة الحضارة العصريّة.

في الحالة الباريسيّة... يكشف ما تحت البريق المسكون بالأجساد الأنثويّة الغضّة، والشهوة الأزليّة، والإثارة، والأزياء الملوّنة للمارّة في شوارع المدينة وأزقّتها المنمّقة، والشاشات المُطلّة عليها، ويكشف ما اختبأ تحت غطاء السكون الخالي من الشوائب

وفي الليل، وفي مشهد آخر، تأتي عاملة النظافة المكتنزة لتزيل الغبار عن دمى العرض، وعن شاشة تسكنها دمًى بشريّة نحيفة بعيدة عن مجاعة الفقراء، تتحرّك ذهابًا وإيابًا بدوريّة متعاقبة وإيقاع لا يهدأ. شاشة عرض تطلّ على أحد الأحياء وشبابيك المنازل المقابلة، الّتي يسكنها بشر لا نرى وجوههم، وحيدين هناك في ظلّ عالمٍ، يعمي بريقه العينين.

وفي نيويورك يلتصق السلاح بأكتاف الكبار والصغار، في المتجر والشارع وسيّارة الأجرة، وهم يعيشون روتينهم اليوميّ على حافّة العبثيّة التراجيديّة.

إذن، هي ازدواجيّة المعايير، في كلّ الأماكن ومع كلّ الناس والثقافات، وإن اختلفت فحواها وأشكالها التصويريّة ولغتها المحكيّة بين الناصرة وباريس ونيويورك؛ ازدواجيّة تجعل المشاهد يضحك ويبكي في ذات الحين.

 

المصدر الفلسطينيّ

ينهل سليمان مشاهده - في كثير من الأحيان - من المخزون الثقافيّ والفنّيّ الفلسطينيّ الّذي ينتمي إليه، من حنظلة الّذي كبر واكتسى بلباس عصريّ، واعتمر قبّعة الخواجات (أي الأجانب بمحكيّة أهل فلسطين)، إلى أيقونة المرأة الفلسطينيّة الآتية من لوحات إسماعيل شمّوط ومَنْ تبعه لاحقًا؛ تعبيرًا عن فلسطين الفتاة. من كروم الزيتون الّتي خلت من أهلها عنوة يُحيي أيقونة فلسطين الفتاة، في لحظة تشبه المعجزة تطلّ عليه وعلينا، امرأة فتيّة بكامل حلّتها، من بين أغصان الزيتون تمشي بخفّة الصبا، وتنقل جرار الذكريات، وإرث له صوت ماء عذب. وهو العاشق الأبديّ، والانتظار يطول.

نرى أيضًا أنّه ينقل بعضًا من رموزه معه من فيلم إلى آخر، وتأخذ استعمالاتها جوهرًا وأشكالًا أخرى، أمثلة على ذلك: العصفور، والعلم الفلسطينيّ، والدمية بالزيّ الفلسطينيّ في فيلم "سجلّ اختفاء".

هي ازدواجيّة المعايير، في كلّ الأماكن ومع كلّ الناس والثقافات، وإن اختلفت فحواها وأشكالها التصويريّة ولغتها المحكيّة بين الناصرة وباريس ونيويورك؛ ازدواجيّة تجعل المشاهد يضحك ويبكي في ذات الحين.

عودة إلى بداية الفيلم، ورغم الاحتمالات الكثيرة لتفسير أيّ مشهد في الفيلم لما يحمله من دلالات مزدوجة، أقول إنّها ليست بمصادفة أن يفتتح ابن الناصرة فيلمه بمفارقة ساخرة من العيار الثقيل، بمشهد الصليب محمولًا على الأكفّ، وأصوات المصلّين يبشّرون بقيامة المسيح.

"إن شئت كما في السماء"، فيلم يُثير الكثير من الأسئلة، عن فلسطين والعالم والسينما والفنّ والموسيقى والمحكيّ والمسكوت عنه. أهمّيّته تكمن في مقدرة مخرجه على أن يصوغ قضايا وجوديّة وإنسانيّة وسياسيّة واجتماعيّة، بصور سينمائيّة تُشكّل بَصْمته المتفرّدة، بعيدًا عن الشعار "الكليشيه"، قريبًا من الشعر.

 

 

منار زعبي

           

 

فنّانة تشكيليّة، ومنسّقة معارض. حاصلة على الماجستير في الفنون التشكيليّة من جامعة حيفا. تعمل محاضرة في كلّيّة بيت بيرل، كما عملت في جامعة حيفا. عضو مؤسّس لجمعيّة مسار – مركز للتربية، ولمدرستها البديلة التي تحمل الاسم نفسه.