فيلم "الحفرة": الخلاص يكمن في الأسفل، لا الأعلى

مشهد من فيلم "الحفرة"

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"ثمّة ثلاثة أنواع من الناس: مَنْ هم في الأعلى، ومَنْ هم في الأسفل، ومَنْ يسقطون".

بهذه العبارات يبدأ فيلم الخيال والرعب الإسبانيّ "الحفرة - El hoyo" (2019) (بالإنجليزيّة: The Platform)، للمخرج الإسبانيّ جالدير جاستيلو أوروثيا. تدور أحداثه في مكان افتراضيّ يدعى "الحفرة"، وهو عبارة عن سجن عموديّ يضمّ حجرات أسمنتيّة في عدد كبير من المستويات، يضمّ كلٌّ منها سجينين اثنين يتغيّران بشكل عشوائيّ شهريًّا، ويتوسّطها فراغ على شكل مستطيل، تهبط عبره رأسيًّا منصّة مليئة بالطعام، نرى في بداية الفيلم طريقة إعدادها بعناية فائقة وبالغة الدقّة، وتتوقّف في كلّ مستوًى مرّة واحدة يوميًّا لمدّة دقيقتين، فإذا كنت في المستوى الأوّل فأنت أمام مائدة عامرة بأشهى الأطعمة، وإذا كنت في المنتصف فستأكل بقايا مَنْ هم في الأعلى، أمّا إذا كنت في الأسفل فلن تجد سوى الصحون الفارغة حتّى من العظام، وفي كلّ الأحوال لا يمكنك الاحتفاظ بالطعام؛ لأنّ الاحتفاظ به سيتسبّب في انخفاض درجة حرارة الحجرة حتّى التجمّد، أو يرفعها حتّى تحترق فيها كالرماد، حسب قانون "الحفرة".

الفيلم المقتبَس من نصّ مسرحيّ للكاتبَين ديفيد ديسولا وبيدرو ريفيرو، يقول ما يقوله عبر كثير من الاستعارات والترميز، بعيدًا عن الابتذال والمجاملة، بل بلا رحمة في كثير من الأحيان...

الفيلم المقتبَس من نصّ مسرحيّ للكاتبَين ديفيد ديسولا وبيدرو ريفيرو، يقول ما يقوله عبر كثير من الاستعارات والترميز، بعيدًا عن الابتذال والمجاملة، بل بلا رحمة في كثير من الأحيان، وقد تشاركت عوامل عدّة في إنجاحه؛ فهو ذو مضمون أعمق من أنّه مجرّد فيلم رعب وإثارة، ثمّ إنّ الشخصيّات مختارة بعناية فائقة ورمزيّة بليغة، يضاف إلى ذلك نجاح عناصر الترقّب والتشويق، والإثارة المتلاحقة، والموسيقى المناسبة، متوَّجًا كلّه بإخراج فنّيّ يتناسب مع الصورة والمضمون.

الفيلم الّذي أطلق عام 2019، وكان عرضه الأوّل في فعاليّات قسم "جنون منتصف الليل"، ضمن "مهرجان تورنتو السينمائيّ الدوليّ" في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي 2019، نال أيضًا جائزة تصويت الجمهور لأفضل فيلم ضمن هذا القسم، وحصل على إشادة كبيرة من عدد من النقّاد السينمائيّين.

 

صورة لطبقيّة المجتمع

مستويات "الحفرة" تمثيل حقيقيّ لطبقات المجتمع وصراعها وحقدها الأزليّ، ولفساد النظام الرأسماليّ الّذي يستحوذ على كلّ الموارد، ويترك البقيّة يتصارعون على الفتات؛ بقايا الطعام وبقايا الفرص، وهو ما كتب عنه ووصفه كارل ماركس وفريديرك إنجلز في البيان الشيوعيّ، بأنّ "تاريخ أيّ مجتمع حتّى الآن ليس سوى تاريخ صراعات طبقيّة". وكما مستويات "الحفرة"، يحتوي الفيلم على طبقات تتكشّف حقيقتها واحدة تلو الأخرى، وتتشابك معها الرموز والدلالات كلعبة أحجيّة لتشكّل الصورة الكاملة في النهاية.

الفيلم الغارق في عالم ديستوبيّ سوداويّ، يطرح بشكل أساسيّ معضلة الحرص على البقاء الإنسانيّ في ظلّ أقسى الظروف، وكيف يمكن أن تدفع سلطة الجوع البشر إلى حافّة الجنون، في سبيل النجاة. لكن ما الجنون؟ الكثير من العقل ربّما هو الجنون، ربّما الجنون أن تتخلّى عن أحلامك، وربّما الأكثر جنونًا أن تتمسّك بتلك الأحلام أصلًا، أو أن ترى الحياة كما هي، لا كما يجب أن تكون.

 

 

تتجلّى أهمّيّة إضافيّة للفيلم في الوقت الراهن، في ضوء ما تعيشه البشريّة في مواجهة كارثة الوباء العالميّ فايروس كورونا (Covid-19)، ويدفعنا ذلك إلى التأمّل في كيفيّة إسقاط ما يطرحه الفيلم، على ما سيكون عليه العالم بعد الكارثة؛ فبعد إلزام الناس بالحجر الصحّيّ المنزليّ وحظر التجوال، تكشّف وجه البشر الحقيقيّ في مواجهة الأزمات، وطغت غريزة البقاء ومشاعر الخوف، الّتي تجلّت في الهلع وحمّى الاستهلاك والتهافت على شراء الطعام بشكل أساسيّ، ومن ثَمّ احتياجات المنزل، بل حتّى الأسلحة في بعض الدول. اللقطات العديدة لصور الأرفف الفارغة، ومشاهد المشادّات بين الناس الّتي وصلت حدّ تسديد اللكمات أحيانًا، اختزلت ببلاغة مشهد اللحظة الراهنة بكلّ مأساويّة وبشاعة.

إذن، نحن أمام عالم ينقسم إلى ثلاثة أنواع من الناس: مَنْ هم في الأعلى ويسعون إلى الحفاظ على مزاياهم بكلّ السبل، ومَنْ هم في الأسفل ويريدون التغيير لكنّهم لا يملكون أدواته، أو يعتريهم الخوف من التغيير إلى الأسوأ فيرفضونه، وربّما لا يمتلكون القدرة والجرأة للمواجهة فيستكينون للواقع، والفئة الثالثة من الناس أولئك الّذين يسقطون سواء بالمعنى الحرفيّ؛ أي مَنْ يُلقون بأنفسهم أو يُلقى بهم إلى الهاوية، أو أولئك الّذين يقرّرون الهبوط إلى العالم السفليّ، ويضحّون بكلّ ما يملكونه سعيًا إلى التغيّر؛ أليس كلّ ذلك انعكاسًا لما تعيشه المجتمعات المقموعة، وثورانها ضدّ الظلم والفساد والفقر والجوع!

 

هل أنت شيوعيّ؟

تدور الأحداث حول بطل الفيلم غورينغ، المثقّف الحالم الّذي اختار أن يدخل السجن بمحض إرادته للحصول على دبلوم مهمّ، وفي نفس الوقت من أجل الإقلاع عن التدخين؛ إذ إنّ التدخين ممنوع في "الحفرة"، لكن حسب قوانين هذا المكان فلا يمكنه الخروج إلّا بعد انقضاء الفترة المتّفق عليها. تتقاطع رحلته مع خمس شخصيّات رئيسيّة في الفيلم، يؤثّر كلٌّ منها فيه، وتغيّر من نظرته وتعامله مع الأمور في السجن، وتشكّله من جديد حسب تجربته معهم.

يستيقظ غورينغ في المستوى 47 في بداية الشهر، ليلتقي تيرماغاسي، الّذي تمثّل شخصيّته تجسيدًا لإفرازات النظام الرأسماليّ، حين يجرَّد الفرد من إنسانيّته، ليس فقط في ظلّ الظروف الصعبة، بل في أوقات الرخاء والرفاهيّة أيضًا؛ فتتفاقم لديه الفردانيّة والجشع، ويصبح همّه الرئيسيّ متعته وخلاصه الفرديّ. خُيِّر تيرماغاسي بين القدوم إلى "الحفرة" لسنة أو البقاء في مستشفى الأمراض النفسيّة؛ لأنّه قتل بالخطأ أحد المهاجرين غير الشرعيّين، كان يعبر الشارع صدفة، بعد أن ألقى بتلفازه من النافذة؛ إذ شعر بالخديعة بعد مشاهدته أحد برامج التسوّق الّتي تسعى جاهدة إلى إقناعك بشراء منتجات "لن تستقيم حياتك بغيرها". إنّها الحالة المديدة الّتي يتحوّل فيها الفرد إلى مستهلك غير واعٍ، في ما يواصل النظام الرأسماليّ وعوده الكاذبة بتحقيق أحلام العمّال، إذا ما عملوا بكدّ وتواصل، بيد أنّه في حقيقة الأمر يحيلهم إلى ماكنات بشريّة أو عبيد للنظام، تمامًا كما يتجسّد ذلك في نظام "الحفرة" الرأسماليّة.

يحاول غورينغ فَهْم آليّة عمل الحفرة كما المشاهد في بداية الفيلم، وفور أن يدرك عملها يسعى إلى تغيير الأمور؛ فيتواصل مع مَنْ هم في المستوى الأعلى ليحدّدوا حصصهم الغذائيّة، لأنّ تحديد الحصص فيه عدالة. يمنعه تيرماغاسي من ذلك، ويتّهمه قائلًا: هل أنت شيوعيّ؟

يتعلّق الأمر بشكل أساسيّ بالطعام، ومن ثَمّ الصراع عليه من أجل البقاء؛ لذا فالسؤال الأهمّ بالنسبة إلى تيرماغاسي، وقد بدأ الشهر لتوّه: ماذا سنأكل؟ أحيانًا يكون في قمّة السهولة، وأحيانًا أخرى في قمّة الصعوبة؛ يتوقّف هذا على مستواك في حفرة السجن العموديّة. يحاول غورينغ فَهْم آليّة عمل الحفرة كما المشاهد في بداية الفيلم، وفور أن يدرك عملها يسعى إلى تغيير الأمور؛ فيتواصل مع مَنْ هم في المستوى الأعلى ليحدّدوا حصصهم الغذائيّة، لأنّ تحديد الحصص فيه عدالة. يمنعه تيرماغاسي من ذلك، ويتّهمه قائلًا: هل أنت شيوعيّ؟ مَنْ هم في الأعلى لن ينصتوا إلى شيوعيّ!

وبعدما كانت علاقة جيّدة قد بدأت تتشكّل بينهما خلال الشهر، سرعان ما تلاشت وانتهت بانعدام الثقة المتبادلة، وبالصراع والدماء والهمجيّة، عندما استفاق الاثنان في المستوى 171، حيث لا طعام لشهر كامل. يستفيق غورينغ على صرخات مَنْ يستيقظون ويعرفون أين هم، بينما يجد نفسه مقيّدًا على سريره كوجبة طعام لشريكه في الحجرة، الّذي لا يَعِده أن يصبر على جوعه، يقول له: "أنا لست بقاتل، أنا فقط خائف، ربّما لن تهاجمني اليوم، لكن مع مرور الوقت ستنظر إليّ بشكل مختلف"، محمّلًا مسؤوليّة تصرّفه لمَنْ هم في الأعلى.

إذن، مَنْ يتحمّل النتائج الدمويّة لهذا الصراع؟ أيتحمّلها مَنْ هم في الأعلى كما يقول تيرماغاسي، أم الإدارة، أم الظروف، أم النظام الطبقيّ كلّه الّذي يحوّل الجوعى إلى قتلة؟ هل يكون الجائع صاحب قرار عاقل في وضع كهذا؟ يظنّ الفرد أنّه غير مسؤول عن النظام الفاسد، ولا عن تبعاته وإفرازاته المشوّهة، لكنّه لا يدرك أنّ الجشع الفرديّ جزء من هذا النظام، وكلٌّ منهما يغذّي الآخر.

إنّ عشوائيّة هذا النظام وفوضاه تشيران إلى أنّ مكانك في هذه المستويات ليس ثابتًا؛ فأنت لم تختر أن تُولَد فقيرًا أو غنيًّا، لكنّ السؤال الأكثر إلحاحًا على الأرجح: كيف ستتصرّف في كلّ مستوًى؟

إنّ عشوائيّة هذا النظام وفوضاه تشيران إلى أنّ مكانك في هذه المستويات ليس ثابتًا؛ فأنت لم تختر أن تُولَد فقيرًا أو غنيًّا، لكنّ السؤال الأكثر إلحاحًا على الأرجح: كيف ستتصرّف في كلّ مستوًى؟

يذكّرك الفيلم من جديد، وسط قساوة المشاهد، بطريقة إعداد المائدة والاهتمام بأدقّ التفاصيل، بل يصوّر المشرف أيضًا على المائدة وهو يستشيط غضبًا، بسبب شعرة وقعت في طبق حلوى "البانكوتا"، بينما يموت الناس جوعًا في "الحفرة".

 

التغيير: بالقوّة أم بالإقناع؟

هل يشعر مَنْ في الأعلى بمعاناة مَنْ هم دونهم؟ أيمكن أن يتغيّر نظام "الحفرة" الطبقيّ والرأسماليّ بالحوار والإقناع، أم ذلك سيكون باستخدام القوّة؟ يطرح المخرج هذه التساؤلات المصيريّة من خلال شخصيّة إيموغوري، الشخصيّة الرئيسيّة الثانية في الفيلم، الّتي يلتقيها غروينغ في الشهر التالي في المستوى 33، وهي عضو من الإدارة وتعمل فيها منذ 25 عامًا، لكنّها لا تعلم ما يحصل في هذا المكان، وقد جاءت بإرادتها إليه لتقديم المساعدة بعد أن خسرت معركتها مع السرطان؛ فليس ثمّة ما تخسره ولم تَعُد تبالي بأيّ شيء. ترفض إيموغوري تسمية "الحفرة"، وتصرّ على أنّ هذا المكان هو "المركز العموديّ للإدارة الذاتيّة"، ويتكوّن من 200 مستوًى، وهو بمنزلة امتحان لفحص ما تحتاج إليه ثورة التغيير، الّذي يتبعه التضامن العفويّ، لكنّها على وشك أن تدرك أنّ هذا المكان ما هو إلّا العكس تمامًا لما كانت تظنّه.

يعود بنا المخرج بتقنيّة الاسترجاع الفنّيّ (Flashback) إلى لقاء غورينغ بإيموغوري الأوّل؛ إذ كانت مسؤولة عن إجراء المقابلات مع المرشّحين للانضمام إلى "الحفرة". تسأله عن طبقه المفضّل ليضاف إلى قائمة الطعام، على المنصّة الّتي يتّضح أنّها ما هي إلّا الأطباق المفضّلة لكلّ شخص في "الحفرة"، فلو اكتفى كلّ بحصّته لكان هناك ما يكفي من الطعام للجميع.

تؤمن إيموغوري بأنّ التضامن يكون عفويًّا؛ فلا تنفكّ تحاول إقناع مَنْ هم في الأسفل لأخذ حصصهم الغذائيّة، والتفكير في مَنْ هم أقلّ حظًّا هذا الشهر، لكنّهم لا يأبهون بها بل يكيلون لها كيلًا من الشتائم في كلّ مرّة. يراقبها غورينغ الّذي غيّرته تجربته القاسية الشهر الماضي، وكشفت الواقع المرير أمامه؛ فلم يَعُد المثقّف الحالم الطيّب، ليتدخّل عبر التهديد بتلويث الطعام بالتبرّز عليه إن لم يلتزموا بطلبها؛ هكذا يقنعها بـ "أنّ هذا أكثر فعاليّة من التضامن"، وبأنّ تغيّر النظام والتضامن لا يكون عفويًّا أبدًا، بل يُفْرَض بالقوّة؛ تتحمّس هي لإقناع مَنْ هم في الأعلى، لكنّه يجيبها بكلّ برود: "لا أستطيع التبرّز إلى الأعلى".

 

"دون كيخوته" و"رمسيس الثاني" و"ميهارو"

"لم يطلب أحد كتابًا من قبل؛ ليس هذا هو المكان المناسب لمحبّي الكتب… مَن يُحضر معه كتابًا إلى هنا؟" تسأل غورينغ، الّذي يختار رواية "دون كيخوته" أو "العبقريّ النبيل" الشهيرة  للروائيّ والشاعر ميجل دي ثربانتس؛ إذ يحقّ لكلّ شخص يدخل "الحفرة" اختيار غرض واحد فقط، فتختار الأغلبيّة الأسلحة، والبنادق، والأقواس، ومضارب الغولف أو البيسبول، والمصابيح. لكن لماذا "دون كيخوته"؟ تُعَدّ الرواية من أعظم الأعمال في الأدب العالميّ، وتُرجمت إلى العديد من اللغات الأجنبيّة، ويحمل الجزء الأوّل اسم "العبقريّ النبيل دون كيخوته دي لا مانتشا"، وقد نُشر عام 1605، أمّا الجزء الثاني فنُشر عام 1615 بعنوان "العبقريّ الفارس دون كيخوته دي لا مانتشا". يبدو أنّ كاتبا النصّ يقاربان بين شخصيّة غورينغ وبطل الرواية الّذي يقاتل طواحين الشرّ، ويسعى إلى مواجهة الظلم وإحقاق العدالة، وكأنّه فارس قادم من زمن آخر.

يشير بعض النقّاد إلى أنّ معنى اسم ميهارو باليابانيّة "أن تفتح عينيك واسعًا"؛ في إشارة رمزيّة أخرى إلى العالم الّذي يختار أن يغمض عينيه عن الملايين الّذين يموتون جوعًا في العالم، بل يذهب البعض إلى إنكار سوداويّة العالم السفليّ.

يفاجئنا المخرج باسم الكلب الّذي اختارته إيموغوري كي يكون غرضها الوحيد، وهو "رمسيس الثاني"، وهنا رمز آخر يوظّفه النصّ في استعارة لعظمة الفرعون، الّذي كان الأكثر شهرة وقوّة طوال حكم الفراعنة، إلى أن قُتِلَ الكلب بصورة بشعة؛ في إشارة إلى موت العظمة الّتي يمكن أن يتوحّد تحت رايتها العمل من أجل الجماعة.

الشخصيّة الرابعة الأساسيّة في الفيلم ميهارو، الّتي تظهر منذ بداية الفيلم بدور صامت ذي بؤس واضح وصريح، دور القاتلة المجنونة الّتي تقتل شريكها كلّ شهر، لتُحَسِّن فرصتها بلقاء طفلتها الّتي أضاعتها في "الحفرة"، على الرغم من تأكيد الجميع أنّها مجنونة وواهمة؛ فلا أطفال في "الحفرة". لكن ميهارو تواصل الهبوط كلّ شهر على المنصّة لكلّ المستويات بحثًا عنها. يشير بعض النقّاد إلى أنّ معنى اسم ميهارو باليابانيّة "أن تفتح عينيك واسعًا"؛ في إشارة رمزيّة أخرى إلى العالم الّذي يختار أن يغمض عينيه عن الملايين الّذين يموتون جوعًا في العالم، بل يذهب البعض إلى إنكار سوداويّة العالم السفليّ. وببراعة، تلتقط الكاميرا غورينغ وهو يفتح عينيه لأوّل مرّة في كلّ مستوًى، وكأنّه الوحيد المبصر على حقيقة "الحفرة".

 

نحو الأسفل، لا الأعلى

يرفض غورينغ المثقّف الاستسلام لقانون "الحفرة"، ويرى أنّه لا بدّ من تخليص هذا المكان من سوداويّته؛ فالحقيقة لا تُرى إلّا من خلال التجربة. في كلّ مرّة يسعى فيها غورينغ إلى تحقيق العدالة وإحقاق المساواة، يصطدم بكيل من السخرية والاتّهامات؛ فتارةً يصفه تيرماغاسي بالشيوعيّ، وتارة أخرى تسأله إيموغوري متعجّبة: هل أنت المسيح؟ هل أتيت لتفتدينا؟ لكنّه لا يتوقّف، رغم إدراكه انعدام الخيارات أمامه، وأنّ هذه هي الطريقة الوحيدة للخلاص. تنتحر إيموغوري في المستوى 202 تاركة له جسدها ليتغذّى عليه، بينما يبدأ هو بأكل كتابه قبل أن يفعل، ومن ثَمّ تتراءى له خيالات مَنْ قضوا في "الحفرة"؛ فتظهر له أشباح مَن مرّ على أجسادهم، لأنّهم أصبحوا جزءًا منه.

لتتعرّف حقيقة شخص ما، انظر إليه عندما يفقد كلّ شيء أو عندما يفوز بكلّ شيء، بالنسبة إلى غورينغ فليس ثمّة أسوأ ممّا مرّ به. يستفيق أخيرًا في المستوى 6، حيث مائدة الطعام لا تزال عامرة، لكنّه يقرّر التخلّي عن امتيازات هذا الشهر، فيقنع شريكه في الحجرة، هذه المرّة شابّ أسود قويّ البنية يُدعى بهارات، كان منتشيًا بوصوله إلى هذا المستوى، فحاول التسلّق إلى الأعلى عبر "الحفرة" للهرب، لكنّه يفشل، ويبدّد غورينغ مساعيه بالهرب، لإقناعه بأنّ طريق الخلاص ليس إلى الأعلى، بل لا بدّ من أن تكون إلى الأسفل؛ وذلك بالصعود إلى المنصّة وتوزيع الطعام بعدل.

بقوّة السلاح سيفرض غورينغ وشريكه بهارات العدالة؛ فالعدالة أيضًا تحتاج إلى قوّة، وتحتاج إلى تضحيات، لكن هل تحتاج إلى ضحايا لتنفيذها؛ أو بمعنًى آخر أقرب إلى رؤية الفيلم، "قرابين"؟ إذن، كيف نفرّق بين الثائر والقاتل؟

إذن، يرفض غورينغ التسلّق والتملّق، وهذه المرّة يتخلّى عن امتيازاته ويبدّدها؛ فلا يمكن الحصول على الحقوق دون نضال أو تضحيات، والثائر هنا مثقّف، ليس مثقّف سلطة بل مثقّف ثورة… ثورة جياع، يضع الحرّيّة والكرامة نصب عينيه، ولا يثور على النظام فحسب، بل يسعى إلى إصلاحه، مقدّمًا الحلول العادلة.

بقوّة السلاح سيفرض غورينغ وشريكه بهارات العدالة؛ فالعدالة أيضًا تحتاج إلى قوّة، وتحتاج إلى تضحيات، لكن هل تحتاج إلى ضحايا لتنفيذها؛ أو بمعنًى آخر أقرب إلى رؤية الفيلم، "قرابين"؟ إذن، كيف نفرّق بين الثائر والقاتل؟

طريق الثورة مخاض طويل ومليء بالعقبات والتضحيات، ويحتاج إلى أدوات وأساليب متغيّرة؛ فهل يتحقّق الإصلاح بالحوار والإقناع مثلًا؟ أم يُفْرَض بالقوّة؟ أم يحتاج إلى الاثنين معًا؟ يطرح الفيلم هذه الفكرة من جديد، من خلال أحد الحكماء الّذين يلتقيهم في رحلتهم إلى الأسفل، الّذي يشير إلى أنّ تطبيق العدالة مهمّ لكن أسلوب طرحها مهمّ أيضًا، فيقنعهم بأهمّيّة إيصال رسالة واضحة وغير مشوّهة، لمَنْ هم في الأعلى وإلى الإدارة، كأن يكون طبق حلوى "البانكوتا" لم يُلْمَس قطّ.

 

رحلة بشعة... من أجل العدالة

تكشف الرحلة الّتي تتّسم بالجنون والجرأة المطلقة، نزولًا إلى المستويات الدنيا، تكشف عن قسوة عالية، ومشاهد بشعة؛ حيث القتل من أجل البقاء، لكنّهما يستمرّان بالهبوط رغم ما يتلقّيانه من ضرب واعتداء بالأسلحة، حتّى يصلا إلى القاع الّذي يتّضح أنّه في المستوى 333. يعثران في قاع "الحفرة" على طفلة ميهارو الّتي كانت تبحث عنها منذ البداية، وقد كذّبها الجميع، حتّى الإدارة نفسها ممثّلة بإيموغوري الّتي أكّدت أن لا أطفال في "الحفرة"، وهذا دليل جديد على أنّ الإدارة لا تعرف شيئًا عمّا يدور في "الحفرة". يدرك غورينغ أنّ الطفلة هي الرسالة، ويرسلها صعودًا إلى الأعلى.

يمكن اعتبار النهاية مفتوحة، وتحتمل أوجهًا عدّة حسب ما يدركه المشاهد؛ فالفتاة رمز للأجيال القادمة الّتي تستحقّ العيش بكرامة، ويمكن أن تكون رمزًا لكون الأطفال أكثر ضحايا الظلم والتغوّل الطبقيّ.

على الرغم من ذلك، يمكن اعتبار النهاية مفتوحة، وتحتمل أوجهًا عدّة حسب ما يدركه المشاهد؛ فالفتاة رمز للأجيال القادمة الّتي تستحقّ العيش بكرامة، ويمكن أن تكون رمزًا لكون الأطفال أكثر ضحايا الظلم والتغوّل الطبقيّ.

"رجل عظيم خبيث سيكون مثالًا عظيمًا للشرّ، ورجل ثريّ غير كريم لن يكون إلّا شحّاذًا... لأنّ مالك الثروة لا يسعد بامتلاكها، لكنّه يسعد بإنفاقها، وليس بإنفاقها كما يشاء، لكن بمعرفته كيف ينفقها بشكل جيّد"، بهذه الكلمات من رواية "الفارس النبيل" ينهي المخرج الفيلم؛ في إشارة إلى أنّ السعادة ليست في امتلاك الثروة، بل في مشاركتها.

يتّضح للمشاهد في النهاية كأنّ البطل قد تطهّر من ذنوبه، في رحلته القاسية في "الحفرة"، وربّما في ثورته من أجل إحقاق العدل أيضًا، وكان المسيح المخلّص الّذي افتداهم جميعًا.

والآن، إذا ما وجدت نفسك في "الحفرة" فكيف ستتصرّف؟ وماذا سيكون طبقك المفضّل على المنصّة؟

 

 

آلاء كراجة

 

 

إعلاميّة وباحثة ومقدّمة برامج تلفزيونيّة. أنجزت دراسة حول "دلالات البطل في السينما الفلسطينيّة"، وقدّمت تدريبات في تعزيز المساواة بين الجنسين في مجال صناعة الأفلام، كما شاركت في إعداد "الدليل العمليّ للمخرجات الشابّات" مع "مؤسّسة شاشات سينما المرأة".